أمريكا، روسيا والصراعُ على النفوذ في سوريا
حسين عمر
حسين عمر
حسمَ الرئيسُ الأمريكي الجدلَ حول الانسحاب من سوريا، وقرر أن لا انسحابَ كامل الآن وحتى إشعار آخر، وذلك بعد عدة أشهر من النقاشات والحوارات والتكهنات حول مصير المنطقة والدور الأمريكي والتهديدات التركية المتتالية باجتياح المنطقة، والخيارات المتاحة للإدارة الذاتية المعلنة في شمال شرقي سوريا. لكن الملفت في الأمر أن قرارَ الانسحاب جاء بعد مكالمة هاتفية مع أردوغان، وكذلك قرار البقاء أُعلن بعد أن نشرت وكالة أناضول التركية بأن ترامب وأردوغان بحثا سبل الانسحاب والترتيبات المستقبلية للمنطقة الآمنة المحتملة كما ادّعت.
ولهذا الأمر دلالاتٌ عدة أهمها أن ترامب يرى بأن تركيا جزءٌ مهمّ من منطقة نفوذ أمريكا ولها تاثير على المنطقة وتأثير في ضعف أو تقوية ذلك النفوذ، على الرغم من أن تركيا متأرجحة بين النفوذ الروسي المتنامي والأمريكي الذي يعاني من وضوح في الرؤية والهدف.
لقد كانت المقتلةُ السورية أحدَ الوسائل المهمة التي أيقظت الحربَ الباردة من سباتها بين القطب الغربي والقطب الشرقي الذي بقي فترة دون حراك كما ذكرنا.
لقد كان الانخراطُ في الحرب الدائرة على الساحة السورية إحدى أصعب الخيارات التي اتخذتها إدارةُ أوباما بعد الانتكاسات المتعدة من الدخول في الصراعات الداخلية في دول مختلفة، ولم يكن من السهولة بسبب ذلك أخذ قرار المشاركة العسكرية المباشرة في حربٍ لا أحد يستطيع تقدير خواتمها، كما أن المنخرطين فيها مجموعةٌ من الناس ملكتهم أحقادهم المذهبية والطائفية والسياسية للانقضاض على البعض وتدمير كلّ ما يتم لهذا الطرف أو ذاك.
لم يبالِ الروسُ بالتدخل الفعلي على الرغم من وجود قاعدة حربية لها في طرطوس، ولم تبدِ أيَّ موقفٍ واضح إلى جانب النظام في الأعوام الأولى من المقتلة، كما أن الأمريكان تحركوا عن طريق دائرة الاستخبارات بالتعاون والتنسيق مع الاستخبارات التركية والسعودية والقطرية والأردنية, أسسوا غرفتين إحداهما في عمّان والأخرى في عينتاب للإشراف على تدريب وتسليح المقاتلين الذين يرغبون بالانخراط في الحرب الدائرة.
كانت روسيا حتى ذلك الحين متفرجة تحاول لملمةَ اقتصادها المثقل بالديون الخارجية وحلّ مشاكلها مع جورجيا وأوكرانيا المدعومتين من الغرب.
مع هجوم التنظيم الإرهابي داعش على منطقة كوباني واحتلالها لأحياء من المدينة بعد مقاومة بطولية لوحدات حماية الشعب والمرأة التي قامت بالأسلحة الفردية الهجوم الداعشي المعزز بمختلف أنواع الأسلحة التي استولت عليها من ثكنات النظام السوري والعراقي، وبالرغم من ذلك استطاعت مجموعة قليلة من المقاومين الذين تصدوا للدواعش أن يستميتوا في الحفاظ على جزءٍ من المدينة وأن يكبدوا الإرهابيين خسائرَ كبيرة، مما حدى بأمريكا التي قررت مساعدة المقاومين جواً، وبهذا دخلت الولاياتُ المتحدة بعد أكثر من شهرين من المقاومة البطولية بشكل فعلي في الازمة السورية، وحتى حينها كانت روسيا تحاول النأي بالنفس بالرغم من التصريحات التي بدأت تظهر للعلن عن الدعم الروسي للنظام في دمشق.
وفي هذه الجزئية يجب التذكير بأن الأمريكيين لم يكونوا ضد التدخل الروسي المباشر وذلك للتقليل من النفوذ الإيراني المتصاعد من خلال الميلشيات التابعة لها، وكذلك مقاتلي حزب الله الذين ساندوا النظام، ولولاهم لسقط النظامُ قبل التدخل الروسي المباشر الذي بدأ بالمساندة الجوية الخجولة والتي لم تمنع تقدّم المجموعات المسلحة من التقدم لاحتلال مناطق أخرى حتى تم محاصرة النظام داخل دمشق، وهذا ما دفع الروس إلى إدخال الجيش الروسي والبدء بمعارك مع الجيش السوري والمليشيات الإيرانية لحماية دمشق، وكذلك مدن الساحل التي بقيت بيد النظام بسبب عدم وجود بيئة مساعدة للتنظيمات الإسلامية الراديكالية فيها .
انخرطت أكبرُ قوتين نوويتين في العالم في صراعٍ داخلي تحوّل إلى صراع إقليمي ودولي ، من جهة الدول الإقليمية الداعمة للمجموعات الراديكالية كداعش وجبهة النصرة والكتائب التابعة للإخوان المسلمين، لواء التوحيد وغيرهم من المجاميع المسلحة التي تؤتمر بأوامر تركية قطرية، يدعمهم الغرب بشكل الآخر، وفي الطرف المقابل النظام الذي وصل الى حافة الهاوية لولا التدخل الروسي والاستدارة التركية التي حصلت مع إسقاطها للطائرة الروسية والتي نتجت عنها عقوبات اقتصادية ودبلوماسية روسية، مما دفع أردوغان للاعتذار ومن ثم وضع أولى خطوات التفاهم مع روسيا في سوريا على طاولة الحوار.
أدركت روسيا بأن الهدفَ التركي هو منعُ الشعب الكردي من استرداد حقوقه في سوريا، كما أن القيادة الروسية استنتجت بأن اردوغان الاستعراضي يريد أن يُظهرَ للعالم الإسلامي الذي يكره أمريكا والغرب بأنه بطلُ هذا الزمان والمدافع الصلب عن قيمهم التي تتناقض مع قيم الغرب العلمانية.
استطاعت القيادةُ الروسية الاستفادةَ من ذلك وعقدت معه عدة صفقات اقتصادية ومن ثم تحالفت معه في سبيل المساعدة في إخراج المجاميع المسلحة المرتبطة باستخباراته من مناطق عديدة بسوريا، وبهذا حققت روسيا انتصاراتٍ كبيرة بفضل مساعدة ( السلطان ) وزعيم إخوان المسلمين والقائد العام لثورجية سوريا.
وبفضله تغيرت المعادلة على الأرض السورية وتبدلت معها الاستراتيجية الروسية بخصوص التعامل مع الملف السوري، وزاد النفوذ الروسي بعد أن كان عاملاً مساعداً للنفوذ الإيراني، بل أمسكت موسكو بكافة الملفات العسكرية والسياسية والإدارية وجعلت من النظام جهة تنفيذية لا حول له، وفي المقابل انخرطت أمريكا أكثر فأكثر بعد تحرير منبج وزاد من تواجها عدة وعتاد في روزافا وشمال شرقي سوريا وتفاعلت مع الواقع الجديد والحليف المقاوم والنشيط الذي يقاتل الإرهاب عن قناعة ودراية تامة بخطورة توسع رقعته بعد صدمتها من المجموعات التي سلحتها ودربتها مع المخابرات التركية والقطرية، تلك المجموعات التي كانت تنضم لداعش أو جبهة النصرة أو مجموعة إرهابية أخرى مرتبطة بتركيا، وهي كانت تدرب وتسلح لأجل مقاتلة تلك المجاميع ولهذا تغيرت الوجهة الأمريكية بعد المقاومة الأسطورية في كوباني والتعاون مع وحدات حماية الشعب التي أثبتت كما ذكرنا بأن أجندتها الوحيدة هي مكافحة الإرهاب وإفنائه والحفاظ على أمن واستقرار المناطق المحررة .
وبهذا الصدد من الصعب المقارنة بين النفوذ الأمريكي والروسي في سوريا، لأن لكل منهما حلفاؤهم الذين حققت بواسطتهم ما كانت تعجز عنه قبل ذلك، روسيا تملك السيطرة على زمام الأمور في سوريا المفيدة كما يسمونها، وأمريكا لها تواجدٌ فعلي ومؤثر في البادية السورية وشمال شرقي سوريا.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 تفتّتت قوتها الاقتصادية والعسكرية وامتلكت روسيا الاتحادية الدولة المركزية داخل الاتحاد السابق اقتصاداً مدمراً بعد أن سطت القوى والتكتلات ذات النفوذ على التركة المترهلة أصلاً، وأصبحت روسيا الاتحاد دولة مدينة للبنوك الدولية المختلفة والعديد من المؤسسات العالمية الأخرى، وطفا بريقُ قوتها العسكرية التي كانت تنافس الولايات المتحدة وحلف الناتو وتسيدت أمريكا العالم وانتهت الحرب الباردة التي كانت تجري بين القطبين في التنافس على مناطق النفوذ وتقوقعت روسيا الاتحادية لتبدأ بدمل جراحها، وخاصة أن القوى الغربية فجّرت في الشيشان حرباً ضروس ضد روسيا المثخنة بالمشاكل، واستطاعت أن تلفّ الخيوط حولها من خلال إنشاء قواعدَ عسكرية أو اقتصادية في الدول السوفيتية السابقة والتي تعتبرها روسيا مجالها الإقليمي الحيوي, كما خلقت لها مشاكل مع جورجيا وأوكرانيا، ولكنها استطاعت أن تستمر في تجميع اشلائها وتأسيس بنية اقتصادية معتمدة على البترول والغاز وبيع الأسلحة، وحققت إنجازات في مدة مقبولة بعد استلام بوتين الحكم ومدت بنظرها نحو مناطق نفوذها السابقة، حاولت في ليبيا لكنها فشلت وانتظرت اللحظة المناسبة وخاصة في أجواء التردد الأمريكي في الانخراط بشكل كبير في الأزمة السورية ودخلت في العام 2015 لتنقذ نظام بشار الأسد من السقوط وتعيد منطقة نفوذ تقليدية لها مرة أخرى وتخلق حالة من التوازن داخل منطقة كانت غائبة عنها مدة ليست بقصيرة، وعادت الحرب الباردة ولو بحدوها الدنيا إلى الواجهة مرة أخرى وخاصة بعد أن استطاع بوتين تشكيلَ تحالفٍ (ولو كان هشا”) مع كل من تركيا وإيران، واستفادَ من التنازلات التركية في سبيل تمتين العلاقات العسكرية والاقتصادية ليحقق انتصارات لم تكن في الحسبان على الساحة السورية، كل ذلك تحت سمع وبصر الولايات المتحدة ومجموعة دول التحالف.
في المحصلة يمكن الجزم بأن روسيا الاتحادية وريثةَ الاتحاد السوفيتي استعادت جزءاً مهما من النفوذ السابق وعادت إلى الواجهة العالمية كقطبٍ منافس لأمريكا عسكرياً بشكل جدي وخاصة منذ أوباما ومع ترامب الإدارة الامريكية تحاول النأي بالنفس وعدم الانخراط الفعلي في المشاكل العالمية والتوجه نحو تحسين وضع الداخل الأمريكي وتعزيز الهيمنة الاقتصادية على العالم جمعاء بدل الهيمنة العسكرية التي كانت تأتي في المقام الأول, بعكس روسيا الاتحادية التي تحاول فرضَ هيمنتها العسكرية لافتقارها لقوة الاقتصاد وبالتحالف مع الصين التنين الذي بدأ ينافس أمريكا اقتصادياً.
لقد خلقتِ المقتلةُ السورية الأرضيةَ المناسبة لعودة روسيا ومنافسة الغرب، وهو ما يجري على أرض الواقع، ولكن تبقى أمريكا- بالرغم من كل ما وصلت اليه روسيا- هي القوةُ الأكبر دون منازع، وهي التي تدير شؤونَ العالم.
حسين عمر