دورُ جمعيّةِ الاتِّحادِ والتَّرقيّ في ترسيخِ القوميّةِ البدائيّةِ في الشَّرقِ الأوسطِ
صلاح الدّين مُسلِم
صلاح الدّين مُسلِم
بدأ القرن العشرون بحروب في العالم بأسره، ولم تنطفئ نيرانها إلّا بعد أن رُسِمت الحدود بالدِّماء، وبعد أن تقدّست تلك الحدود وصارت تقترب من الألوهيّة، ففكرة الوطن المحدّد بسياجٍ باتت الشغل الشاغل لمنظّري الحروب وتجّارها، وصارت الشُّعوب تحتار في أمر هذه الدُّول التي لا تَشبع من الدّماء.
كان الشَّرق الأوسط أيضاً ضحيّة فكرة الدَّولة القوميّة التي ابتدعتها الحداثة الرَّأسماليّة لتضع أركانها، وتثبّت وجودها، فاندلعت الحروب في العراق وسوريّا وأفغانستان وإسرائيل – فلسطين، وتركيّا، وإيران، ومصر وغيرها من دول الشَّرق الأوسط، وعقدت المؤتمرات ووعود إنشاء دول، وإزالة شعوب، لتُقام، وعلى مَرِّ التّاريخ، تحالفاتٌ ضُدَّ إرادة الشُّعوب، وتَمَّ إضفاء الطابع الميثولوجيّ والتأليهيّ لرموز القوميّة، فصار القادة آلهة القرن العشرين؛ أمثال مصطفى كمال أتاتورك، وجمال عبد النّاصر وصدّام حُسين وغيرهم من المنادين بألوهيّة اللّغة والعرق والدَّولة، وصارت القوميّة الأيديولوجيّة الرَّسميّة لأيّ دولة ناشئة، وصارت عُصبة الأمم حقيقةً راسخةً في توطيد نظام الدَّولة القوميّة، ولسان حال الأمم، فكأنّ هذه الدّول هي حقيقة قائمة معبِّرة عن الأمم، شاءت الأمم أم رفضت، وكأنَّها صارت قانوناً إلهيّاً.
كانت بدايات القرن العشرين حافلةً بالتغييرات الجيوسياسيّة، الفكريّة، السِّياسيّة والاجتماعيّة، وخاصَّةً بعد الحرب العالميّة الأولى، واتّسمت أعوام ما بعد 1918 بتسارعٍ كبيرٍ في رَسمِ معالِمِ تفتيت منطقة الشَّرق الأوسط، إضافةً إلى نشوء الفكر القوميّ، وهو الفكر الجديد المُختلَق الذي كان طارئاً على سيرورة التّاريخ الشَّرقيّ الفكريّ والاجتماعيّ والسِّياسيّ والثَّقافيّ، وهذا ما جعل المفكّرين المتأثّرين باللّيبراليّة الغربيّة وأفكار الثَّورة الفرنسيّة وخاصَّةً في مصر التي كانت في علاقات مفتوحة مع فرنسا منذ استلام مُحمَّد علي باشا الحكم في بدايات القرن التّاسع عشر.
كانت مبادئ القوميّين برّاقة في تبنّيهم أفكار الحُرّيّة والعدالة والمساواة، في شَدِّ المجتمعات إلى هذه الأفكار الطوباويّة في ظِلِّ الحكم الديكتاتوريّ للإمبراطوريّة العثمانيّة التي كانت في أوج قمعها مع استلام السُّلطان عبد الحميد الثّاني الحكم، وتغلغل جمعيّة الاتِّحاد والترقيّ في مفاصل الدَّولة، لا سيَّما وُلاة الشَّرق الأوسط العثمانيّين المُنخرطين في صفوف هذه الجمعيّة الفاشيّة.
كان السُّلطان عبد الحميد الثّاني آخر سلطانٍ فعليٍّ للإمبراطوريّة العثمانيّة، لأنَّ من تلاهُ كان مُجرَّداً من القوَّة السِّياسيّة. وقد تميَّزَ العهد الحميديّ بالمجازر الدَّمويّة حيث ارتكبت المذابح الأرمنيّة، من جهة، وازدادت المطامع الصهيونيّة بأرض فلسطين، من جهة أخرى.
لقد تحوَّلَ نظام الحكم في الدَّولة العثمانيّة من المَلكيّ المُطلق إلى المَلكيّ الدُّستوريّ، وأُعيد العمل بالدُّستور العُثمانيّ سنة 1908م، فسيطر حزب الاتِّحاد والترقيّ على أغلب مقاعد البرلمان، وكان لصعود هذا الحزب الفاشي تأثيرٌ كبيرٌ على فشل الدَّولة العثمانيّة، وانهيارها، بسبب رفضه لتطلّعات جميع الشُّعوب غير التُّركيّة، وكذلك رفض معظم الشَّعب التُّركيّ المُسلم هذه اللُّغة القوميّة الفاشيّة الجديدة، تلك اللّيبراليّة الغربيّة الغريبة عن النَّمط الشَّرقيّ الذي كان سائداً في الإمبراطوريّة العثمانيّة.
كانت تصرُّفات الوالي المنتمي لحزب الاتِّحاد والترقيّ؛ جمال باشا السفّاح غريبةً وشاذَّةً وغير متداولة عندما كان والياً على العراق، وقد دامت ولايته لبغداد حوالي سنة تقريباً، وكان لا يهتمُّ بالمظاهر الدّينيّة، فكان يحضر الحفلات الرّاقصة التي كانت تقيمها الجالية الأوروبيّة التي كانت تسكن بغداد حينها، فلم يكن المجتمع الشَّرقيّ آنذاك قد ألِفَ هذا الأمر من قبل في زمن أيِّ والٍ عثمانيٍّ سابقٍ.
بَقِيَ النِّظام الملكيّ الدّستوريّ، حتّى انهارت الدَّولة العثمانيّة بعد عشر سنوات، إثر مشاركتها في الحرب العالميّة الأولى إلى جانب الإمبراطوريّة الألمانيّة التي خسرت الحرب، وخسر العثمانيّون معها.
استسلمت السَّلطنة العثمانيّة لِلحُلفاء سنة 1918م، وانتهت الدَّولة العثمانيّة بصفتها السِّياسيّة بتاريخ 1 نوفمبر/ تشرين الثّاني سنة 1922م، وأزيلت بوصفها دولة قائمة بحكم القانون في 24 يوليو/ تمّوز سنة 1923م، بعد توقيعها على معاهدة لوزان، وزالت نهائيّاً في 29 أكتوبر/ تشرين الأوَّل من نفس السَّنة عند قيام الجمهوريّة التُّركيّة، التي تعتبر حاليّاً الوريث الشَّرعيّ للدَّولة العثمانيّة، فبدأت الحقبة الجديدة للإمبراطوريّة العثمانيّة، مع ترسيخ بُنية الدَّولة عبر سيول من الدِّماء والمجازر، من خلال تطعيم هذا الشَّرق بهذا اللَّون الجديد الغريب عن تاريخه، وما زالت إلى هذه اللَّحظة تعيش الشُّعوب في تركيّا في أزمات وقضايا مستعصيّة، والحَلُّ الوحيد الذي تنتهجه الدَّولة التُّركيّة هي سياسة القمع والقتل والمؤامرات والدَّسائس والمناورات والكذب والنِّفاق.
في الذِّكرى المئة للثَّورة الفرنسيّة عام 1889؛ شُكِّلت جمعيّة سُرّيّة سمّيت “جمعيّة الاتِّحاد والترقيّ” على أيدي طلّاب المدرسة الحربيّة والمدرسة الطبيّة العسكريّة وكان هدفها الوحيد هو عزل السُّلطان عبد الحميد الثّاني، وإعادة الحياة الدّستوريّة للدّولة، وكان وراء التشكيل ماسونيٌّ ألبانيٌّ يدعى “إبراهيم تيمو” أو “أدهم”، كما يدعى أحياناً. أخذت أفكار هذه الجمعية تنتشر بين طلّاب المدارس العُليا في العاصمة، وانتشرت خارج البلاد بين المنفيّين الأتراك في باريس وجنيف والقاهرة، وأصدرت مجلة “عثمانلي” في جنيف لبَثِّ أفكارها والترويج لها.
أخذت الحركة تتطوَّر بشكل سريع داخل الدَّولة وخارجها، فقامت الدّول الأوروبيّة والمنظَّمات الماسونيّة واليهوديّة باحتضانها، وفق رأي بعض المؤرِّخين. في ذاك التَّوقيت؛ بدأ الصهاينة بالتحرّك لخلع السُّلطان عبد الحميد، وكان للسَّفارات الخارجيّة الدَّور الأكبر في دخول الصحف والمنشورات المعادية للسُّلطان داخل صفوف ومؤسَّسات الدَّولة وتوزَّع على التشكيلات الدّاخليّة بسُرّيّة.
اكتُشِفت هذه الجماعة في 1897، فتَمَّ نفي الكثير من أعضائها وفَرَّ بعضهم إلى باريس، فأرسل السُّلطان مدير الأمن العام الفريق الأوَّل “أحمد جلال الدّين باشا” لاستمالتهم للعودة، فأقنع أكثرهم ومنحهم مناصب كبيرة في الدَّولة، إلا أنَّ “أحمد رضا بك” أصَرَّ على البقاء في باريس مع حفنة من مؤيّديه، ولم يترك السُّلطان المحاولة في استمالة هؤلاء، فأمر سفرائه في الدّول الأجنبيّة بالضغط على الحكومات التي تساعد المنظَّمة، وأرسل أناساً لها بهدف عمل الانقسامات الدّاخليّة بين صفوفها. انضَمَّ “داماد محمود جلال الدّين باشا” صهر السُّلطان هو وابنيه “صباح الدّين” (الذي أشيع اسمه لاحقاً بلقب “السُّلطان الأحمر” الذي قاتل الأرمن مع السُّلطان عبد الحميد وسَرَّب المعلومات للصحافة الأوروبيّة مع ابنه “لطف الله” .[1]
انتشرت الجمعيّة في ولايات الدَّولة، منها مصر التي كانت بريطانيا قد احتلّتها في وقت سابق، وأصبحت ملاذاً لأفرادها الهاربين. إلا أنَّ مدينة “سالونيك”، الموجودة في اليونان الآن، ظَلَّت المركز الأساسيّ لنشاطات الجمعيّة السِّياسيّة والعسكريّة. أثارت شعارات الاتِّحاديّين عن “الحُرّيّة، العدالة، والمساواة” بعض الجماعات العربيّة وساعدتهم على قلب نظام الحكم. فما بين 4 إلى 9 فبراير/ شباط 1902 م أقيم في مدينة باريس “مؤتمر العثمانيّين الأحرار”، وحضره جميع المناهضين ضُدَّ حكم عبد الحميد وعلى رأسهم جمعيّة الاتِّحاد والترقيّ. خلال تلك الأيّام اتّخذوا العديد من القرارات، أبرزها: تقسيم الإمبراطوريّة إلى حكومات مستقلّة استقلالاً ذاتيّاً وعلى أساس قوميّ. رفض “أحمد رضا بك” هذه الفكرة، إلا أنَّ الأغلبيّة أيَّدت القرار، كما رفض “أحمد رضا بك” رئيس المؤتمر و”علي حيدر بك بن مدحت باشا” قرارات المؤتمر ولم يوقِّعا عليها. بعد ذلك انقسمت المعارضة، وقرَّرَ الاتِّحاديّون العمل وحدهم في “مقدونيا” والحصول على تأييد الجيش الثالث المرابط هناك. ترك هؤلاء باريس كونها مركزهم السّابق، وأسَّسوا مركزاً صغيراً في “سالونيك”، وتبعته شعبة في “مناسطر”، ومع مرور الوقت انضَمَّ الكثير من المدنيّين للجمعيّة، وتبعهم أشخاص ذوي مراكز عليا.
لقد أدَّى سقوط الدَّولة العُثمانيَّة إلى ولادة مُعظم دُول الشَّرق الأوسط المُعاصرة، بعد أن اقتسمت المملكة المتّحدة وفرنسا التَّرِكَة العُثمانيَّة في العراق وبلاد الشّام، بعد أن انتزعت منها سابقاً مصر وبلاد المغرب.[2]
كان الحاكم الفعليّ للإمبراطوريّة العثمانيّة هو حزب الاتِّحاد والتَّرقيّ الفاشي، فقد سيطر على الحكم عام 1908، فبدأ العثمانيّون حينها بارتكاب مجازرهم ضُدَّ الأرمن. ومع اندلاع الحرب العالميّة الأولى، وتحديداً في إبريل/ نيسان 1915 بدأت المجازر الأرمنيّة، وضُدَّ الآشوريّين والسُّريان والكلدان، وقُدِّرَ عدد القتلى الأرمن بمليون ونصف وعدد القتلى السُّريان والآشور بنصف مليون.
ويذكر الكاتب العفرينيّ “عبد الله قره مان” في كتابه “وطن الشَّمس”: ” كانت النُّواة الأولى لجمعيّة الاتِّحاد والتَّرقيّ مجموعة بيروقراطيّة تركيّة موالية لألمانيا، وقد تحالفت مع عدد من المستثمرين اليهود وشكّلت جمعيّة الاتِّحاد والتَّرقيّ، حيث كان معظم مؤسِّسي الاتِّحاد والتَّرقيّ ينحدرون من أصول مختلفة غير تركيّة، ويعيشون تحت سُلطة الدَّولة العثمانية، أمثال: مُحمَّد رشيد بك (شركسي)، إبراهيم تمّو (ألباني)، إسحق سكوتي (كُرديّ – آمدي)، عبد الله جودت (كُرديّ – ملطي)، علي حسين زادة (آزري)”[3]
لقد كانت وعود جمعيّة الاتِّحاد والتَّرقيّ برّاقة كما هي عادة التيّارات القوميّة البدائيّة، في تبنّي شعارات الثَّورة الفرنسيّة، ما لفت الانتباه إلى أنَّ شعارات القوميّين متشابهة، وكُلّها مستمدَّة من مصدر واحد ألا وهو الثَّورة الفرنسية، (الحُرّيّة، العدالة، والمساواة)، وهي أيديولوجيّة مُستمدَّة من حركة التَّنوير الأوروبيّ، وقد رفع أغلب رجال النَّهضة شعارات الثَّورة الفرنسيّة، كما تأثَّروا تأثراً بالغاً بفلاسفة عصر التَّنوير الأوروبيّ. فقد عارضت جمعيّة الاتِّحاد والترقيّ السُّلطة المركزيّة للدَّولة العثمانية، وهذا ما أثّر على حركة التَّنوير العربيّة، فقد عارضت هي أيضاً المركزيّة، ولعلَّ كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، للكاتب “عبد الرَّحمن الكواكبيّ”، أهَمَّ كتاب سياسيّ – اجتماعيّ معارِض، تمّ تأليفه في تلك المرحلة.
رفض مصطفى كمال أتاتورك والجمعيّة الوطنيّة بنود معاهدة “سيفر”، التي تنصّ في إحدى بنودها على قيام حكومة كُرديّة في الولايات الشَّرقيّة والجنوبيّة، إذ طالبت أكثريّة الكُرد بها بعد سنة من المعاهدة، وكان هناك بند آخر يقول بتشكيل لجان تحقيق في جرائم القتل والتَّهجير.[4]
بالمقابل تسلَّم “ونستون تشرشل” رئاسة مؤتمر القاهرة عام 1921، وكان حينها وزير دولة لشؤون المستعمرات، وكانت الغاية من المؤتمر مناقشة مستقبل العراق ومستقبل العرب والكُرد وإقامة دولة لليهود، ومحاولة تخفيف الإنفاق على المستعمرات البريطانيّة في الشَّرق الأوسط، ورسم سياسة لشعوب الشَّرق الأوسط من خلال تطعيمها بالأفكار القوميّة، وترسيخ الدَّولة القوميّة، وتحويل الاستعمار القديم إلى شكل جديد أقلَّ كُلفةً من الاستعمار المباشر.
لقد لخّص “ونستون تشرشل” النِّقاش حول الكُرد في المؤتمر بقوله: “إنّ حكومة عربيّة في المستقبل العراقيّ، ومن ورائها جيش عربيّ، ستتجاهل طموحات وأماني الشَّعب الكُرديّ وستضطّهده كأقلّيّة؛ إن لم يُتَحْ للشَّعب الكُرديّ المجال ليحكموا أنفسهم بأنفسهم، وإذا صيرَ إلى إلحاقهم بالدَّولة العربيّة الجديدة (العراق)؛ فإنَّ أيَّ أميرٍ شريفيٍّ مهما بدا ديمقراطيّاً ومتّسماً بروح الحياد، وما إن يَجِدْ نفسه أصبح في موضع قوَّةٍ؛ ليس ببعيدٍ أن يقف في سبيل الطموح القوميّ للشَّعب الكُرديّ ومصالح الكُرد كأقلّيّة عنصريّة، ولذلك يبدو ألّا سبيل توفيقيّاً للمصلحة البريطانيّة إلّا لإقامة دولة كُرديّة مستقلّة عازلة بين العراق الجديد وتركيّا الحديثة”.[5]
لقد استتبَّ الحكم لجمعيّة الاتّحاد والتَّرقيّ ومصطفى كمال أتاتورك وحزبه الفاشي الدّيكتاتوريّ بإلغاء السَّلطنة العثمانيّة عام 1922 وإعلان الجمهوريّة عام 1923 وإلغاء الخلافة الإسلاميّة عام 1924، “فكانت الأنظمة السِّياسيّة التي تألّفت في أوروبا بعد الحرب العالميّة الأولى نتيجة الزَّعامة الفرديّة هي حكومة الحزب الواحد ووحدة الدَّولة والحزب، وقد أصبحت تلك النَّماذج الأوروبيّة المثال الذي احتذت به الحركة الكماليّة حتّى نهاية الحرب العالميّة الثانيّة”.[6]
وللمفكّر الثّائر عبد الله أوج آلان رأي آخر في مصطفى كمال أتاتورك، فيراه ضحيّة هذه التَّحالفات، وكانت القيادة الفعليّة بيد يهود “الدونما”، والصَّهاينة والبريطانيّين، و”عصمت إينونو”، و”فوزي جاقماق” وغيرهم من قيادات جمعيّة الاتِّحاد والترقيّ الذين أضفوا الطابع الميثولوجيّ على “مصطفى كمال”، وجعلوه إلهاً، رفعوه إلى السَّماء ليمارسوا دورهم في ترسيخ القوميّة الفاشيّة، فيقول في هذا الصدد: “فالحملةُ التي قادَها مصطفى كمال باشا في ظلِّ هذه الظروف، كانت مثيرةً وبالغةَ الأهميّةِ في آنٍ معاً. إذ من المعلومِ أنَّه أُقصِيَ من قِبَلِ كوادرِ السُّلطةِ الاتِّحاديّين. ومن العسيرِ كونُه مُوالياً للإنكليز، بسببِ وضعِه المُتمرِّد. بالتّالي، فوضعُه أَشبَهُ بحالِ “روبسبيير” أكثر منه بنابليون في الثَّورةِ الفرنسيّة.. وكان مصطفى كمال قد تحدَّثَ في الاجتماعِ الصحفيِّ الذي عقدَه في “إزميت” مطلعَ عامِ 1924 عن أوسعِ آفاقِ “الاستقلالِ الذّاتيّ”، أي عن شبهِ الاستقلالِ الدّيمقراطيّ غيرِ المستندِ إلى الحدود، كنموذجِ حلٍّ معنيٍّ بالكُرد. لكن، وفي الفترةِ التي شهدَت الوفاقَ مع الإنكليزِ ضمن نطاقِ الميثاقِ الملليِّ حول كردستان العراقِ الرّاهنة، بدأَ خطوُ الخطواتِ على سياقِ أخطرِ المؤامراتِ المُستهدِفةِ للكُرد. وثنائيّةُ “إمّا الجمهورية أو الموصل وكركوك”، التي فرضَها الإنكليزُ على رئاسةِ مصطفى كمال؛ إنَّما كانت تُشَكِّلُ المبادرةَ السِّياسيّة الكامنةَ وراء تلك المؤامرة”.[7]
وبالنِّسبة للشَّعب الكرديّ؛ فقد كان ضحّيّة ترسيخ هذه السِّياسات الإقصائيّة للهيمنة البريطانيّة واليهوديّة والتَّحالف مع رموز القوميّة البرجوازيّة المحلّيّة التي ارتأت مصالحها ومنافعها الشَّخصيّة في ترسيخ مبادئ الإبادة والصهر والتَّطهير العرقيّ، وفرض نظام الدَّولة القوميّة المتحالفة مع الرَّأسماليّة العالميّة، والتي تجعل من الدّول القوميّة حقيقةً راسخةً كلّ الرُّسوخ.
وكان الشَّعب الكرديّ ضحّيّة وساطته بين الدّول والمجتمعات، وَصِلَة الوصل ما بين مجتمعات المنطقة، حيث يخبرنا التّاريخ والحاضر بوجود علاقات مجتمعيّة مترسّخة ما بين الشَّعب الكُرديّ والشُّعوب “العربيّة، التُّركيّة، الفارسيّة، الأرمنيّة، السُّريانيّة”، فإقصاء الكُرد عن السّاحة السِّياسيّة يعني ضرب العلاقات المجتمعيّة، وتشتيتها، لسهولة السَّيطرة على تلك المجتمعات والشّعوب، كما أنَّها تُرسِّخ مبادئ المواطنة الصارمة. ويقول المفكّر عبد الله أوج آلان في هذا الصدد: “إنَّ الحِراكَ الكُرديَّ القائمَ في الفترةِ ما بين عامَي 1925 و1940، والذي سُعِيَ إلى الحُكمِ عليه ووصمِه بالتمرُّدِ الرَّجعيِّ على نظامِ الجمهوريّة؛ هو حِراكٌ يهدفُ من حيث المضمونِ إلى الحفاظِ على الوجودِ الذّاتيِّ في وجهِ الفاشيةِ التُّركيّةِ البيضاء، وإلى التصدّي لحملةِ تصفيةِ الهُويّةِ الكُرديّة. فالكُردُ كشَعبٍ كانوا قد ساهموا من الصميمِ في حربِ التَّحريرِ الوطنيّةِ وفي تشييدِ صرحِ الجمهوريّةِ، على حدٍّ سواء. وكونُهم ساهموا كعناصر أصليّين، هو أمرٌ منصوصٌ عليه في وثائقِ جميعِ الاجتماعاتِ المُهمَّة، ومعاهدةِ “أماسيا”، ووثائقِ مؤتمرَي “أرزروم وسيواس”، والعديدِ من قوانينِ البرلمانِ التُّركيّ، بل وحتّى في دستورِ تركيّا الأساسيِّ لعامِ 1921. فما يُشَكِّلُه التحرُّرُ الوطنيُّ بالنسبةِ للشَّعبِ التُّركيّ، إنَّما يحملُ معانيَ مشابهةٍ بالنِّسبةِ للشَّعبِ الكُرديِّ أيضاً. حيث لَم تُؤَسَّسْ الجمهوريّةُ باعتبارِها جمهوريّةَ الأثنيّةِ التُّركيّةِ الخالصة، بل كانت شُيِّدَت اعتماداً على البنى الأثنيّةِ التعدّديّةِ وفي مقدِّمَتِها الكُرد، وكانت أُضفِيَت عليها مثلُ هذه المعاني. علاوةً على أنَّ هُويَّةَ الكادحين وهُويَّةَ الأمَّةِ الإسلاميّةِ كانتا تُعتَبَران هُويَّتَين مؤسِّستَين. هذا وكان الدَّعمُ السّوفييتيُّ علنيّاً. لكن، وعندما تَمَّ تبنّي التيّارِ التُّركيّاتيِّ للتّقاليدِ الاتِّحاديّة، والذي يرتكزُ إلى مفهومِ الأثنيّةِ الواحدةِ كأيديولوجيّةٍ رسميّة؛ أُقصِيَت جميعُ العناصرِ الأخرى كأمرٍ لا مهرب منه. وأدَّت أبسطُ مطالبةٍ لهم بحقوقِهم إلى الإبادة”.[8]
ويمكننا إنهاء هذه المقالة بقول للمفكّر الثّائر عبد الله أوج آلان: “لقد كانت ثوراتُ الأمّةِ الدّيمقراطيّةِ المتناميةُ في بلادِ الأناضولِ وميزوبوتاميا فيما بين عامَي 1919 – 1922 ثمرةً من ثمارِ نضال الشُّعوبِ بالفعل. وتحالفُ الشُّعوبِ هو الذي كان كَلَّلَ تلك الثَّوراتِ بالنَّصرِ المؤزَّر. وكافَّةُ التَّصريحاتِ التي أدلى بها حينذاك قائدُ هذه الثَّوراتِ مصطفى كمال، إنَّما تُشيدُ بهذه الحقيقة. لقد كان الشَّعبان التُّركيّ والكُرديُّ يُشَكِّلان العنصرَين الأصليَّين المُكَوِّنَين للثَّورةِ الوطنيّة. وعلى الصعيدَين الأيديولوجيِّ والسياسيِّ أيضاً، كانت التيّاراتُ التُّركيّةُ والكُرديّةُ واليهوديّةُ (حركة الدونما) والشركسيّةُ الوطنيّةُ من جهة، والتيّارات القوميّةُ الإسلاميّةُ والشّيوعيّةُ من الجهةِ الأخرى ضمن تحالفٍ فيما بينها. بالتّالي، فالنَّصرُ المُحرَزُ بهذا التَّحالف، كان عبارة عن ثورةٍ وطنيّةٍ ديمقراطيّةٍ ضُدَّ الإمبرياليّةِ وأزلامِها المتواطئين معها”.[9]
[1] ويكيبيديا – الموسوعة الحرّة – بتصرّف
[2] المصدر السابق
[3] وطن الشمس – تاريخ كردستان بين سنوات (1847 -1947) – الكاتب: عبد الله خليل قره مان – دار شلير – القامشلي – الطبعة الثانية 2020
[4] موقف التيار الإسلاميّ والتيّار العلماني في تركيا من القضيّة الكرديّة – د. وليد رضوان – دار النهج – حلب – الطبعة الأولى 2008
[5] القضيّة الكرديّة في مؤتمر القاهرة 1921 (الإشكاليّة والأبعاد) – الكاتب: سيهانوك ديبو – دار شلير – القامشلي – الطبعة الثانية 2021 – الصفحة 124
[6] أكراد تركيا – الكاتب: د. إبراهيم الداقوقي – دار المدى – بيروت – الطبعة الأولى 2003 – الصفحة 186
[7] مانيفستو الحضارة الديمقراطيّة – الجزء الخامس – الكاتب: عبد الله أوج آلان – ترجمة: زاخو شيار – مطبعة آزادي – القامشلي – نيسان 2013الصفحة 451
[8] المصدر السابق – الصفحة 274
[9] المصدر السابق – الصفحة 508