ياسر شوحان
إن السلام هو أساس استقرار الدول والركيزة الأهم التي تستند عليها حياة الشعوب. وبدون السلام لا توجد حياة مستقرة ولا فرص للحياة أو تعليم أو تطور، لأن الحرب هي نقيض السلام ومشعلة للفتن ومدماة للقلوب ومدعاة للحزن.
ولا يكون السلام إلا خطوة جريئة يقوم بها العقلاء والقادة الأفذاذ لأنهم يعملون على تأمين الحياة الآمنة للناس ويعملون على حقن الدماء وإيقاف أي مخطط يذهب بالبلاد لزعزعة الأمن والاستقرار، كما يترك السلام مجالاً للشعوب أن تحيا حياة كريمة وتوجه طاقاتها للتنمية والعلم وليس للقتل والتدمير. كما يعمل السلام على إبعاد الشعوب عن التشتت والهجرة فبالهجرة تفقد البلاد أبنائها وتضيع فرصهم بالحياة ولا عمل، وليس أجمل من كلمة ” السلام ” من كلمة تناقلتها الشعوب حتى الآن.
سورية بلد السلام :
إن سورية هي الموطن الأول لأقدم الحضارات والأكثر تقدماً في العالم مثل اللطامنة والكوم وغيرها (تعود إلى 500 ألف عام) كما أنها موطن الإنسان الحديث (120 ألف عام) وبلد ظهور القرى الزراعية الأولى في تل مريبط وبقرص وغيرها، ومنها بدأ الفكر والأدب والفن والموسيقى والمسرح وسائر الديانات. ومنها أيضاً ظهر السلام، وحيث أنه عندما يُطلق (السلام) نعود بالذاكرة فوراً إلى العمق التاريخي والسياسي لسورية، فلا بد أن تكون أساسية في إحلال السلام.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن الشعب السوري أٌقدم شعب في العالم، وهو من نادى بالصداقة والأخوة مع شعوب العالم وسعى لإرساء أسس السلام وقواعده وإحلاله في سورية.
وعسانا الآن أن نستفيد من تجارب الأولين وممن سبقونا، وذلك لإحلال السلام في سورية الأم، في بلاد لم تعرف إلا العطاء والتسامح والسلام حتى يومنا هذا، على الرغم من الويلات والحروب التي مرت عليها.
معاهدات السلام في التاريخ:
لم تنحصر المعاهدات أو المواثيق التي تتعلق بالسلام بين طرفين متصارعين أو بين الدول لفض نزاع أو إنهاء خلاف أو وضع نهاية للحرب أو ما يتعلق بالتبادل التجاري أو الاقتصادي على العصور الحديث فحسب، بل إن المعاهدات التجارية والمواثيق ومعاهدات السلام عُرفت منذ فترة بعيدة جداً تعود إلى ما قبل الميلاد، وكانت قد نُقشت على الرُقُم الفخارية، وكانت توضع في المعابد والقصور لتكون حاضرة أمام مُبرم الاتفاقية.
وإذا أردنا اكتشاف العديد من هذه المعاهدات لا بد من الاطلاع على النُصب المعروضة في المتحف الوطني بدمشق وغيرها من المتاحف في سورية والعراق والشرق الأوسط والذي يضم الكثير منها حيث نجد عدة نصب لمعاهدات تعود الى العصور القديمة المكتشفة والمحفوظة بالمتحف ومنها معاهدات مملكة إيبلا وأوغاريت والسفيرة العربية الآرامية أول معاهدة كتبت بالأبجدية. وخلال البحث في النقوش القديمة في الألف الثالث والثاني والأول قبل الميلاد نجد في نقش السفيرة الآرامي 86 % من مفردات اللهجة العربية الآرامية موجودة في قاموس إبن منظور كما نجد 11,2 % من الكلمات التي نستعملها في عاميتنا مثل برا جوا كمان هذه لهجات من العربيات لكنها ليست من اللهجة العربية الحديثة.
ويذكر الباحث علي القيم أن من أقدم المعاهدات أيضاً تلك المعاهدة التي كانت بين مملكة إيبلا (تل مرديخ) وسط سورية ومدينة أبارسال التي تقع في أعالي منطقة الجزيرة السورية على الحدود السورية العراقية بالقرب من نهر دجلة أو على حسب قول بعض الآثاريين أنها تقع على الأرجح بين مملكة ماري ومملكة إيبلا وهي أقدم معاهدة سلام في العالم يعود تاريخها الى 2400 سنة قبل الميلاد، ويُشار إلى أن النص محفوظ حالياً في متحف إدلب ويتحدث عن أقدم اتفاقية سلام دولية موقعة بين مملكة إيبلا إركب دمو ومملكة أبرسال.
وتؤكد نصوص الاتفاقية التي تعد واحدة من أقدم الاتفاقيات السياسية التجارية المدونة بالنقوش المسمارية وتتضمن أنه: (في حال تشاجر رجل من مملكة أبرسال مع رجل من مملكة إيبلا أثناء احتفال إيزيس وقُتل الرجل الإبلائي يفرض على رجل مملكة أبرسال غرامة قدرها 50 رأساً من الغنم، وفي حال قُتِلَ رجل مملكة أبرسال يفرض على رجل مملكة إبلا غرامة قدرها 50 رأساً من الغنم كما تلزم الاتفاقية ملك مملكة أبرسال بعدم التعرض لأغنام مملكة إيبلا إذا دخلت أراضيه وتركها تأكل وتشرب).
لقد وقّعت مملكة إيبلا العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدبلوماسية والتجارية الدولية مع جيرانها أهمها المعاهدة التي وقعت بين ملك إيبلا وملك آشور بهدف تنظيم العلاقات السياسية والتجارية والدبلوماسية بين المملكتين ومعاهدة السلام المؤقتة التي وقعت بين ملك إيبلا اركب دمو وملك ماري انا دجن وهي أقدم من معاهدة السلام المصرية الحثية.
وهناك أيضاً نقش السفيرة العربي الآرامي حيث يذكر الدكتور بهجت القبيسي إن ما يميز هذه المعاهدة عن غيرها أنها أقدم معاهدة كتبت بالحرف الأبجدي فهناك معاهدات أقدم منها ولكنها كتبت بالمقطعية المسمارية مثل معاهدة إيبلا وأوغاريت. وحول هذه المقطعية فإن كل شكل في نقش المعاهدة يمثل صوتاً أو صوتين بحرف أو حرفين وأحياناً ثلاثة إنما الأبجدية مثلت كلٌ صوت بحرف واحد.
ومن الجدير بالذكر أن هذه المعاهدة هي من أطول وأجمل المعاهدات المكتوبة في التاريخ حيث تتألف من /193/ سطراً، وتكمن أهميتها أنها تكشف لنا الكثير من المناطق التي كانت مجهولة بالنسبة لنا، حيث كشفت لنا جغرافيا كبيرة جداً فكلمة “عراق” موجودة بحسب المعاهدة منذ حوالي عام 1200 قبل الميلاد وليس كما يقول البعض أنها ظهرت في العصر الإسلامي فهناك كلمات كثيرة وهناك جغرافيا متعددة كبيرة وموحدة في هذا النقش، كما أن هذا النقش يتحدث عن ملكين اتفقا وتحت جناح كل ملك عدة ملوك لأن في هذه المعاهدة يظهر أن هناك ما ينوف عن عشرة ملوك آخرين.
وبالإشارة إلى المناطق الجغرافية التي تغطيها هذه المعاهدة فقد أخذت مساحة كبيرة تمتد من أضنه في جنوب تركيا وحتى مكة المكرمة حيث ورد اسمها في المعاهدة باسم بكة وكذلك فقد ورد اسم مصر في النقش كذلك، وهذا النقش أضاء لنا فترة ضبابية مرت في التاريخ القديم حيث يبين النقش أن العرب الآراميون موجودون منذ القرنين الحادي عشر والثاني عشر قبل الميلاد.
كما يذكر القبيسي أن المرحلة الثانية من الممالك الآرامية كانت تمتد من الكويت حالياً حتى منابع دجلة والفرات وحتى سيناء ولكن نقش السفيرة الآرامية أكبر بكثير، حيث ورد في النقش التعرفة الجمركية التدمرية وهو نقش آرامي متقدم حيث جاء ذكر منطقة سيف سيفون وهي الكويت حالياً.
إن لنقش السفير العربي الآرامي معاهدة السلام دلالته الجميلة جداً بالنسبة للعمق التاريخي حيث كتب التاريخ القديم حسب الفكر التوراتي والإغريقي ونقول لقد صودر التاريخ القديم قبل أن تصادر الأرض لذلك علينا أن نوضح هذه النقوش.
وتجدر الإشارة إلى أن الموقعين على الميثاق أو المعاهدة يشهدون الآلهة على نص معاهدتهم، فتذكر النصوص أن ملكين أحدهما خاف من الثاني أن يغدر به فوقع معه معاهدة تصب اللعنات على الغادر منهما من قبل الآلهة وهذه كانت موضة العصر سابقاً.
وهناك معاهدة أخرى محفوظة في المتحف الوطني بدمشق حيث يتم حفظ النصب المنقوش عليه نص المعاهدة المعقودة بين ملكين من ملوك سورية الشمالية وهما بارجايا ملك كيتاك وهي بلدة مجهولة قرب مكان اكتشاف هذا النصب والتي تقع على بعد 20 كيلومتراً جنوبي شرق حلب ومتعال ملك أرفاد المعروفة اليوم بتل رفعت أو تل أرفاد على بعد 30 كيلومتراً شمالي حلب.
وفي بلاد الرافدين وعلى مقربة كثيراً من سورية حدث أقدم اتفاق سياسي دولي في العالم قد وُقِّع نحو عام 2400 ق.م بين مملكة لكش ومملكة أوروك في أرض مملكة سومر في بلاد الرافدين إلا أن السوريين هم أصحاب أقدم اتفاقية سلام مدونة في العالم تحرم القتل والاعتداء وتدعو إلى السلام، وهذا ما يشير إلى أن سورية وبلاد الرافدين موطن السلام الأول في العالم.
ولم تكن ماري حاضرة وادي الفرات أقل حظاً من تلك المعاهدات، حيث اكتُشف في قصر زمري ليم ملك ماري أربع اتفاقيات سلام تنسب إلى الفترة الواقعة ما بين 1775-1761 قبل الميلاد أي الفترة التي حكم فيها الملك زمري ليم مملكة ماري وأهمها معاهدة السلام التي وقعت مع حمورابي ملك بابل ومعاهدة السلام التي وقعت مع مملكة أشنونا (موقع تل أسمر الأثري حالياً) وهي دويلة سومرية قامت بين نهري دجلة وديالي وسفوح جبال زاغروس الشرقية وبقيت مستقلة إلى أن ضمها حمورابي ملك بابل إلى نفوذه عام 1761 قبل الميلاد.
إن جميع هذه المعاهدات تعود لممالك الدول وانتشرت على نطاق ضيق جداً، حيث أن مساحة المملكة الواحدة أحياناً لا تتعدى بضعة كيلومترات، في حين تتعدى في معاهدات أخرى أقاليم بأكملها، ولكن معاهدة قادش كانت بين إمبراطوريتين حكمتا مناطق جد واسعة وذات أثر كبير في جنوب بلاد الشام وشمال شرق حمص وشمال سورية والأناضول، ووجدت بنودها على جدران معبد الكرنك المصري ويعود تاريخها الى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهذه المعاهدة تمت إثر الاتفاق بينهما على الصلح بعد معركة قادش الشهيرة التي وقعت قرب بحيرة قطينة التابعة لمحافظة حمص السورية.
ويذكر الباحث الآثاري محمود السيد إلى أن إرساء أسس السلام في سورية كان ينعكس إيجاباً على كل الدول والممالك المحيطة لذلك قامت الإمبراطورية الحثية في السنوات الأخيرة من وجودها عبر سلطتها الحاكمة في كركميش وحلب بالعمل على تسوية النزاعات الحدودية والتجارية والقضائية والجنائية بين الممالك السورية مثل أوغاريت، ألالاخ، إيمار، قادش، أمورو وميتاني وإحلال السلام وخير دليل على ذلك الرقم المسمارية الاكادية والأوغاريتية المكتشفة في رأس الشمرة مملكة أوغاريت.
لقد كانت هذه الاتفاقيات أو المعاهدات تدل على نضوج مفهوم السلام وفن الحوار الدبلوماسي الراقي السلمي لدى الشعب السوري منذ غابر الزمان.
قادش… معاهد السلام الحثية المصرية:
على أرض سورية الطاهرة حدثت كبرى المعارك في تاريخ الشرق القديم وانتهت بعقد سلام دائم وكان أهمها هذه المعركة التي تعتبر أكمل وأفضل معارك الشرق القديم توثيقاً سواءً من جهة النصوص الكتابية أو من خلال الرسوم والمنحوتات التي تصور التطورات والأحداث التي جرت خلال المعركة.
إن حضارة الدولة الحثّية تعد إحدى أكبر الحضارات التي شهدتها الألفية الثانية قبل الميلاد، وهي لا تقل أهمية عن بعض حضارات بلاد ما بين النهرين، التي امتدت بعدها بقرون، وعاصرت الدولة الآشورية والبابلية، بل ودخلت في صراعات معهما.
وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن أهمية دولة الحثّيين تكمن في كونها كانت تملك مفتاح الاتصال بين شرق العالم القديم وغربه من خلال موقعها الجيو – استراتيجي المهم في هضبة الأناضول وشمال سورية. كما تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن هذه الدولة رغم أنها لم تمتلك ثقافة موسعة أو حتى نهضة علمية مقارنة بالدول الكبرى في ذلك الوقت وعلى رأسها مصر، فإنها تمتعت بقوة عسكرية جبارة، وهي التي أدخلت الحديد واستبدلت به المعادن الأخرى في بعض المجالات وعلى رأسها صناعة الأدوات الحربية.
وتشير المصادر التاريخية والأثرية إلى أن بدايات هذه الدولة كانت في الألفية الثانية من الميلاد وأنها وصلت إلى أوج سلطتها خلال القرن السادس عشر قبل الميلاد وكانت عاصمتها مدينة حاتوسا أو حاتوشا (أو حاتوسيل أو حاتوشيل) وترجمتها (أرض حاتي). أما بالنسبة للأصول العرقية للحثّيين فما زال أمرها غير محسوم، وإن كان أغلب الظن أنها تأتت من هجرة قبائل من منطقة القوقاز في الشمال. ولكن المؤكد أن هذه القبائل استوطنت وسط هضبة الأناضول في فترة زمنية قبل القرن العشرين قبل الميلاد، ثم بدأت تجمّعاتها تفرض سطوتها على القبائل التي كانت تعيش في تلك المنطقة.
ولقد بنيت هذه الدولة القوية على أساس اقتصادي مرتبط بالزراعة والرّعي، وهما الحرفتان اللتان استمرتا معها حتى النهاية. كذلك لعبت التجارة دوراً مهماً للغاية في ازدهار هذه الدولة القوية خاصّة لدى استغلالها موقعها الجغرافي المتميز، ونظراً لأهمية هذه الأنشطة أصرّ ملوك هذه الدولة على وضع نُظُم تجارية وزراعية صارمة على رأسها ضبط الأسعار والتحكّم من خلال نظام مركزي يسيطر عليه الملك ورجاله أنفسهم، كما وضعت الدولة في فترة زمنية نظاماً يضمن استمرار الزراعة من خلال تطوير شبكات الرّي ووضع نظام حاسم للأجور للأنشطة المختلفة. أما بالنسبة لتوزيع الأراضي فقد اعتمدت الدولة على نظام إقطاعي بدائي مرتبط بشكل مباشر بقدرة الإقطاعي على توفير الجنود للملك، وفي حال فشله يصار إلى سحب إقطاعه منه ومنحه لآخرين.
لقد تميزت الحضارة الحثية بنظام قانوني فعال للغاية في ذلك الوقت، وهو وإن لم يكن بالضرورة مثل المدوّنة القانونية للملك البابلي حمورابي الشهيرة بـ (شريعة حمورابي)، فإنه كان من أقوى الأنظمة في ذلك الوقت. ولقد صاغه الملك تيليبينو، الذي استطاع من خلاله أن ينظم شؤون الدولة بشكل كبير والعلاقات بين أفرادها، وكان نظاماً يعتبر بمقاييس عصره متطوراً للغاية، إلى جانب أنه لم يكن عنيفاً مثل أنظمة أخرى في ذلك الوقت أو حتى قبله. وشملت مملكتهم الأناضول وجزء كبير من شمال غرب الهلال الخصيب.
ومن ناحية أخرى، تميزت الدولة الحثّية بمنظومة دينية لم تختلف كثيراً عن غيرها من الدول القديمة المعاصرة لها من حيث تعدّد الآلهة تحت قيادة كبير الآلهة وهو (إله العواصف). ولكن الملاحظ أيضاً أنها لم تكن منظومة متحجّرة، إذ استوعب الحثّيون الكثير من الآلهة مع مرور الوقت من الدول التي احتلوها أو تاجروا معها، وهو ما جعلهم من أكثر دول العالم القديم تأثراً بالثقافات المختلفة التي حولها، فصناعة الثقافة يبدو أنها لم تكن من مميزات هذه الدولة بالشكل التقليدي لبعض الدول الأخرى المجاورة لها.
و تشير المصادر التاريخية أيضاً إلى أن الدولة الحثّية مرت بالكثير من الصعوبات قبيل القرن السادس عشر قبل الميلاد وبعده، إذ تعرضت لعدد من الغزوات من مناطق مختلفة أدت بعضها لسقوط العاصمة في أيدي المحتلين، غير أنها في كل مرة كانت تعود بقوة أكبر لتعيد السيطرة على عاصمتها وتبني دولتها من جديد، وكان أهمها على أيدي الملك شوبيلوليوما الأول (العظيم)، الذي استطاع أن يعيد مجد الدولة الحثّية مرة أخرى بعدما سقطت العاصمة حاتوسا على أيدي محتلين غزوا أرض الدولة من ثلاثة اتجاهات متوازية، فلقد شنت دولة الميتانيين من الجنوب الشرقي هجوماً على أراضيها في نفس الوقت الذي شنت فيه دولة الأرزاوا هجومها من الشمال الغربي وهجمت القبائل الشمالية على شمال الدولة، وهو ما أدى إلى سقوط العاصمة على أيدي المحتلين وانحسار أراضي الدولة. ولكن الملك استطاع بشبه معجزة إدارية وعسكرية تنظيم جيوشه مرة أخرى واستطاع أن ينتزع العاصمة من أيدي المحتلين بفضل جيشه القوى الذي قام بتدريبه بكل جد وإدارة قوية. وبمجرد أن استتب الأمر له مرة أخرى عادت أطرافها إلى هذا الملك القوي الذي بدأ يتوسع تدريجياً إلى أن شملت دولته أجزاء من لبنان حالياً. ولقد عقد ذلك الملك الكبير سلسلة من التحالفات والاتفاقيات الدولية من أجل تثبيت قوة دولته وحماية حدوده، ولكن الضربة التالية لهذه الدولة جاءت جراء داء الطاعون الذي حصد أرواحاً كثيرة من جنوده.
هذه الوثيقة اكتشفت في عاصمة الحيثيين خاتوشا في بوغازكوي- بيوكالي عام ١٩٠٦ من قبل هيجو فينكلار (Hügo Winckler) وتيودور ماكريدي (Teodor Makridy) كنتجية لرحلة بحث تركية ألمانية، وواحدة من الوثائق (VAT 6207) حاليا معروضة في متحف برلين واثنتان في متاحف إسطنبول للآثار.
لقد جرت المعركة حوالي عام 1274 قبل الميلاد بين الإمبراطورية الحثية بقيادة مواتالي الثاني والإمبراطورية المصرية بقيادة رمسيس الثاني في محيط مدينة قادش موقع تل النبي مندو الأثري حالياً جنوب غرب سورية بالقرب من الحدود اللبنانية نحو 25 كيلومتراً إلى الجنوب من مدينة حمص.
ونقشت المعاهدة على لوح من الفضة باللغة الحيثية، إلى جانب أنها سجلت باللغة الهيروغليفية على جدران معبدي الكرنك والرامسيوم بمدينة الأقصر جنوب القاهرة. ويُشار إلى أن مدخل معبد الأقصر يسرد البطولات التي حققها الجيش الفرعوني ضد الحيثيين، وكذلك معبد أبو سمبل، حيث توضح الجداريات أن الملك رمسيس الثاني قَبِلَ بمعاهدة السلام بـ (رأس مرفوعة)، جعلت منه (أول بطل للحرب والسلام) في تاريخ البشرية. وقد يكون هذا هو السبب الذي يجعل من هذه المعاهدة ذات أهمية تاريخية وحضارية أكثر عن بقية المعاهدات، مما ساد الاعتقاد بأنها الأقدم أو أولى المعاهدات في التاريخ.
وكان من أهم أسباب المعركة الرغبة في السيطرة على سورية التي تشكل صلة الوصل بين دول وممالك بلاد الرافدين مع دول وممالك ساحل البحر الأبيض المتوسط وبسبب انحياز بلاد أمورو ووقوفها مع مصر ضد الحثيين، بالإضافة إلى أن السيطرة على مدينة قادش ذات أهمية كبيرة حيث أنها تتمتع بموقع استراتيجي تجاري مهم على نهر العاصي فضلاً عن كونها مفترق طرق وصلة الوصل جنوباً مع سهل البقاع في لبنان وغرباً مع ساحل البحر الأبيض المتوسط بواسطة منخفض أو ما يسمى حالياً بفتحة حمص الواقعة بين جبل أنصارية وجبل لبنان.
ورغم انتصارات الملك رمسيس المتعددة والتي سجلتها النصوص الجدارية، إلا أن حروبه ضد الحيثيين هي الأهم والأكثر شهرة في تاريخه الحربي، وقد وصلت هذه المعارك ذروتها في هذه المعركة، التي اختلفت الروايات حول المنتصر فيها. وبينما يرى بعض من المؤرخين أن المعركة انتهت بانتصار جيش المصريين، الذي حارب فيه الملك رمسيس الثاني بنفسه ليرفع من معنويات جنوده، يقول آخرون عن المعركة أن رمسيس (خسرها منتصراً) .
ووفقاً للمعطيات ومجريات الأحداث فإن المعركة انتهت بفوز الحثيين على المصريين بدليل ازدياد النفوذ الحثي في سورية وتراجع النفوذ المصري واضمحلاله علماً أن اتفاق السلام النهائي بين الحثيين والمصريين ضمن بنود معاهدة دائمة قد وقع حوالي عام 1259 قبل الميلاد بين فرعون مصر رمسيس الثاني وملك الحثيين حاتوشيلي الثالث الأخ الشقيق للملك مواتالي الثاني ودونت نسخة من بنود المعاهدة على جدران معبد رمسيس الثاني ومعبد آمون في الكرنك في مصر ونسخة دونت على رقيم من الطين المشوي دون بالمسمارية الأكادية عثر عليه في حاتوشا عاصمة الحثيين. وبحسب كتابات رمسيس الثاني، فإن مواتللي الثاني ملك الحيثيين هو من طلب الصلح مع الفراعنة.
ومن الجدير ذكره أن نص المعاهدة هذا قد كُتب منها أكثر من نسخة، ويتحدث النص الأكادي عن اعتراف رمسيس الثاني فرعون مصر بشرعية حكم حاتوشيلي الثالث الإمبراطور الحثي والتأكيد على دوام حالة السلام والأخوة بين الإمبراطوريتين هذا جزء من نصها :
سطور من المعاهدة :
وهنا بعض مما جاء في بعض أجزاء المعاهدة المعروضة في متاحف إسطنبول والمرقومة على الطين بالخط المسماري في لغته الآكادية وهذه ترجمته:
(رمسيس الملك العظيم ملك مصر يكون في حالة سلام دائم وصداقة جيدة مع حاتوشيلي الملك العظيم ملك الحثيين أبناء رمسيس محبوب الإله أمون الملك العظيم ملك مصر سيكونون في سلام دائم وأخوة مع أبناء حاتوشيلي الملك العظيم ملك الحثيين أنهم سيحافظون على نفس العلاقات الأخوية مثلنا كذلك مصر والحثيين سيكونان مثلنا في أخوة وسلام دائم رمسيس محبوب الإله أمون الملك العظيم ملك مصر لن يقوم في المستقبل بأي عمل عدائي ضد الحثيين لاسترداد أي شيء وحاتوشيلي الملك العظيم ملك الحثيين لن يقوم في المستقبل بأي عمل عدائي ضد المصريين لاسترداد أي شيء).
وأكدت بنود المعاهدة أهمية إقامة علاقات جيدة بين الدولتين، والسعي إلى إحلال سلام أساسه احترام سيادة أراضي الدولتين، والتعهد بعدم تحضير الجيوش لمهاجمة الطرف الآخر، وإقامة تحالف وقوة دفاعية مشتركة، واحترام الرسل والمبعوثين بين الدولتين لأهمية دورهم لتفعيل السياسة الخارجية، واللجوء إلى لعنة الآلهة كضمانة لهذه المعاهدة ومعاقبة الناكث بها.
ويتابع نص المعاهدة:
(معاهدة السلام من رع – ماشيشا – ماي آمانا (رعمسس مري إمن: رعمسيس محبوب آمون) الملك العظيم، ملك أرض مصر، الشجاع، مع حاتوسيلي، الملك العظيم ملك أرض حاتي لإقامة السلام الجيّد والأخوّة الجيّدة المستحقة للملوكيّة العظيمة للأبد. وهذه أقوال رع – ماشيشا – ماي آمانا: الآن ها قد أقمت أخوّة جيّدة (و) سلام جيّد بيننا إلى الآبد. وذلك لإقامة سلام جيّد (و) وأخوّة جيّدة في العلاقة بين أرض مصر وأرض حاتي إلى الأبد.
(أقول) وهكذا: أنظر، بالنسبة للعلاقة بين أرض مصر وأرض حاتي، منذ الخلود الإله لم يسمح بفعل العداء بينهما بفضل معاهدة سلام (صالحة) للأبد).
(إذا جاء عدو من الخارج ضد أرض مصر ورع – ماشيشا – ماي آمانا، ملك أرض مصر، أخوك يرسل إلى خاتوشيليش، الملك العظيم لأرض حاتي، أخوه يقول: (تعالى إلى هنا لمساعدتي ضده إلى خاتوشيليش، ملك أرض حاتي سيرسل مشاته (و) وقواد العربات الحربية، وسيذهب أعدائي).
ما أشبه اليوم بالبارحة:
منذ سنوات وسورية تعاني ما تعانيه من الويلات وتشريد أبنائها وهجرة بعضهم إلى بلاد لم يفكر يوماً بالهجرة إليها، وكم نحتاج الآن مبادرة سلام تجمع جميع الأطراف كسوريين، وليس ذلك بغريب أبداً، فما بين الحثيين والمصريين آلاف الكيلومترات مسافة وأسلوب حياة مختلف، ولغة مغايرة، وانتماءات متعددة، وعروق شتى. ومع ذلك فقد سجل الطرفين معاهدة للتاريخ لا نزال نقرؤها إلى الآن ومثالاً يحتذى لكل العالم في التسامح والأخوة. أليس حرياً بنا أن نحذو حذو أجدادنا في إبرام عقد أدبي فيما بيننا لإنهاء العنف، أو إبرام اتفاق يقضي على الخلاف، أو معاهدة ترضي جميع الأطراف ليحل السلام بدل العنف؟.
هذه السنوات السبع العجاف التي لم تقدم إلا مزيداً من الفوضى والتشريد والفقد والدم وصراعات لا تنتهي على المدى القريب، وما من طرف إلا وارتشف مرارة الحرب وقساوة الضياع في زمن ترفل فيه باقي الدول بالطمأنينة. إنها ليست دعوة للسلام فحسب بل هي دعوة للجميع في حقنا بالحياة. لقد آن الأوان أن نفهم الدرس جيداً.
المراجع
1 ـ سورية السلام موطن أقدم اتفاقية سلام مدونة في العالم ـ صحيفة الفرات السورية ـ العدد 4034 ـ الأحد 26 آب 2018.
2 ـ معاهدات السلام تعود إلى عصور ما قبل الميلاد ـ صحيفة الرياض السعودية ـ العدد 13600 ـ تاريخ الأحد 16 أيلول 2005.
3 ـ ابن منظور: لسان العرب ـ دار صادر ـ بيروت ـ 1414 هـ.
4 ـ الصالحي، د. محمد رشيد: القوانين الحثية تأثير الشرائع العراقية القديمة على قوانين بلاد الأناضول ـ ملاكز إحياء التراث ـ جامعة بغداد ـ العراق ـ 2010.
5 ـ عرابي، منصور: معاهدات غيرت التاريخ ـ مصر ـ 1998.