محسن عوض الله
“لو كنت أجني دولاراً أو حتى ليرة تركية في كل مرة تعهد فيها الرئيس رجب طيب أردوغان بطرد المسلحين الأكراد من عفرين في شمال غرب سوريا، لأصبحت الآن رجلاً ثرياً” .
عبارة أطلقها الباحث الروسي المتخصص بالشأن الروسي والتركي “ديميتار بيشيف” تجسد بوضوح طبيعة الموقف التركي من القوي الكردية بشمال سوريا .
فمع تصاعد نفوذ الأكراد في سوريا منذ العام 2012، بعد انسحاب قوات النظام السوري تدريجياً من المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال وشمال شرق سوريا لم تتوقف التهديدات التركية، ولم ينته التحريض العثماني ضد قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية التي تصنفها أنقرة كمنظمة إرهابية رغم أنها القوة الأكثر فعالية في قتال تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” .
فى العشرين من يناير الجاري نفذ أردوغان أحد تعهداته الكثيرة وشن الجيش التركي بمساعدة فصائل سورية حملة عسكرية على مدينة عفرين الكردية شمال سوريا.
وتعاني تركيا مما يمكن تسميته فوبيا الأكراد خاصة فى ظل انتماء قرابة 15 مليون نسمة يمثلون 20 % من سكانها للقومية الكردية بنسبة 49% من أكراد العالم.
الفوبيا التركية من الأكراد تتعدى حدود الدولة التركية حيث ترفض أنقرة أن يحظى الأكراد بأي حقوق أو امتيازات بالدول المجاورة وخاصة فى سوريا حيث يسيطر حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي الذي تعتبره تركيا فرعاً لحزب العمال الكردستاني على مناطق واسعة بشمال سوريا وتخشى أنقرة من إقامة الأكراد السوريين حكماً ذاتياً على حدودها خاصة بعد أن أعلنوا في مارس 2016، النظام الفيدرالي في مناطق سيطرتهم بشمال سوريا.
وارتبط التدخل التركي الكبير فى الثورة السورية بموقف معاد دوماً للأكراد، فبعيداً عن أي شعارات ترفعها أنقرة لتبرير تدخلها بالأزمة السورية فالواقع يشير بوضوح إلى أن الكرد هم المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية التركية تجاه سوريا.
الموقف التركي الرافض لأي وجود كردي عبر عنه الزعيم الكردي عبد الله أوجلان فى كتابه “القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”
ويرى أوجلان أن العلاقات التركية الكردية تعتمد على الإعتقاد بفناء الكرد في فترة وجيزة بمجرد إصدار أمر الإنكار والإبادة بشأنهم، مشيراً إلى أن السلطة فى تركيا تعتقد بأن أساليب جمعية الإتحاد والترقي ومقارباتها التي نجحت في تصفية الأرمن سوف تثمر لدى تطبيقها على الكرد، لافتاً إلى أنه بعدما أقنع هؤلاء شعبهم وأمتهم بسياسة الرياء والإنكار هذه فإنهم لم يتوانوا أمام مرأى العالم أيضاً عن اعتماد الفكر الذي مفاده أنه ما من ظاهرة اسمها الكرد!
سياسة “الإنكار والإبادة” التي تعتمدها تركيا فى مقارباتها للأزمة السورية هي التي دفعت أردوغان لاتخاذ كافة السبل لمواجهة كرد سوريا وعدم الإعتراف بأي حقوق لهم فى الأزمة السورية رغم ما قدموه من نجاحات فى مواجهة الإرهاب، فقد وقف أردوغان سداً منيعاً ضد أي مشاركة لهم فى مفاوضات حل الأزمة السورية سواء فى مباحثات جنيف والأستانة ومازال متعنتاً ضد حضورهم فى مفاوضات سوتشي المزمع عقدها الأيام القادمة.
تعنت أردوغان تجاه الكرد خلال سنوات الثورة السورية انتقل مرات عدة من مرحلة التهديد والوعيد والتحريض لمرحلة التدخل العسكري المباشر وإعلان الحرب.
فى 24 أغسطس 2016 بعد شهر واحد فقط من محاولة الإنقلاب الفاشل فى تركيا أعلنت أنقرة إطلاق عملية عسكرية جديدة في سوريا تعرف بـ “درع الفرات”، نفذتها بالتعاون مع مسلحي “الجيش السوري الحر” وفصائل متحالفة معه من المعارضة السورية، من أجل تطهير كامل المنطقة السورية الحدودية مع تركيا من “جميع الإرهابيين” وطردهم نحو عمق سوريا، حسب ما تقوله أنقرة.
تباينت الأهداف المعلنة من جانب تركيا حول الهدف من درع الفرات وتناقضت التصريحات التركية الرسمية حول العملية، ففي نوفمبر 2016 أعلن الرئيس التركي أن العملية التي أطلقتها أنقرة بشمال سوريا ترمي إلى التخلص من نظام “الطاغية الأسد” بحسب وصفه ، وهو الأمر الذي أثار استياء موسكو التي طلبت إيضاحات حول تصريحات أردوغان فما كان من الرئيس التركي إلا التراجع عن تصريحاته مؤكداً أن التدخل التركي يستهدف المنظمات الإرهابية ! .
كما أعلن رئيس الوزراء التركي علي يلدريم الأربعاء 7 ديسمبر 2016 أن التدخل فى شمال سوريا المتمثل فى عملية درع الفرات لا يهدف لتغيير النظام فى دمشق وغير مرتبط بالوضع في حلب.
بعيداً عن تلون أردوغان وصراحة يلدريم فقد ثبت للجميع أن «درع الفرات» التركية ليس هدفها «إسقاط النظام ولا إسقاط شخص بشار ولا نصرة الشعب السوري والثورة السورية» إنما هي فقط من أجل «منع قيام الدولة الكردية والوقوف فى وجه طموحات أكراد سوريا» -وهو ما أكده الباحث أحمد طه فى دراسته “انقلاب تركيا.. تحليل ونظرة مستقبلية”.
صفقة حلب
شهدت مدينة حلب نهاية عام 2016 وقائع مأساوية ومحزنة، جراء استهدافها من قبل نظام الأسد، مما أسفر عن مقتل العشرات من أبناء الشعب السوري الأبرياء.
وسقطت حلب بشكل مفاجيء بيد قوات النظام بعد أكثر من 4 سنوات من سيطرة المعارضة على المدينة، وهو الأمر الذي أثار تعاطفاً عالمياً نظراً لما أرتكبته القوات الحكومية من مجازر بحق المدنيين.
المهندس الملقب أبو إبراهيم المقرب من «جبهة فتح الشام» كشف لجريدة «القدس العربي» في عددها الصادر بتاريخ 7 ديسمبر 2016 حقيقة ما حدث بحلب قائلاً: “ما حدث أمر بديهي لا يحتاج إلى شرح، هو اتفاق بين الروس والأتراك على أن درع الفرات مقابل حلب المدينة».
عملية إدلب
كانت عملية دخول تركيا لمدينة إدلب شمال سوريا فاضحة بالنسبة لمن يسمون أنفسهم قوات درع الفرات التي يتشكل معظم عناصرها من فصائل الجيش السوري الحر، فلأول مرة تشارك قوات معارضة للنظام السوري فى عملية عسكرية يدعمها برياً القوات المسلحة التركية وتساندها جوياً القوات الروسية الحليف الرئيسي للنظام التي ارتكبت مئات المجازر بحق الشعب السوري!
عملية إدلب التي أعلن عنها فى التاسع من أكتوبر الماضي بعد أقل من أسبوع من قمة روسية تركية عقدت بأنقرة، وزيارة تاريخية للرئيس التركي للعاصمة الإيرانية طهران، قبل أن يجتمع الزعماء الثلاثة فى أستانة ليقرروا ضم إدلب لمناطق خفض التوتر عن طريق عملية عسكرية بالمدينة تنفذها فصائل درع الفرات بدعم تركي وروسي.
واقع الحال يشي بأنّ هذا التدخّل مرتبط مباشرةً بالأكراد وسيطرتهم على مناطق واسعة من شمالي سورية، وهو ما ظهر فى إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الهدف من العملية التركية في إدلب عدم السماح بإقامة “ممر إرهابي يبدأ من عفرين ويمتد إلى البحر المتوسط”، في إشارة إلى منع إقامة كيان كردي على حدود تركيا الجنوبية مع سوريا.
عفرين
“كنا هنا من ألف عام “بهذه العبارة تحدث أردوغان عن عفرين خلال إعلانه بدء العملية العسكرية التركية بالمدينة، هذا الإستدعاء للإرث العثماني ربما يتوافق مع “الميثاق الملي التركي” وهو الذي يعتبر (مناطق خارج الحدود التركية الحالية حقاً تاريخياً للدولة التركية انتزع منها انتزاعاً ولأنقرة الحق في ضمها في أي وقت”.
الميثاق الوطني أو كما يسمي بالتركية العثمانية “ميثاق ملي” هو عبارة عن مجموعة قرارات اتخذها آخر برلمان عثماني وكان يعرف بمجلس المبعوثان والذي انعقد فى 28 يناير 1928.
وربما هذه ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها أردوغان بهذه الصيغة ففي كلمته التي ألقاها في أواخر أكتوبر 2017 خلال حفل افتتاح مشاريع تنموية في ولاية “قونية” التركية، قال اردوغان أن “الشعب التركي مصمم على تبوء المكانة الصحيحة في العالم الذي يعاد بناؤه”، معتبراً أنه لا يحق لهم أن يسألوا تركيا ماذا تفعل في العراق وسوريا !
نظرية “لا يحق لهم أن يسألونا ماذا نفعل” طبقها أردوغان بشكل واضح فى إعلانه شن عملية عسكرية على مدينة عفرين وهي العملية التي أعتبرها وزير الثقافة والسياحة التركي الأسبق “أرطغرل غيناي” أكبر خطأ في تاريخ الجمهورية التركية معتبراً أن التدخل فى عفرين يفتقد للخبرة ولا يمت للسياسة بصلة، مضيفاً فى مقال له “سنرى جميعاً كيف ستتحمل تركيا فاتورة مادية، ومعنوية باهظة بسبب حرب قذرة أصبحت طرفاً فيها من الخارج، سنرى ما ستجنيه من حرب حقيقية نأمل ألا تُخلِّف وراءها خسائر فادحة”.
أهمية عفرين
تعتقد تركيا بأن عفرين هي خاصرة فيدرالية شمال سوريا الرخوة، فهي غير متصلة بمناطق الفيدرالية الأخرى، ومعزولة في الزاوية الغربية، وتحاصرها الكتائب المسلحة الموالية لأنقرة.
طول حدود عفرين مع تركيا يقارب من 135 كيلومتراً، والجيش التركي يحتشد على الجانب التركي من الحدود، ويفرض حصاراً خانقاً على مدينة ومنطقة عفرين، وقد بنى جداراً عازلاً لإحكام هذا الحصار.
تتمثل أهمية منطقة عفرين في أنها تفصل بين مناطق سيطرة ميليشات “درع الفرات” في جرابلس، الباب، وإعزاز إلى الشرق من عفرين ومحافظة إدلب في الغرب، وبالتالي فإن السيطرة على عفرين قد تحقق لتركيا تواصلاً جغرافياً على جميع المناطق الحدودية الواقعة بين مدينة جرابلس غرب الفرات والبحر المتوسط، وبالتالي يعني القضاء على أي إمكانية لتحقيق التواصل الجغرافي بين المناطق الكردية والحيلولة دون ضمنها لمناطق فيدرالية شمال سوريا، وتحقيق التواصل الجغرافي بين مقاطعات الفيدرالية السورية الشمالية.
دوافع الهجوم
تتعدد الأسباب وتتداخل الدوافع وراء العمليات العسكرية التي تشنها تركيا في عفرين. آراء متعددة ترى التدخل التركي بعيون مختلفة فبعيداً عن الهدف المعلن من العملية وهو منع الأكراد من تشكيل حزام إرهابي على الحدود التركية وحماية الأمن القومي التركي وو…
البعض يري أن سياق العملية قد يكون له أهداف خاصة بالداخل التركي وقد تكون محاولة من أردوغان للقفز إلى الأمام والهروب من الأزمة الإقتصادية وتراجع مستوى الديمقراطية وارتفاع نبرة الإنتقادات الدولية لسياسة الفصل والإقصاء بحق المعارضين.
فى مقال له بموقع “أحوال تركية” شبه الكاتب التركي “أوموط اوزقرملي” تدخل الجيش التركي في عفرين بالعملية العسكرية التي نفذتها القوات أرجنتينية عام 1982 فى جزر فوكلاند ولاس مالفيناس التي كانت خاضعة للإحتلال البريطاني.
ويذكر الكاتب فى مقاله أن النظام العسكري الذي كان يحكم الأرجنتين فى ذلك الوقت كان يواجه صعوبات جمة فى إدارة البلاد بسبب الأزمة الإقتصادية التي تسببت فى حدوث احتجاجات شعبية واجهتها السلطة بكل عنف لدرجة أن الإضطرابات بالبلاد أدت لمقتل 15 الأف شخص.
ويشير أوزقرملي إلى أن النظام وجد ضالته فى البحث عن مغامرة عسكرية خارجية وبالفعل أطلق فى 4 أبريل 1982 عملية عسكرية أطلق عليها “العملية الزرقاء” نجحت فى احتلال جزر فوكلاند ولاس مالفيناس، وقابل الشعب الأرجنتيني العملية بمظاهرات تأييد ودعم أمام القصر الرئاسي.
ويرى الباحث أن أوجه التشابه بين الأرجنتين وتركيا كبيرة فى ظل حزب واحد يحكم منذ 16 عاماً ورئيس مطلق الصلاحيات وأزمة إقتصادية ربما أقل حدة من الأرجنتين فضلاً عن تراجع مستوي الديمقراطية ونسبة اعتقالات غير مسبوقة للمعارضين وارتفاع حدة الإنتقادات الدولية، ويشير الكاتب إلى أن حرب عفرين تعتبر استنساخ تركي لتجربة النظام الأرجنتينى.
كما يرى بعض المراقبون أن الانتخابات الرئاسية المفترض إجراؤها 2019 ربما تكون أحد أسباب إنطلاق عملية عفرين خاصة أن استراتيجية أردوغان تعتمد بشكل كبير على خلق تهديد خارجي لمواجهة تحدي داخلي وهو أمر ثبت فاعليته قبيل الإستفتاء مع التصعيد الإعلامي بين تركيا وألمانيا ودول أوروبية أخري بالإضافة لعملية درع الفرات أيضا التي انتهت قبيل أيام من التصويت بالإستفتاء .
ورطة تركية
قراءة أخرى للعملية التركية على عفرين تضعها فى سياق إقليمي مختلف عن محدودية الداخل التركي، ويشير أصحاب هذا الرأي إلى أن أردوغان قد ورط تركيا فى وحل عفرين وأن مواقف موسكو وواشنطن الباهتة إلى حد كبير قد تكون متعمدة للإيقاع بتركيا فى مستنقع لن تستطيع الخروج منه منتصرة.
ويستدل أصحاب هذا الرأي على صمود قوات الأكراد فى مواجهة القصف التركي وفشل أنقرة فى التدخل البري بعد أكثر من أسبوع بحسب ما ذكر المرصد السوري الذي أكد أن القوات التركية المدعومة من الفصائل السورية لم تحرز سوى تقدّم محدود في منطقة عفرين منذ بدء الهجوم.
وبحسب خبراء عسكريون فإن طول معركة عفرين ليس في صالح تركيا فهي قد تجد نفسها في مستنقع يصعب عليها الخلاص منه قد يسنزف قواتها واقتصادها المتهاوي.
الدور الروسي
الصمت الروسي والسماح للقوات التركية بتنفيذ عملياتها فى عفرين يأتي ضمن صفقة تتوقف تفاصيلها على نتيجة معارك عفرين، ففي حال نجحت تركيا فى فرض سيطرتها فقد يتم مبادلة إدلب بعفرين بحيث تسمح أنقرة للنظام السوري بالسيطرة على إدلب مقابل سيطرتها على عفرين ويعتبر البعض إن سيطرة قوات النظام على مطار أبو الضهور العسكري بإدلب مع بدء معركة عفرين مؤشر قوي على تلك الصفقة.
أما في حال نجحت القوات الكردية في وقف العملية التركية فقد تضغط موسكو عليها للتخلي عن دير الزور للنظام مقابل تعهد روسي بعدم السماح لتركيا بمهاجمة عفرين مرة أخرى..
ختاماً .. أياً كانت نتيجة معركة عفرين فسيكون لها تأثير كبير على مجريات الأمور بسوريا وقد تتغير خرائط المنطقة وتحالفاتها، وفي كل الأحوال فالمنطقة بعد حرب عفرين تختلف عما قبلها…..
محسن عوض الله