الاخلاق منبع العدالة في الامة الديمقراطية
يمكننا ضمان العدالة الاجتماعية بالاخلاق وليس الحقوق
تدور محاور ومناقشات مختلفة حول بعض المصطلحات كالحق والحقوق والعدالة في عالمنا الراهن، ولكن سيبقى تحقيق العدالة ضربا من الخيال الى حين لم تتغير جذريا الافكار المعتادة عليها منذ الاف السنين حول آليات ضمانها، لكن إذا ما استغرقنا في عمق مصادرها، ستنهار الحفظيات الموجودة عن ظهر قلب وسيتحول الخيال الى حقيقة. وقد جاء فكر قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” كضربة قوية لهدم جدار الحفظيات وتحديدا في مسالة تشديده الى قدرة الاخلاق على ضمان العدالة وليس الحقوق.
ان فكرة استحالة تنظيم الحياة الاجتماعية من دون الحقوق ترسخت في الاذهان بشكل لا يعطي حتى اقل فرصة للتفكير بان الحقوق يحطم ارادة المجتمع من خلال اخضاعه لهيمنة الدولة.
يُدعى بان المجتمع هو المصدر الحقيقي لجميع مصادر الحقوق لدى تدوين مجلدات عملاقة بهذا الخصوص، وهذه النظرية ما هي إلا لشرعنة المصدر لا غير. ولاجل هذا ابدع اكبر كذبة تاريخية وهي اللجوء الى الحقوق عندما لم تكتفي الاخلاق، إلا ان قوانين اونامو او حمو رابي المعروفة كاقدم القوانين الحقوقية في التاريخ تعود الى الدولة وليس المجتمع. وهذا لا يحد من صلاحيات الدولة بالعكس تضمن سلطة الدولة تجاه المجتمع.
اما نظام الدولة القومية فقد اثبت بان الحقوق عائد للدولة عبر نظامها القمعي الاستعماري الذي لا مثيل له في القرون الاربعة الاخيرة. ولم يكن لمنظرو الحقوق للدولة الراسمالية امثال “هوبز” و”كروتيوس” دورا ابعد من شرعنة الدولة القومية. حيث استولت النظرية الجديدة على كافة آليات دفاع المجتمع عن نفسه وحولت الدولة الى لوياثان. وبقدر ما وضعت هذه النظرية النصوص الحقوقية بالتفصيل فانها اسست نظاما قمعيا استعماريا ايضا.
ظهرت مشاكل اخلاقية منذ المرحلة الاولى من ظهور التصنيف الهرمي والطبقي في المجتمع، حيث كان موقف الطبقة السياسية الحاكمة تجاه هذه المشكلة هو وضع الحقوق بدل الاخلاق، إلا انه لا يمكن للحقوق ان يحل مكان الاخلاق، وبالعكس فبتراجع الاخلاق حافظ على صيرورته بقوة العنف واحكام الدولة. ان الطواعية الموجودة في الاخلاق لا يمكن رؤيته في الحقوق. بهذا المعنى، ان تماسس الدولة بالنظام الحقوقي كانت ضربة كبيرة ضد اخلاق المجتمع. كما تم فرض المصالح الجامدة كالجليد على عموم المجتمع بفضل النظام الحقوقي المستند على مفهوم القوانين المجردة من الضمير، ولم يعطي اي اعتبار لارادة المجتمع لدى لعب دوره كاداة لشرعنة الهيمنة. اما بخصوص الادعاءات القائمة على ان الحقوق يعتمد على المجتمع وسنت القوانين الحقوقية بموافقة منه ويرعى مصالحه ويلبي احتياجاته، فانها وسائل للاقناع وطريق مختار لا يخلو من المخادعة والحيلة كمثل تكوين المجتمعية رغماً عن المجتمع. وقد لقح النظام فكر المجتمع بانه لا يمكنه العيش من دون الحقوق عبر تغذيه من الوسائل الاخرى للهيمنة مع مرور الزمن.
المجتمع عاجز عن ادارة نفسه بنفسه وفق الذين يدافعون عن فكرة “لا يمكن من دون الحقوق، اما إذا توقفت المسالة على الاخلاق والضمير، فسيعمل الكل وفق اهوائه ومقاييسه وهذا سيؤدي بدوره الى فوضى عارمة”. ان المجتمع وفق هذه الفكرة يعني قطيع يجب ادارته! وبالاصل فان العقلية الدولتية لا تقبل بتاتا ادارة المجتمع نفسه بنفسه، وإذا ما قبلت به سيتهمش دور الدولة، وهذا ما يخالف سبب وجودها. تختار الدولة اللجوء الى الحقوق، لدى فتح النظام الحاكم السبيل امام فوضى عارمة عبر تمييع الاخلاق. لا يعني هذا بان المجتمع يخلق الفوضى والدولة تمثل قوة الحل، بالعكس فهي ونظامها الحاكم السبب الرئيسي للفوضى. ويُستخدم الحقوق كآداة لاستمرارية الهيمنة لا غير. ينبغي لنا ان نعلم بان الحقائق الموجودة منقلبة راسا على عقب لدى تناول نظام الحقوق في راهننا.
نظام القضاء ومبادئه في الامة الديمقراطية
وبما اننا لا يمكن ان ننكر وجود عالم دولتي في راهننا، فيجب تشخيص نوعية وكيفية علاقة المجتمع بالدولة. وباسم ذلك يمكننا القول بان الحد من حقوق الدولة يعني انهاء قمع الدولة ضد المجتمع. وبهذا المعنى يجب ضمان تراجع حقوق الدولة الى حدود عدم تشكيله عائقا امام ديمقراطية المجتمع. وبالامكان قبول الحقوق كآلية بهذا الشكل فحسب من هذه الناحية.
ان نظام الحقوق المتداخل مع الدولة كتلاحم اللحم مع الظفر، اضطر الى قبول بعض القيم الكونية المتمخضة من نضال وكفاح الشعوب. يمكن تقيم ثلاث اجيال لحقوق الانسان ضمن هذا الاطار. وبالتالي فان طلب المجتمعات من الدولة للاعتراف بحقوقها والنضال الحقوقي بهذا المعنى مشروع للغاية وحتى عدم دفاع الشعوب عن حقوقها يعتبر كمن يُأتمن الكبد للقطة. وبالتالي ظهر هنا تقرب مزدوج. فلدى تسير المجتمع اعماله الداخلية بالاخلاق، فانه عقد علاقاته مع الدولة ضمن نطاق الحقوق. اي ان صيغة الدولة + الديمقراطية كان ساري المفعول. اضطر المجتمع الى الدفاع عن نفسه منذ انشاء نظام الحضارة المركزية بهذه الصيغة، وهذه المعايير سارية المفعول الى راهننا.
مهما تكن نوعية الدولة فلتكن، فان استمرارية الكفاح ضدها من اجل الحقوق ضرورة للاعتراف بارادة المجتمع الديمقراطية. إلا انه يمكن للمجتمع ان يضمن الاليات التي بامكانها ضمان الديمقراطية والعدالة فيها عبر العقد الاجتماعي المستند على الاسس الاخلاقية وليس الحقوق. يحدد العقد الاجتماعي مبادئ الحياة الاجتماعية وياخذ هذا منبعه من الاخلاق الاجتماعية. حيث تاخذ الامة الديمقراطية التي تعتبر من اطور الاشكال الاجتماعية في راهننا من المبدا الاخلاقي اساسا لها مثل العقد الاجتماعي.
ان نظام الامة الديمقراطية الذي يتطور كبديل للدولة القومية ياخذ الحقوق اساسا فقط في علاقته مع الدولة، وياخذ الاخلاق اساسا في جميع المواضيع الاخرى المعنية بالحياة الاجتماعية. ان نوعية المجتمع الاخلاقية تاتي من قدرته على اتخاذ القرار بحق نفسه. وبالاصل فان تعريف الحرية يعني اتخاذ القرار بحق الذات وحق الاختيار. ان علاقة الحرية والاخلاق كعلاقة اللحم والظفر. وبهذا المعنى فان المجتمع يحمل النوعية السياسية ايضا. ان المجتمع الذي لايملك ارادة حق اتخاذ القرار بحق نفسه، فاما ان الدولة اعاقت تطوره وجعلته مجتمعا رجعيا او انه مسلوب الاخلاق والسياسة. ان نظام الامة الديمقراطية نظام يزيل جميع العوائق الموجودة امام خصائص المجتمع الاخلاقية والسياسية. كما ان المجتمع بالذات يطور مفهومه في القضاء ارتباطا بمبداه في الحرية.
لا توجد قوة تعلو قوة المجتمع باسمه في نظام الامة الديمقراطية، لذا فان نظام الحكم فيه يعتمد على الاخلاق. ان المبادئ التي تحدد فلسفة المحاكمة ليس النصوص الحقوقية بل القيم الاخلاقية. حيث يوجد لكل ساحة مبادئ اخلاقية كونية واقليمية خاصة بدءا من علاقات الامم فيما بينها وحتى اصغر الجماعات التي تُكون الامة. لذا فان آلية الاحكام القضائية في كل مكان لا يكون عبر المحاكم الثابتة والمحترفة بل تاخذ من تشكيل ديوان العدالة والمحاكم الشعبية اساسا وفق الحاجة.
ان تاسيس المجتمع نظام الحكم والقضاء بنفسه يعبر عن جوهر آلية العدالة. وإذا ما انضم المجتمع بالذات الى مرحلة المحاكمة فانه سيتعرف على ذاته وسيرفع من مستوى معرفته وسيتخذ قرارات عادلة. بهذا الشكل سيتحقق التطور الاجتماعي وسيزداد الوعي والمعرفة الذاتية بشكل اكثر.
وارتباطا بذلك يجب عدم اتخاذ العدالة بمستقل عن المجتمع والتاريخ كمبدا اولي لدى تناول اي حدث او جريمة، بما ان الهدف هو بناء النظام الاجتماعي وتحقيق العدالة. اي يتم محاكمة التاريخ في اللحظة والمجتمع في الفرد. بالاضافة الى ان المجتمع عضوي حي فان بنود الحقوق الثابتة للجريمة والعقاب يخالف ذلك، وبالتالي فان الاصح هو التفكير وفق العوامل الزمنية والمكانية للمتغيرات الاجتماعية واتخاذ القرارات وفق ذلك.
ان مفهوم العدالة الاجتماعية لا ينكر حقوق الفرد اثناء الدفاع عن المجتمع، ولا يحاكم الفرد بمستقل عن المجتمع.
وضمن اطار هذا الهدف، يجب ان يكون هدف المحاكمة هو تحقيق العدالة وجعل المجرم والمذنب ان يندم على ما ارتكبه من جرائم وذنوب، الى جانب التربية والتعليم وتحويل نتائجها الى وعي وتجربة اجتماعية.
لا يملك اي نظام حقوقي طابع بجميع هذه الخصائص لو تطلعنا بنظرة شاملة. مثلا، يمكن لنظام العدالة الاجتماعية ان يعيق حوادث السرقة والسطو التي لا يمكن للشرطة اعاقته. كذلك يمكن للسارق الذي يعاند الدولة وحقوقها ان يستسلم امام اخلاق المجتمع. ومثلما لا يعطي الاخلاق فرصة للسرقة فبمكانه ان يقضي على جميع الاسباب المؤدية اليه ايضا. لمبدا الاخلاق قوة حل اساسية في جميع ميادين الحياة الاجتماعية كما هو موجود في هذا المثال.
من الاهمية البالغة ضمان اعادة تماسس الاخلاق بدل الحقوق في المجتمع. وبهذه الطريقة وحدها يمكن للمجتمع ان يلبي جميع احتياجاته عبر تنظيم نفسه من دون الحاجة الى الدولة وجعل نظام الحقوق ان يرعى الديمقراطية عن طريق التنظيم الاجتماعي وتحقيق العدالة والارادة الاجتماعية.