ملف: الأمة الديمقراطية

الامة الديمقراطية هوية الشرق الاوسط التحررية الشعبية الديمقراطية

جيهان ارن

جيهان ارن

المجتمع بنية ثقافية حية غنية متنوعة، ويأتي هذا التشخيص من احدى اهم التشخيصات التي تطرق اليها قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” في مرافعاته بشمولية. وقد عرف في خضم هذا التشخيص الامة الديمقراطية كنمط اجتماعي من بعد اضافة معانِ جديدة اليها، وانها تعبر عن كافة المكونات الاجتماعية الخارجة عن الدولة من بعد تناوله كمصطلح هام واساسي ضمن سياق تطور المجتمع.

من المعلوم ان المجتمع قد مر بمراحل عديدة من التغيير والتحول تاريخيا، حيث بدأ بالكلان والقبيلة واستمر بالعشيرة ومن ثم الشعوب والامم كما هو الحال في راهننا. ان اتخاذ المجتمع شكلا جديدا مع كل عملية تغيير واضافة قيم جديدة وخاصة الاخلاقية منها حسب حاجته، يعني ترك ما فات عليه الدهر جانبا. ولكن هذا لا يعني بان كل تجديد حصل عليه المجتمع مع شكله الجديد نابع من العدم، إلا ان لكل مرحلة غناها الثقافي اضافتها الى الحياة حسب الزمان والمكان. وهذا هو الدليل الملموس على ان المجتمعية بنية حية. المجتمعية، ظاهرة تعطي الاستمرارية للحياة. وما تشبيه قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” التاريخ كـ “جريان النهر” إلا اشارة قوية على استمرارية الحياة الاجتماعية الممتدة الى الملايين من الاعوام. والامة الديمقراطية شكل اجتماعي متخذ من هذه الصيرورة في راهننا.

لقد طور المجتمع حياة مشتركة في كل مرحلة بفضل الوحدة المعنوية التي ضمنت اللغة والتاريخ والقيم الثقافية المتشابهة الاخرى. عرفت الحياة الاجتماعية نفسها بشكل ما وفق ذهنية كل مرحلة والتي يمكننا تسميتها بـ “التنظيم الاجتماعي” ايضا. فعلى سبيل المثال كانت الامة هي الشكل الاساس للحياة الاجتماعية كهوية في المراحل التي حكمها الدين ايديولوجيا وسياسيا، اما القومية فكانت الشكل الذي اتخذه التطور الاجتماعي من الحداثة الراسمالية، والدولة القومية هي المؤسسة السياسية لهذه الهوية التي خلقت ايديولوجية القوموية في مرحلة السلطة الراسمالية. وبذلك يمكننا القول بان القومية التي سممتها الحضارة الراسمالية بالنزعة القومية اسست الدولة القومية.

تعد القوموية شكل مجتمع النظام الراسمالي الذي تسبب في وقوع ابادات ومجازر جماعية، لانها عرفت القومية كبنية احادية النمط بايديولجيتها القوموية. ادت النزعة العنصرية القوموية الى وقوع حروب شرسة تشرد وقُتل فيها الملايين من البشر، الى جانب زوال العديد من الهويات الثقافية. تعرف الشرق الاوسط عمليا على هذه النتائج التي اكدت باستحالة احتواء شكل التحول القومي الاحادي النمط على تعددية وغنى الحياة الاجتماعية كشكل وكبنية ثقافية مثلما فعلته اصحاب الدولة القومية، وكما تاكد بان فرض مثل هذه المفاهيم تجعل الحياة الاجتماعية فقيرة لا ديمقراطية.

لا تتشكل الامة من بنية احادية النمط إذا تناولنا المجتمع وفق وجهة نظر قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان”. وإذا ما عرفنا الامة الديمقراطية ضمن هذا المحور؛ بنية اجتماعية تحتوي على كافة الغنى المتغير وفق الزمان والمكان وتجري كالنهر على مر الملايين من الاعوام. يحتوي هذا التعريف على كل حسن وصائب وجميل في كل ما يتعلق بالحياة والمستقبل. وقد ظهرت الفروقات البارزة وما شابهها ما بين النتائج التي خلقتها القوموية بالدولة القومية التي حاصرت القومية ضمن حدودها وبين الامة الديمقراطية.

تعتمد الامة الديمقراطية على تعددية اللغات والقيم الثقافية والتاريخية، وبتعبير اخر يعني ممارسة كافة القيم الهوياتية التي تساهم في تكوين الهوية الاجتماعية كحق طبيعي. وهذا يعني بان وحدة واخوة وتعاون الشعوب هي الثقافة الاساسية في الحياة. الامة الديمقراطية تعني تعبير كل لغة وثقافة عن نفسها بحرية، لذا فانها هوية تعبير الشعوب عن غناها الثقافي.

 

 الامة الديمقراطية امة كومينالية لانها ليست بدولة قومية ولا يمكن بناء الدولة على اسسها

 

، وبامكان اي شعب ان يحي قيمه الكومينالية بهويته الثقافية المتكونة عبر التاريخ والى راهننا ضمن حقيقتها بقدر ما يستحق، وهذا يدل بانها امة مسالمة لا يمكن لاحد انكار اي معتقد او هوية اجتماعية اخرى. الى جانب ذلك فان الامة الديمقراطية تؤمن فرص انضمام جميع الشرائح والمجموعات المتمخضة عن تقسيمات العمل الاجتماعي التي تعتمد على نهج الانتاج الاجتماعي انضماما حرا الى الحياة عبر التنظيم بهويتها الذاتية، الى جانب تطوير الفكر واللغة والدين والثقافة التي تؤدي الى الغنى الاجتماعي. وبتعبير اصح فان الامة الديمقراطية نمط ديمومة المجتمع بحرية.

اما الخاصية الهامة الاخرى التي تميز الامة الديمقراطية عن القومية الدولتية فهي عدم اتخاذ الهوية الاثنية اساسا فحسب، مثلا، لا نقصد الشعب الكردي فحسب عندما نقول الامة الكردستانية الديمقراطية، لان هناك شعوب متعددة تعيش على ارضها، وبالتالي ان استخدام الامة الكردستانية الديمقراطية بدل الامة الكردية من مستوجبات مفهوم الامة الديمقراطية. كذلك ان تاريخ الاشوريين في العراق وسوريا على هذه الارض قديم قدم تاريخ الشعب العربي على الاقل. بايجاز،

 

الامة الديمقراطية عنوان مشترك لجميع الهويات المختلفة التي تعيش على ارض مشتركة.

           ” أما الأمةُ الديمقراطية، فهي المجتمعُ المشتركُ الذي يُكَوِّنُه الأفرادُ الأحرارُ والمجموعاتُ الحرةُ بإرادتِهم الذاتية. والقوةُ اللاحمةُ والمُوَحِّدةُ في الأمةِ الديمقراطية، هي الإرادةُ الحرةُ لأفرادِ ومجموعاتِ المجتمعِ الذي قرَّرَ الانتماءَ إلى نفسِ الأمة. بينما المفهومُ الذي يربطُ بين الأمةِ والاشتراكِ في اللغةِ والثقافةِ والسوقِ والتاريخِ، فهو يُعَرِّفُ أمةَ الدولة، والتي لا يُمكنُ تعميمُها، أي طرحُها كمفهومٍ وحيدٍ ومطلقٍ للأمة. ومفهومُ الأمةِ هذا، والذي يتبنى الاشتراكيةَ المشيدة؛ هو مضادٌّ للأمةِ الديمقراطية. ونخصُّ بالذِّكرِ أنّ هذا التعريفَ الذي صاغَه ستالين وطبَّقَه على روسيا السوفييتية، هو أحدُ أهمِّ الأسبابِ الكامنةِ وراء انهيارِ الاتحادِ السوفييتيّ. وإذ ما لَم يتحققْ تخطي تعريفَ الأمةِ هذا الذي صبغَته الحداثةُ الرأسماليةُ بالمطلقية، فإنّ حلَّ القضايا الوطنيةِ سيَلِجُ مأزقاً لا مخرجَ منه بكلِّ ما للكلمةِ من معان. وكونُ القضايا الوطنيةِ لا تنفكُّ مستمرةً حتى الآن وبكلِّ وطأتِها طيلةَ سياقٍ يمتدُّ لأكثر من ثلاثةِ قرونٍ بأكملِها، إنما هو على علاقةٍ كثيبةٍ بهذا التعريفِ الناقصِ والمطلق”. عبدالله اوجلان

              

الغنى الثقافي يكمن وراء  معايير الامة الديمقراطية. الامة الديمقراطية تنظيم لحماية المجتمع نفسه في مواجهة السلطة والدولة. باختصار، ان الشرق الاوسط هو المكان الديناميكي لمكونات الامة الديمقراطية لو عرَفناها بهذه الخصائص. ستكون الامة الديمقراطية حياتية بقدر وجود اللغات، الاديان، المذاهب، الطرائق، الثقافات والبنى الاثنية. لذا فان النسيج الثقافي الغني في منطقتنا دليل على وجود الامة الديمقراطية وغنى لا يمكن بناء الديمقراطية من دونه ، لكن التعددية الثقافية استخدمت كآداة للنزاع في الجبهات الحربية الدموية من بدل نموها في حديقة السلام والاخوة، بسبب سياسة الدولة القومية، والنزعة القوموية هي التي شجعت الكل على تاسيس دولتهم ورسم حدودها. ان تعريف الهوية الاجتماعية للامة الديمقراطية هي القادرة على ايقاف سلسلة الاعيب الدولة القومية الدموية.

 تشير كافة المعطيات بان الشرق الاوسط منطقة من اكثر المناطق انفتاحا للامة الديمقراطية، وله اسبابه العديدة. وإذا ما عددنا البعض من خصائصها: كانت مجتمعات الشرق الاوسط الطليعة في صنع وتطوير المكونات الديمقراطية باستمرار في تاريخها، وان وجود العشرات من الهويات الاثنية المختلفة والاديان واللغات والمذاهب من اهم المعطيات في منطقتنا. كانت البنى الاثنية المختلفة والاديان والمذاهب تعيش ضمن علاقات اخوية متبادلة في الشرق الاوسط الى حين بناء الامبرياليين الغرب حاكمية القوموية وتاسيس الدول القومية، وعاشت شعوب هذه المنطقة بسلام الى درجة معينة رغم قمع وتوجيه الدول العنصرية القومية الفاشية التي كانت تدار من قبل الطبقات الحاكمة والديكتاتوريين، فنحن نعلم بانه لولا استفزازات الدول التي فتحت الطريق امام حوادث فردية في مدن مثل كركوك وحلب وامد وبيروت في الشرق الاوسط لكانت المساواة والاخوة هو النهج الحاكم في حياة الاكراد والعرب والاشوريين والارمن والاتراك والاخرين الذين يعيشون مع بعضهم البعض. لذا فكانت الصداقة والجيرة والاحترام المتبادل هي نوع علاقات شعوب الشرق الاوسط، وكثيرا ما صادفنا وجود دير وكنيسة وجامع في نفس المنطقة.

بدات بنية ثقافة الشرق الاوسط تتسمم من بعد تسلل الهيمنة الراسمالية اليها في القرن التاسع عشر، واستمر هذا التسمم على شكل حروب دموية في قرن العشرين. اليوم ايضا، دُفعت منطقتنا الى لعبة دموية من جديد بالنتائج التي تمخضتها هذه السياسة. ان تطور هيمنة الدولة القومية وتعظيم سيادتها بالقضاء على الثقافات الغنية المختلفة التي كانت تعيش مع بعضها البعض بديمقراطية، فتحت السبيل امام القضايا الرئيسية في راهننا. رمى النظام بجرائمه على عاتق المجتمع، هذا النظام الذي فتح الطريق امام قضايا كبيرة عبر تفسخ بنية الشرق الاوسط الديمقراطية في قرني التاسع عشر والعشرين واتهم ثقافتها حتى يفرض هيمنته على المنطقة ويستولي عليها من جديد.

 

القوموية والدولة القومية هما مصدر المشاكل وليست البنية الثقافية الغنية للشرق الاوسط

 

. المهم هنا هو النجاح في النظر الى مجتمعنا بثقافة الاخوة والوحدة التي كانت موجودة فيها منذ الاف الاعوام، وليس بالفكر والبنية الثقافية التي يتخذها المستعمرين والمهيمنين والدول اساسا لهم. لذا فان قراءة الشرق الاوسط بذهنية الامة الديمقراطية اليوم وادراكه سيفتح السبيل امام انبعاث ديمقراطي هام في راهننا.

ان مفهوم الامة الديمقراطية يفرض الديمقراطية كنظاما سياسيا. بتعبير اصح، الديمقراطية نمط حياة الامم الديمقراطية. ومثلما قومية الدولة لا تعني الامة الديمقراطية، فان الديمقراطية التي تنادي بها الدول والحكومات اليوم لا تحتوي على نفس المضمون ايضا. والمثال المذهل على ذلك هو البنية السياسية التي ظهرت في كل من افغانستان والعراق من بعد انهيار النظام في هاتين الدولتين والى الان، وكذلك ما يعيشه الشرق الاوسط في العامين الاخيرين. وقد تبين ما تقصده القوى الراسمالية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية بديماغوجيتها “سناتي بالديمقراطية للشرق الاوسط” عبر قتل الالاف من الابرياء والتشجيع على النزاع الداخلي في منطقتنا. اما المثل الحقيقي في الديمقراطية التي لا يمكن للامة الديمقراطية من دونها فقد بدات تحيا في غرب كردستان منذ ما يقارب عامين. ان سياسة اكراد غرب كردستان تستند على مشروع “الشرق الاوسط الديمقراطي” لقائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان”، وتقدم نوع العلاقات الديمقراطية التي يسعون الى تطويرها بين صفوف الشعب السوري نموذجا يتوجب اتخاذها جميع الاوسطيين مثلا لهم. لكن ومع الاسف يبدو بان هناك الكثير ممن يسعون الى تحقيق مشروع الشرق الاوسط الكبير الامبريالي الذي يعتمد على ايديولوجية الاستشراق بدل مشروع الشرق الاوسط الديمقراطي، بالرغم من

 

ان نظام المجتمع الديمقراطي الذي يُنشأ في غرب كردستان وسوريا من اكثر المشاريع السياسية والاجتماعية قوة لحل جميع قضايا الشرق الاوسط

 

 

. ان ديمقراطية البنى الاجتماعية التي يطورها اكراد غرب كردستان بالاستناد على فكر قائدهم “عبدالله اوجلان” والضاربة في المثل اتخذت اساسها من براديغما الامة الديمقراطية. وبالتالي فعلى كل من يرغب استوعاب الامة الديمقراطية ونظامه الديمقراطي الذي لا يمكن الاستغناء عنه عمليا، بمكانه النظر الى غرب كردستان. ولو لاحظنا، سنرى بان الذين تصدوا بشدة للنظام الاجتماعي هذا هي القوى الشرق الاوسطية اللاديمقراطية المتغذية على قوة الولايات المتحدة الامريكية.

   من دون النظر الى الشرق الاوسط بنظرة الامة الديمقراطية وحل القضايا على اسس الديمقراطية الشعبية، لا يمكن تحقيق ديمقراطية جذرية حقيقية. وبالاصل ما مر به الشرق الاوسط وخاصة في العامين الاخيرين وضح ذلك بكل شفافية ولا يمكن لاحد غض النظر عنه، لانه إما سيكون اعمى او عديم الضمير. ان القضايا الاجتماعية والسياسية في الشرق الاوسط قضايا تمتد الى خمسة الاف عام على  الاقل.

وان جاز التعبير، فان القضايا التي ظهرت الى حين مرحلة استيلاء النظام الراسمالي على الشرق الاوسط قضايا نابعة من الشرق الاوسط نفسه، إلا انه ومع النظام الراسمالي بدا الغرب باضافة قضايا ومشاكل اخرى. وكون هدف هذه القضايا الاستيلاء على منطقتنا وتحويلها الى مستعمرة، فتحت السبيل امام سلسة مشاكل معقدة اخرى. وهذا بدوره ما زاد في الطين بلة. وما نعانيه اليوم من آلام وتراجيديا فهو بسبب تقرب النظام الراسمالي هذا. هناك البعض من المسلمين العرب يقتلون اولادهم بيدهم ولكنهم يتظاهرون بالافتخار بالدين الاسلامي والنبي “محمد” ص لانه حرم وأد البنات. ان هذه الذهنية مشحونة بالنزعة الاستشراقية. اما التناقض الاخر الشبيه بهذا، فنراه يوميا في الاحداث السياسية. مثلا، قالوا عن ليبيا ومصر وسوريا بانها دول لا ديمقراطية وديكتاتورية واستهدفوهم، ولكن لم يتعرضوا للسعودية والقطر بالرغم من انهما دول تعتمد على نظام الخلافة والعائلة. تمارس الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الراغبين في انهيار الدول والانظمة سياسة الانكار والقمع ضد شعوب المنطقة بمساندة عملائها وبالاتفاق مع المطالبين بطلبات مشابهة عندما تتظاهر بحقانية العصيانات الشعبية. بايجاز،

 

انقاذ الشام او القاهرة قبل مكة مفهوم استشراقي وفق الشريعة الاسلامية ايضا

 

 

. يمكننا ان نرى شبيه هذا الانحراف في المواقف الموجودة ضد نضال تحرر الشعب الكردي ايضا. مثلا، لا مثيل لسياسة الانكار والقمع التركية التي تمارسها الدولة التركية ضد الشعب الكردي، حيث منعته من حق التعليم بلغته الام الذي يعتبر حق طبيعي قبلته وجدان الانسانية مثلما قبلت الشرائع الدينية، وحتى انه لم يعد بمكان كردي التحدث بلغته الكردية الى جانب العنصريين من الاتراك، بسبب العداوة الكردية التي رسختها في فكر وعاطفة المجتمع التركي، إلا انها تُفرض على الشرق الاوسط كبلد نموذجي يجب على الكل قبولها بهذا الشكل، وهناك البعض من الجماعات الاسلامية تؤمن بذلك. هناك الاف المعتقلين الكرد في السجون التركية من برلمانيين ورؤساء بلديات واداريين محليين وسياسيين وصحفيين واطفال لانهم مجرد منتمين الى القومية الكردية، ولكن حكومة العدالة والتنمية مدعومة لانها تعمل لصالح الغربيين. إلا انه لم يفعل اي نظام من الانظمة المنهارة والمتوجب انهيارها بالشعوب الموجودة تحت هيمنتها مثلما فعلته الدولة التركية بالشعب الكردي. انطلاقا من ذلك لا يمكن لاية حكومة من الحكومات المتكونة الجديدة وعلى راسها تونس وليبيا بمفهومها السياسي ان تلبي مطالب شعوب الشرق الاوسط الديمقراطية.

تنبع قضايا الشرق الاوسط الديمقراطية من وجود انظمة الدول القومية وعدم تناولها بمفهوم الامة الديمقراطية الشعبية الغنية. لذا فمن الاهمية تناول الشرق الاوسط بالثقافة الاجتماعية الغنية، وإلا فلا يمكن تحقيق اية خطوة ديمقراطية عبر ابتعاد عشيرة او عائلة عن دفة الحكم ووضع الجدد بدلا عنهم. ان العوائل والسلالات التي ترأست الحكم في منطقتنا بمساندة خارجية كانت جراثيم الهيمنة الراسمالية سابقا، وبالذات من النوع الجرثومي المميت الذي يقضي على المناعة البدنية ويتسبب في موت الخلايا الحية، اما اليوم فقد اعطي نفس الدور والفاعلية للشخصيات والاحزاب السائرة على نهج الاسلام السياسي المعتدل، وحزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب اردوغان من بين الامثلة المذهلة على ذلك. في الاصل، نُفخ عملاء الغرب في قرن العشرين بالنزعة العنصرية القومية، ونفس العملاء اليوم يستخدمون الدين الى جانب هذه النزعة، وهذا بالضبط ما تفعله تركيا بقيادة اردوغان، وقد ظهر ذلك بارزا اثناء دعوة زعيم حركة حماس خالد مشعل الى تركيا، حيث ذكر الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية ومساعد الوزير عبد اللطيف شنر قبل استقالته وعلنا على شاشة القناة التلفزيونية التركية CNN بان دعوة خالد مشعل الى تركيا كان على اثر طلب اسرائيل، ولكن حتى يتظاهر حزب العدالة والتنمية الاردوغاني وكأنه يتحداها امام الشاشة، اما خلف الشاشة فكانت المسالة متفقة عليها من جانب الطرفين. نستخلص من ذلك بان الهويات الثقافية للشعوب تباع بالقوموية ومعنوياته بالدين الى الامبرياليين الغرب عبر الاحزاب المتواطئة العميلة مثل حزب العدالة والتنمية التركي لاهداف سياسية ودبلوماسية. وابعد من ذلك فان جميع المثقفين والمفكرين والكتاب والفنانين وعلى راسهم الديمقراطيين والوطنيين الشرق الاوسطيين مكلفين بالتصدي وافشال هذه الالاعيب.

  ان ثقافة منطقتنا التاريخية قادرة على حل قضايانا ليس في الميدان الفكري فحسب بل في الميدان الديمقراطي ايضا. لذا فعلى الشرق الاوسط ان يتعلم من نفسه اولا، ويرجع الى ذاته، وعلينا ان نعلم قبل الاحتجاج على فيلم امريكي بان الكثير من الشركات التي تُخرجها تعمل على حساب مال السلالات العربية العميلة حتى وان كان غير مباشراً. كما علينا ان لاننسى بان الذين يهاجمون قيمنا المعنوية يعتمدون على العملاء والمتواطئين في المنطقة. لا يمكن الحد لمثل هذه الهجمات من دون التعرف على ان القوى الاقليمية التي تؤمن بسلاح وجنود الولايات المتحدة الامريكية والغربيين ضد الشعب العربي عائق اساسي امام الديمقراطية ومن الضرورة القصوى تخطي هذا العائق مهما كان. لو تناولنا التطورات في الشرق الاوسط وفق المعطيات النظرية والعملية اليومية، فان السبيل الوحيد للخلاص من الفوضى العارمة والازمة والانتحار هو النضال بتوجيه الامة الديمقراطية لانشاء ديمقراطية الشعب.

من المفيد الاشارة الى عدة نقاط هامة بشان الامة الديمقراطية قبل ان ننهي موضوعنا، كون هذا المصطلح جديد من حيث المضمون على الاقل. لذا فان استوعابه ضروري من حيث الدور الذي سيلعبه مستقبلا. الامة الديمقراطية باتت حقيقة ملموسة رغم جميع القضايا النابعة من تحريف الحياة الاجتماعية بثقافة السلطة والقوموية التي هي من اكثرها تسمما. ان وجود الهويات الاجتماعية الثقافية المختلفة “اللغة، الاديان، الثقافات، العشائر” وماشابه ذلك في الكثير من انحاء العالم وعلى راسه الشرق الاوسط تحديا لهجمات النظام الراسمالي في بناء مجتمع نمطي عبر ممارسة الابادة الثقافية وخاصة في القرون الاربعة الاخيرة، دليل اكبر على وجود حقيقة الامة الديمقراطية. ادى تسميم الراسمالية القومية بالنزعة العنصرية الشوفينية الى ظهور نزاعات وخلافات بين مكونات الامة الديمقراطية وهذا بدوره  فتح السبيل لحروب دموية دفعت الشعوب ثمنها باهظا. حيث استهدفت الراسمالية بناء حكم الدولة القومية عبر ثقافة القومية الواحدة، اللغة الواحدة، الدين الواحد، العشيرة الواحدة بدل الامة الديمقراطية. ان استخدام الغنى الثقافي الذي شكل الامة على مر الالاف من الاعوام في خدمة السلطة والدولة وزرع الفتن والخلافات في بنية هذه الثقافة الغنية المختلفة، ادى الى نزاع داخلي عبر ترسيخ علاقات السلطة  والتحكم وبالتالي الى الفقر والبؤس والحرمان في الحياة، و

 

الفقر بمعناه الحقيقي يعني اللاديمقراطية

 

. ان عدم انشاء نظاما ديمقراطيا في الشرق الاوسط الذي يمتلك ارضية خصبة وقوية لانشائه ووجود انظمة قبيحة ومزيفة وديكتاتورية بدلا عنه، جعله يعاني من الحرمان والفقر بالرغم من غناه. فالشرق الاسط ليس مكان غني بالثروات الباطنية كالبترول فحسب، بل صاحب ثروة ثقافية غنية ايضا، إلا ان الامبريالية الغربية والعملاء الاقليميين يسعون الى ابادة جميع مصادر الحياة الديمقراطية كما يستخدمون البترول وذلك عبر النزعة العنصرية القوموية والدينوية حتى يتركوا الملايين من البشر عرضة للفقر والحرمان.

 ينبغي ان نعلم بان الدولة القومية هي السبب في النزاعات والخلافات الموجودة رغم وجود مكونات الامة الديمقراطية في الحياة الاجتماعية وعناصرها الغنية التي تعبر عن النمط الاجتماعي، والشرق الاوسط من اكثر المناطق التي تعاني من هذه القضية في راهننا. ان سبب القضايا التي تعاني منها العالم وخاصة الشرق الاوسط في القرون الاخيرة هو اعاقة ترسيخ الامة الديمقراطية الغنية.

لم يعد هناك مفر من انبعاث الحياة الاجتماعية العضوية الحية بروحها وعاطفتها وفكرها “الحسن، الصائب، الحر والجميل”، ومن الضروري بذل الجهود في سبيل تخطي الدولة القومية المعادية لغنى الحياة والقضاء على القوموية والدينوية وذلك عبر انشاء الامة الديمقراطية. ان انشاء الامة الديمقراطية يعني تعبير جميع التعدديات والهويات الاجتماعية المختلفة عن نفسها بحرية الى جانب تاسيس المنظمات التي تساهم في تطويرها. يجب ان ينضم كل بنية اثنية وجماعة دينية وجميع الطبقات الاجتماعية وخاصة النساء بهوياتهم الى الحياة الاجتماعية ويكون اصحاب دور رئيسي وفعال فيها، الى جانب ذلك يجب ان تُستخدم كافة القيم المادية والمعنوية للمجتمع بالتساوي وان توزع بالتساوي وعن طواعية، وان يكون هناك تبادل وبرضى الجميع. ان المجتمع الديمقراطي هو المجتمع القادر على الدفاع عن نفسه، ولا يهاجم الغير. عرف قائد الشعب الكردي “عبدالله اوجلان” الامة الديمقراطية في مرافعته الاخيرة وتحدث عن عشرة خصائص مختلفة. ان هذه التشخصيات تستند على معطيات ملموسة للغاية وتقدم حلول راديكالية للقضايا اليومية، لذا فبامكان منطقتنا ان تتخلص من ذنوبها عبر هذه التشخيصات، والامة الديمقراطية هي الشكل الاجتماعي الوحيد الذي يمتلك هذه المهارة في عصرنا.     

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى