مع كل الدماء التي تراق يوميًّا منذ القدم، وكل البلدان التي تدمر، وكل المقدرات التي تُنهب وتُخرَّب بفعل الإرهاب، وما يتبعه من أحقاد وضغائن نفسية ظاهرة وكامنة تكفي لاستمرارية العنف بين شعوب العالم لمدة قرن قادم.. مع كل هذا، لايزال الجميع (مختصون وغيرهم) مختلفين حول تعريف “الإرهاب” مع أن نتيجته عندهم جميعًا واحدة مهما اختلفت جغرافيته أو عناصره وأسبابه ومراميه!
في ظني أن هذا العجز أو التعمد أو التقصير في الوصول إلى تعريف موحد للإرهاب له بيئته الخصبة عند البعض، أفرادًا وجماعات، حكومات ومنظمات؛ لاختلاف المصالح الأيدولوجية، ولديمومة تحقيق المآرب بالأساليب العنفوية، مع إيجاد مخرج تنظيري أو قانوني يُرتكن إليه في المحافل النقاشية والمؤسساتية، إذا ما طُرح الحدث أمام العموم أو في الأروقة شبه المغلقة بين انتهازيّ المصالح، بمعنى أن الأمر يرتبط بالموقف السياسي اتجاه القائمين بالعنف وما يرمي إليه هذا العمل نحو المصالح العليا لهذا أو ذاك.
فمثلاً، إذا كانت هناك مباركة عُليا أو دولية لعمل إرهابيّ ما، يُوجّه الخطاب الإعلامي المؤثر عالميًّا لوصفه نضالاً ثوريًا تحرريًا مشروعًا تقوم به جماعة حريصة على صالح بلادهم وشعوبهم. والعكس أيضًا: إذا كان الموقف مختلفاً اتجاه نفس العمل والقائمين به، فإن الإعلام يُوجّه إلى أنهم إرهابيون، مخربون، عصاة، منشقون، متطرفون، وتوصف عملياتهم بأنها إرهابية أو أفعال إجرامية دنيئة وغادرة. ويتجلى ذلك بوضوح في تعامل بعض الحكومات وإعلامهم مع داعش، والجيش الحر، وإسرائيل، والتامييل، والبولوساريو، والكُرد… إلخ. حيث يلاحظ أن البعض يحاول الخلط بين حركات الكفاح المشروع من أجل التحرر وبين الإرهاب بأنواعه؛ من هنا تستمر حلقات الصراع في المنطقة.
إن العالم عموما ومنطقة الشرق الأوسط أمام أزمة في فهم حقيقة الإرهاب؛ فلدى البعض يُقتصر الإرهاب على ما تطلقه الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط على الحركات الإصلاحية والوطنية التي تناضل لأجل حياة حرة وديموقراطية متقدمة، مثلما الحال مع حزب العمال الكردستاني، الذي يرى من نفسه أنه يطرح مشروعًا ديمقراطيًا شاملاً ليس لتركيا فقط، وإنما لمنطقة الشرق الأوسط كلها، في حين تصفه الحكومة التركية وبعض نظائرها الدولية بأنه كيانٌ إرهابيّ.
في الوقت نفسه، تدعم بعض الأنظمة الاستبداية الإرهابيين الحقيقيين من جماعات متشددة بنت أفكارها على معلومات حادت عن مقاصد النصوص، فكفّرتْ هذا، وطغوتتْ ذاك، وتستخدمُ في تحقيق أغراضها السلاح والعنف، بما يمكن تسميته بـ “الإرهاب الديني” القائم على الدماء. بل الأشد من ذلك، أن بعض هذه الأنظمة تقوم بالإرهاب ذاته ضد شعبها الحر، من قتل ونفي واعتقال وتلفيق، وهذا يمكن تسميته بـ “الإرهاب السياسي” القائم على الدماء. وكلا الإرهابين (الديني والسياسي) إجرام لا يمت إلى أيّة إنسانية أو دين بصلة. وجامع النوعين: الانتهازية والجهل.
إن المتتبع لحالة الإرهاب تاريخيًّا يلحظ عدة حقائق:
أولا- أن الإرهاب ليس ظاهرة حديثة أو جديدة، وإنما ضارب بجذوره إلى قدم التاريخ منذ بدء الخليقة، عندما أرهب قابيل أخاه هابيل ثم قتله في نهاية الأمر لبُغية حيوانية جشعة. ومن بعده وحتى الآن تخضّبت الأرض بدماء يعيش عليها أصحاب هذه التحركات الانتهازية السلطوية، حتى أصبح الإرهاب ظاهرة من مظاهر الاضطراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني في القرون السابقة.
ثانيا- عدم ارتباط الإرهاب بأتباع دين دون آخرين، سواء أكانوا يعتنقون ديانات سماوية أم وضعية؛ فمن بين الجميع ظهرت العمليات الإرهابية لا فرق إذا كانت بين أتباع ديانة واحدة أو بين أتباع ديانات مختلفة. المهم أن السبب توفّر؛ فكانت النتيجة إزهاق الروح الإنسانية، وتمكّن حالات التسلط البرجماتي، أيًّا كان الغطاء الذي يتستر به هؤلاء. ويتضح ذلك فيما دار بين أحزاب الكهنة في مصر الفرعونية، وبين اليونانيين والرومان الوثنيين في تاريخهم، وبين المسلمين منذ فتنة عثمان بن عفان، ومن بعده علي بن أبي طالب ومعاوية، مرورًا بالفرق والجماعات والطوائف المذهبية والعرقية والتي لايزال بعضها قائمًا حتى اليوم. ثم الصليبيون في العصور الوسطى اتجاه بعضهم البعض فيما عُرف بـ”الصراع الديني” الذي راح ضحيته ملايين الناس، واتجاه غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، لاسيما المسلمين في الشام والأندلس، ثم ما بدى متفشيًا في العالم كله في العصر الحديث بحكم التسلط الاستبدادي والاحتلالي، والفوارق الطبقية والعرقية والعنصرية، والتطرف الديني.
ومن نماذج ذلك: أن هناك من يذكر أن تعبير “الإرهاب” من ابتداع الثورة الفرنسية، وأنه لم يتبلور واقعيًا إلا في عام 1793م، عندما أعلن روبسبير (Robespierre) بداية عهد الإرهاب أو الرهبة “Reign of Terror” في فرنسا (10 مارس/آذار 1793م – 27 يوليو/تموز 1794م)، ومن اسم هذا العهد اشتقت اللغتان الإنجليزية (Terrorism) والفرنسية(Terrorisme) بمعنى “الإرهاب”. فخلال الثورة الفرنسية مارس روبسبير ومن معه من أمثال سان جيست (St. Just) وكوثون(Couthon) العنف السياسي على أوسع نطاق، حيث قادوا حملة إعدام رهيبة في فرنسا، حتى قُدِّر عدد من أُعْدِموا في الأسابيع الستة الأخيرة من عهد الإرهاب 1366 مواطنًا فرنسيًا في باريس وحدها، كما تمكن هؤلاء القادة من قطع رأس 40 ألفًا بواسطة المقصلة، واعتقلوا وسجنوا 300 ألف آخرين.
ثالثا– رغم أن الإرهاب تجاوز عمره آلاف السنين فإن أسبابه طيلة هذه المدة تكاد تكون متفقة أحيانًا ومتشابهة أحيانًا آخرى، والمتغير هو الخطط والأدوات، وذلك باختلاف الزمكان، ولم يتوفر حلٌ جذريٌّ لها، بل إن بعضها يتفاقم بصورة أكبر من السابق، لاسيما العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، كغياب العدالة الاجتماعية التي تؤدي إلى تكوين بعض المغبونين والمقهورين جماعةً إرهابية أو التحاقهم بجماعة إرهابية أخرى للقيام بأعمال تخريب وتدمير.
رابعا– أن الإرهاب والتمدين التقدمي متناقضان ومرتبطان! بمعنى أن الإرهاب يتراجع وينحسر كلما أحكم المجتمع يده أكثر على أسباب التقدم العلمي، والتحضر الإنساني، والتكامل البشري المتنوع. ويتفاقم الإرهاب وتزداد خطورته في المجتمعات المتخلفة فكريًا وإنسانيًا والمتملكة فيها آفة الأناة. حتى يمكن قياس مؤشر الأبعاد الحضارية لأية أمة من الأمم بمدى انكماش الأعمال الإرهابية بينها أو في امتدادها. انظر مثلا إلى اليابان من ناحية، وإلى دول الشرق الأوسط من ناحية أخرى.
خامسًا– أن قناع الدين كان – ولايزال- أكثر الأقنعة التي تزيّ بها الإرهابيون عبر التاريخ، وكانت ثماره الدموية أكثر وأفظع من غيره من الأقنعة. حتى الملاحدة؛ فلم يكن لدى بعضهم مانع أن يتستروا بدين يخلقونه لمدة مؤقته يتم خلالها تحقيق الهدف من العمل الإرهابي، ثم يعودون إلى سيرتهم الأولى. وقد اتضح ذلك في التقديس الجسدي لبعض الزعامات السياسية والتنظيرية. والنماذج عديدة في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية والصين وكوريا الشمالية.
في الواقع، إن الإرهاب جراء التطرف الديني في منطقة الشرق الأوسط يعدّ الأقسى والأكثر وحشية في الوقت الحاضر، بعدما قوي ساعده في العدة والعتاد في السنوات الماضية، وتوسعت خططه وأهدافه، تدعمه في ذلك قوى إقليمية ودولية كبرى في وقت تقف فيه المنطقة على أعتاب هيكل (أو هياكل) جديدة أُعدت سلفاً في الأروقة الغربية، مثلما يعرف بـ “الشرق الأوسط الجديد”، أو “الشرق الأوسط الكبير”، وفي إطاره يعمل المتنافسون الكبار على ضمان أكبر قدر من مصالحهم في هذا الوضع الجديد.
لكن في المقابل، لوحظ أن الأمر لم يكن سهلا على الإرهابيين وداعميهم الإقليميين والدوليين رغم ما رُصد لهم من مساندة ودعم كبير، وذلك بظهور مشروع آخر للمنطقة متوازٍ تقريبًا في التوقيت، وإن كان متغايرًا في المضمون، ومتناقضًا في الأهداف. والذي يسمى “الشرق الأوسط الديمقراطي” لمُنظّره الزعيم الكُردي “عبدالله أوجالان” المعتقل لدى السلطات التركية منذ 1999م. حيث يدعو هذا المشروع إلى بناء أمة ديمقراطية من جميع مكونات شعوب الشرق الأوسط على أسس من العدالة والمساواة بصرف النظر عن الجنس أو النوع أو الدين، يتعايش فيه الجميع وفق نظام فيدرالي تعاوني تشاركي لا تكون السيادة فيه إلا للقانون.
وبما أن مشروع الأمة الديمقراطية لا يقبل بتسلطية الفرد أو الدولة لاستنزاف الآخرين فإنه يتعارض مع قوى دولية كبرى لا تقبل هي الأخرى أن يُسحب منها من أسسته لنفسها على مدى قرن مضى، وبما أن هذا المشروع يتعارض أيضًا مع أهداف المتطرفين الإسلامويين الذين يتوقون إلى هيمنة دينية وسياسية واقتصادية على المنطقة وشعوبها فإنهم يجدون بيئة خصبة لاستثمار الغايات المحرفة من نصوصهم؛ لجذب أكبر عدد من شباب المسلمين في العالم، ذوي العاطفة الدينية الجياشة، والمنخدعين وسطحي المعرفة، ومن هنا وُجدت “داعش”.
ومعنى ذلك، أن الانتهازية أضحت مصلحة مشتركة جمعت بين أصحاب الرأسمالية والتطرفية الإسلاموية الدموية ضد مشروع الأمة الديمقراطية. لكن مع تباين القوى الشعبية والميدانية، وتغيّر التوازنات أصبحت هناك تبدلات في المعادلات وإن كانت بشكل مؤقت، تتغير بالتطور المرحلي على أرض الواقع. فالنتيجة حاليا: تحالف دولي مع الأمة الديمقراطية في شمال سوريا ضد الإرهاب الداعشي المتطرف الذي كان يحتل قطعة واسعة من جغرافيّة المشرق العربي، حيث بدأت ملامح هذا المشروع تظهر في كل منطقة تحرر من داعش في شمال سوريا.
على كل، لقد أدى غياب الوعي والديمقراطية والعدالة، وتفشّي الجهل والاستبداد والظلم إلى أن تشهد منطقة الشرق الأوسط تطور ظاهرة الإرهاب السياسي الديني بشكل مرعب مخيف؛ خاصة بعد تخطيه حاجز العمليات النوعية المتفرقة في التأقيت والجغرافيا، وانتقاله إلى الشمولية المتواصلة (زمنيا وجغرافيا) في القتل والتدمير للأبرياء دون تمييز بين طفل وامرأة وشيخ وشاب، وتعدى ذلك إلى التمثيل بالقتلى دون سبب مفهوم، وفي كثير من الأحيان تحت خداع وطني مزعوم، وتحت شعار ديني؛ فالقاتل يقتل وسط صيحات “الله أكبر”، والمقتول ينطق الشهادتين قبيل إزهاق روحه!!
ما هذه الوحشية التي وصل إليها الإرهاب؟! لقد تجاوز الحد من القول إن الإرهاب يسبب عواقب مدمرة لقدرات الشعوب اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وأنه يُمثل عقبة كؤود أمام تنفيذ الخطط التنموية. كما تجاوز أن فردًا أو مؤسسة هنا وهناك تدعم هذه الجماعة الإرهابية، لقد أصبح أن بعض الأنظمة تعتقد أن دوامها واستمراريتها في الحكم مرتبط برواج ظاهرة الإرهاب في بلادها، حتى تبرر بقاءها وسياساتها الاستبدادية تجاه شعوبها بحجة “القضاء على الإرهاب”، وأنه “لا صوت يعلو على صوت مقاومة الإرهاب”، ولا يحق لمعارضة إصلاحية أن تعترض على الإجراءات الاستثنائية (طويلة الأمد) والسياسات التي تُحكم بها البلاد.
وقد نجحت هذه الأنظمة في خلق ظاهرة توجيهية تنظّر لهذه الحالة حتى تغرسها في أذهان الشعوب لتصبح ضرورة ملحّة، وذلك من خلال الندوات والفضائيات والإذاعات والصحف وشبكة المعلومات والكتب. ولذلك فإن حالة مناهضة الإرهاب فكريًا حاليا تمر بأزمة؛ ففي أقصى اليسار ما يصفق لسياسات المستبدين حيال الإرهاب، وفي أقصى اليمين من يتساء لون: كيف نوجّه أفكارنا الوسطية المعتدلة، ونطالب بإجراءات إصلاحية من حكوماتنا في حين أنها تتبنى موقفًا فعليًا غير موقفهم، وتسير في طريق غير طريقهم، وما يثار في الإعلام ما هو إلا استهلاك ولفت أنظار عن حقيقة ما يدور.
لذلك، فإن مواجهة الإرهاب في الشرق الأوسط تراجعت من مستوى القصور إلى مستوى التورط، في حين أن البعض لا يزال مغيّباً، وينظر إلى القضية على أنها صراع بين الإرهابيين والحكومات؛ وينتقد الدور الشعبي الذي لم يظهر في الصورة، تاركًا الأمر – في غالب الأحيان – للحكومات بأجهزتها الأمنية.
وأخيرًا: لن يتم التغلب على الإرهاب والقضاء عليه إلا بإقرار الديمقراطية، والمساواة والعدالة المجتمعية الشاملة. وقتها لن نكون في احتياج لوضع خطة عسكرية شاملة لمواجهة الإرهاب؛ لأننا سنكون قد قضينا على ثالوث التنظيمات الإرهابية: التسليح، والمال، والاتصالات.