أبحاث ودراساتافتتاحية العددفوزي سليمانمانشيتملف العدد 65

حروب الغذاء والمياه المستقبليّة في العالم

فوزي سليمان

فوزي سليمان

فوزي سليمان 
فوزي سليمان

لا يمكن لأحد الحديث عن إيجابيات الحروب خلال التاريخ الإنساني برمّته، وحتى منظرو الحروب وواضعو قوانينها وأصولها كـ “صن تزو وجياب وتشي كيڤارا” لا يمكنهم فعل ذلك، حتى إن كانت هذه الحروب مشروعة أو غير مشروعة, لأنها وببساطة شديدة لها تداعيات مدمّرة لا تشمل فقط الماديات وزهق الأرواح؛ وإنما تمسّ سائر مناحي الحياة، إلى أن وصلت في مرحلتنا الراهنة لمستويات تهدّد الحياة بالكامل.

وبنفس الشكل ترسّخ في الذاكرة الجمعية للشعوب التصادم والعداء اللذين تمتدّ آثارهما لآلاف الأعوام، وأبسط مثال على ذلك الحروب التي يبدو أنها لم ولن تنتهي، الحروب بين الديانات والمذاهب، بالإضافة إلى الحروب الاحتلالية المباشرة وغير المباشرة والتوسعية، والتي كلها تتبع استراتيجيات وسياسات وأساليب وعناوين ظاهرها شيء وباطنها شيء آخر، كأكذوبة الأكاذيب “حماية الأمن القومي” أو شماعة “محاربة الإرهاب” وإلى ما لا نهاية من الذرائع, لتتوضّح صورة واقعنا المزري المعاش على هذا الكوكب، حيث تدمير البنى التحتية للشعوب وقطع المياه والغذاء والطاقة, وفرض الحصارات والعقوبات وخوض حروب إبادة جماعية، وإجراء تغييرات ديمغرافية مقيتة، وبالنهاية سمِّيت هذه اللوحة المرعبة والمخيفة بـ “الفوضى الخلّاقة”.

الأمر الأكثر رعباً هو غياب الحلول الناجعة – على الأقل على المدى القريب – للأزمة العالمية التي تكتسح وبلمح البصر عالمنا, وإذا ما أردنا توصيف العصر الذي نحن فيه – رغم التطور الهائل في جميع مجالات الحياة – وبلا أي تردّد يمكننا القول بأنه “عصر الانحطاط” بعينه، حيث فيه ضُرِبت كل القيم الإنسانية عرض الصم والبكم والعمى, كيف لا وقد أضحى مقياس العظمة بالنسبة للدول هو مقدار وحجم ما تمتلكه من ترسانات القتل والدمار وقهر واستغلال الشعوب.

بهذا الشكل نجد أن الخطاب الحالي للجميع، وبلا استثناء، يتمحور حول الحرب فقط، وحتى الدول الصاعدة خلال منتصف القرن الماضي من حيث الصناعة والاقتصاد، انجرّت هي الأخرى إلى نفس النفق المظلم الذي لا بوادر نور فيه، حيث استبشرت بعض شعوب العالم خيراً لسطوع نجمها، إلا أنه – ومع الأسف – تبين أن أقصى طموحاتها هو أن تصبح شريكة في فرض الهيمنة على العالم، وهذا ما تم الإعلان عنه وبشكل خجول في أكثر من مناسبة. وإن لم تتحقق مطالبها، وبكلمة أصح؛ إن لم تحصل على حصتها من الأسواق والهيمنة، فإنها ستتجه ـ وفعلياً قد اتجهت ـ نحو بناء أقطاب وتكتلات وتحالفات جديدة.

بهذا الشكل تظلّ التراجيديا مستمرة، والتي على أساسها يتم التخطيط للقرن المستقبلي الذي أصيب بجنون الاستحواذ على نصيب له فيها؛ وإلّا فإنّ الحروب ستنتشر في كل جغرافية على هذا الكوكب كانتشار النار في الهشيم، كانتقال الحرب مؤخراً من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا، ليدخل العالم برمّته منعطفاً خطيراً جداً، ليس بسبب المواجهة المؤكدة بين المتصارعين القديمَين – الجديدَين الغرب الأوروبي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية وحلفائها من جهة أخرى، بل لأن هذه الحرب التي اندلعت في فبراير/ شباط 2022 كانت وما تزال تجرّ دول العالم لتتساقط كأحجار الدومينو الواحدة تلوَ الأخرى فيما لو استمرت الحرب، ولتدخل أزمات متلاحقة ألقت بظلالها على العالم أجمع وخاصة من ناحية الغذاء. هذا ناهيك عن أزمة الطاقة والغاز والمعابر المائية الدولية في البحر الأسود وبحر آزوف.

صحيح أن الحرب الفعلية هي بين الغرب وأمريكا وروسيا، إلا أنها أثّرت وبشكل مباشر وخطير على آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط والعالم. إنها فعلياً الحرب العالمية الثالثة، إذ لجأت فيها القوى المتصارعة إلى كل أدوات الضغط والتهديد بأسلحة كفيلة بتدمير الحياة عدة مرات, وواحدة من أسلحة الضغط، التي لا تقل فاعلية وخطورة من الأسلحة التقليدية المعروفة، واستخدمت بكل فظاظة هي مسألة الغذاء، والتي أضحت كسلاح في مواجهة الخصوم وغير الخصوم، ويبدو أنه سلاح فاعل في هذه الحرب، حيث ساهم في تدهور اقتصاد العديد من الدول، وخصوصاً الدول التي تعتمد على الحبوب الأوكرانية أو الروسية وبشكل خاص منطقة الشرق الأوسط. هذا الشرق الذي بالأساس يعاني من أزمات سياسية واقتصادية عميقة، ولتجعله الأزمة الغذائية أكثر عمقاً وخطورة، ويعود ذلك بالإضافة إلى الأسباب الآنفة الذكر إلى جغرافيتها التي تطغى عليها الصحراء، وكذلك إلى عدة عوامل أخرى مثل الأزمة التي خلّفتها تركيا من خلال قطع مياه الفرات عن سوريا والعراق، والحروب المستمرة منذ أكثر من عقد في العديد من دوله.

كل هذه الأسباب مجتمعة أقحمت الشرق في شلل شبه تام، وجعلت من معدلات النمو في أسوأ حالاتها، إذ إن الحرب الأوكرانية الروسية رفعت أسعار الحبوب بشكل لم يشهد له مثيل، خصوصاً بعد استخدام روسيا القمح كسلاح في حربها وفرضها حصاراً محكماً في البحرين الأسود وآزوف، بالإضافة إلى تقييد صادراتها من الحبوب إلى الخارج بذريعة العقوبات المفروضة على روسيا وعلى كيانات وأشخاص يعملون في هذا المجال. وهذا يفيد بتوقف شبه تام لإمدادات ثلث احتياجات العالم من الحبوب، وهذا هو حجم صادرات أوكرانيا وروسيا معاً إلى الخارج. وهذه كمية أحدثت خللاً في استقرار العالم ككل، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تراجعت أوكرانيا وبشكل كبير في إنتاج الحبوب، إذ يتم الحديث عن شلل 70% من القطاع الزراعي فيها، والجميع يدرك حادثة تدمير سد “كاخوفكا”، الحادثة التي أدت إلى إغراق آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية الأوكرانية، وماتزال إلى يومنا هذا تخسر أوكرانيا المزيد من الأراضي، حتى يمكننا القول بأنها غير قادرة على الاستمرار في تصدير ما كانت تقوم به سابقاً، هذا إن لم يتوقف التصدير نهائياً.

وما يزيد من أزمة الغذاء العالمية، هو اتخاذ الهند قرار حظر صادراتها من القمح بشكل تام، ولتلتحق بها الصين من خلال رفضها مقترحاً من الاتحاد الأوروبي، يتمحور حول إطلاق المحزون الاحتياطي لديها من الحبوب؛ لكبح جماح ارتفاع أسعار الحبوب عالمياً، والتي يبدو أنها لن تتوقف تصاعدياً، وتلقي بظلالها على جميع الدول دون استثناء.

بناءً على ما تقدم، ولأسباب عديدة أخرى؛ فإن الأزمة الغذائية العالمية في تصاعد مخيف، ولقد حذّرت منها العديد من المنظمات الدولية والإغاثية، ولكن تظلّ منطقة الشرق الأوسط لها حصة الأسد من هذه الأزمة، لأنّها تعتمد بشكل كبير على الحبوب الروسية والأوكرانية على حد سواء، وكذلك على الأسمدة الروسية، التي تعدّ روسيا من أكبر المنتجين العالميين لها. وإذا أضفنا إلى ذلك أزمة المياه التي أضحت أيضاً واحدة من الحروب القذرة التي يتم اتّباعها من قبل العديد من الأنظمة – ولغاية في نفس يعقوب – كمياه الفرات ودجلة التي تتحكم في مصادرها الدولة التركية، وكذلك نهر النيل والخلافات التناطحية بين السودان ومصر من جهة، ومن جهة أخرى أثيوبيا والتي تنذر وفي كل لحظة بحروب إضافية قابلة للاشتعال, ناهيك عن الحروب المدمرة في كل من اليمن والسودان وسوريا وليبيا وفلسطين ولبنان وتركيا والعراق وإيران، وما تبقّى من دول شرق أوسطية هي الأخرى مشاركة بشكل فعلي في هذه الحروب، ولكن كلٌّ حسب مصالحه واستطالته السياسية.

لهذه الأسباب يمكن القول: إنّ منطقة الشرق الأوسط ستكون وجهاً لوجه أمام كارثة غذائية إن لم تُتَّخذ تدابير ناجعة لسدّ احتياجاتها، وهو أمر لن يكون هيّناً على الإطلاق، بل تحتاج المنطقة إلى أكثر من عقدين من الزمن لتتمكن من تجاوز أزمة الغذاء هذه، لأنها في نفس الوقت تعاني من العديد من الأمور التي تطيل عمر الأزمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى