الصراع والعداء التركي الفرنسي تاريخه، وأسبابه
جمال علو
- مفهوم العداء والصراع
- نشأة الدولة الفرنسية الحديثة
- نشأة الدولة العثمانية
- بداية التقارب السياسي بين الممالك الأوروبيّة وإماراتها والدولة العثمانية
- التحالف الفرنسي العثماني كان في عام 1536م
- مشروع ملك فرنسا شارل الثامن في الاستلاء على القسطنطينيّة
- جذور ومسببات الصراع والعداء العثماني الفرنسي والغرب
- ببروز الدولة الطورانية العثمانية التركية كقوى على أطرف الشمالي من الحوض المتوسط
- العداء الفرنسي العثماني وحملة نابليون بونابرت على المستمرات العثمانية
- ظهور المسألة الشرقية تعني بروز أهمية الممرَّين المائيين؛ الدردنيل والبوسفور
- مواقف الدول الفاعلة من الدولة العثمانية/بريطانية
- الحرب العالمية الأولى
- اتفاقية سايكس بيكو الانكليزية الفرنسية في 1916
- اتقافية “سيفر” عام 1920 قد نصت صراحة على إقامة دولة كردية وأخرى أرمنية ضمن حدود تركيا الحالية
- استمرار حروب الفرنسية العثمانية التركية حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانيّة
- الوضع الراهن وتصاعد العداء والخلاف الفرنسي التركي
- أبعاد العداء والخلافات الفرنسية التركية وتشابك قضاياها الجيو – السياسية
- المراجع والمصادر
مقدمة
يقصد بالصراع بأنّه حالة متناقضة سببها التعارض الحقيقي في التفكير أو التناقض فيما بين الاحتياجات والرغبات أو السلوكيات أو القيم أو الأيديولوجيات أو تشابك المصالح، فالصراع قد يكون داخلياً. في الشخص نفسه أو خارجيّا. بين شخصين اوبين مجموعة من الافراد. او مجموعات بشرية، التنافس والاختلاف قد تتطور حتى وصل إلى الحقد والكراهية ثم الصراع أو النزاع فالعداء.
مفهوم العداء والصراع
يشمل كثيراً من جوانب الحياة الاجتماعية ما بين البشر كاختلاف في الرؤى، أو في وجهة نظر أو اختلاف في المصالح، أو خلاف اجتماعي أو تعارض وتنافس على المصالح ما بين الطبقات
أو شرائح أو مجموعات، والتي تؤدي إلى صراع أو نزاع عنيف دموي كالحروب والغزوات، والأمثلة كثيرة عبر التاريخ التي كان سببها الاختلاف بين العشائر والقبائل أو جماعات أو منظمات أو حضارات أو إمبرطوريات أو حتى دول في التاريخ الحديث. وسببه الرئيس هو التنافس والصراع على الثروات أو الخيرات أو على الجغرافيا التي تمتلك موادّ أولية غنية، أو على مناطق استراتيجية، بالمختصر أن الصراع هو قانون ناتج عن حتمية تطور المجتمعات وفرض حتميته على الجوانب الحياتية منذ بداية الخليقة نتيجة عدم سيطرة القيم والأخلاق على توجيه الرغبات والدوافع الغريزية، وقد بدأ من صراع الإنسان مع نفسه ومع أخيه الإنسان وحتى مع الطبيعة التي تحتضنه في الوجود بغية الديمومة والامتلاك، ثم الاستيلاء سواء كان معرفياً ذاتياً أو فطرياً غريزياً، لذا يستوجب على الكائن البشري أن ينظّم سلوكياته بالوجدان وبذكاء وعقلانية في جميع جوانب حياته الاجتماعية والمجتمعية، وإلا فسوف تتحول الرغبات والمتناقضات إلى تنافس واختلاف ثم إلى تناقض في المصالح ثم إلى صراع، فنزاع فعداء ثم ينتقل إلى بلاء فحروب ثم دمار وفناء.
١- الصراع كمفهوم أو مصطلح: يتحدّد الصراع من خلال تحديد الظروف الموضوعية للموضوع أو من خلال المادة عند بروز العقدة أو المشكلة، فعندما نقول: مجموعتان أو شريحتان مصالحهما متناقضة، فالتعبير الذي يمكن أن يفسره هو الاختلاف فالصراع أو النزاع، إذاً يمكن القول: – إن طبيعة الصراع والنزاع هي التي تولّد الكراهية والحقد ثم العداء.
٢- موضوعنا ليس البحث في مفهوم أو طبيعة الصراع أو أشكال الصراع أو كيف يتطور الصراع إلى نزاع أو إلى أزمات ثم إلى عداء فحروب.
يمكن أن نعرّف الصراع أو العداء على أنه ظاهرة اجتماعية تتضمن حالة من الضغط أو عدم الارتياح أو عدم القبول الناتج سواء بين الأفراد أو المجتمعات على حد سواء. إن جميع المتغيرات تحدث بين رغبتين أو أكثر لصراع ما، سواء كان نفسياً داخلياً أو خارجياً كصراع المجتمعات وصراع المصالح بين الشعوب وبين الطبقات، وصراع المجتمعات كصراع الأعراق والحضارات إلخ.
المدخل إلى الموضوع
نشأة الدولة الفرنسية الحديثة:
إن اندلاع الثورة الإنكليزية في عام ١٦٨٨ والثورة الأمريكية في عام ١٧٧٦ وخاصة الفرنسية في عام ١٧٨٩ تلك الثورة التي كان الفقر أهم أسبابها، واتّسمت بالاضطرابات السياسية والاجتماعية التي انهار من خلالها النظام الملكي، وتم الإعلان عن الجمهورية في عام ١٧٩٢ وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت في عام ١٧٩٣، الثورة التي غيرت وجه العالم والتي أدت إلى بناء لبنة لنشوء الحضارة الحديثة.
كانت فرنسا من أوائل الدول التي تطورت في منتصف القرن السابع عشر وتمكنت من أن تصبح دولة ذات نفوذ قوي على الصعيد العالمي، بعد أن كانت تواجه مشاكل اقتصادية جمة جراء السياسات الخاطئة التي اتبعها الملك لويس الرابع عشر، مما أدى في نهاية الأمر إلى ثورة الشعب المقهور التي عُرفت بالثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، وكان لها تأثير كبير وعميق على أوربا والشرق الأوسط والعالم برمته، حيث انتهت بسيطرة البرجوازية بتحالفها مع الجنرال نابليون بونابرت، وأثمرت عن تصدير أزمتها إلى المستعمرات من خلال التوسع، لتصبح إمبراطورية فرنسية ذات شأن كبير، فكانت الثورة الفرنسية حدثاً محورياً في تاريخ العالم. وبصعود نابليون بونابرت إلى سدّة الحكم في فرنسا مع لعب كتابات مفكرين وفلاسفة تلك الفترة مثل إيمانويل جوزيف والكونت دي ميرايو وماركيزدي لافاييت ولويس أنطوان وجورج دانتون ونابليون بونابرت وغيرهم، الذين كان لهم الفضل الأعظم في وصول فرنسا إلى ركب الحداثة والتطور الحضاري بعدما كانت قبل الثورة مقسّمة إلى ثلاث فئات:
(ا- الكهنة ورجال الدين ب- الارستقراطيون والإقطاعيون ج- وفئة عامة الشعب.)
فرجال الدين كانوا خاضعين للذهنية الخرافية الميتافيزيقية وكانوا يحتقرون العلم والعلوم التجريبية، ويعتقدون أنّه ليس بالإمكان أفضل ممّا كان، وكلّ شيء موجود في النصوص الدينية المقدسة، وبالتالي لا داعي للبحث عن الحقيقة من خلال العلوم التجريبية والعلمية، وكانوا خاضعين ومستسلمين للمسلمات اللاهوتية والطائفية والمذهبية التي أوصلت المجتمع إلى الهلاك والضياع ثم الركود فالانحطاط.
ممّا لا شكّ فيه أن الحتمية المادية والجدلية التاريخية والصراع المجتمعي ستتولد من حاضنتها شخصيات عظيمة وفلاسفة يؤمنون بالعلم والعلوم والمعرفة والنور الذي سيقودنا إلى اكتشاف الحقائق والحقيقة، ذلك أنّ العقل الفلسفي الذي يُضيء طريق المجتمعات في اكتشاف ما في جوف الأرض وما يحيط بها، والوصول إلى المادة وقوانيين الطبيعة، الأمر الذي أدى إلى اكتشاف الآلة والمخترعات الحديثة التي تريح الإنسان من بذل الجهد العضلي، وتحقق الرفاهية، بالفعل لقد نجح مشروع التنوير في أوربا وقضى على مخلفات الأصوليين، ذلك المشروع التنويري نهض بالحداثة والحضارة الحديثة إلى غزو الفضاء وكشف الكواكب والمجرات إلخ…
نشأة الدولة العثمانية
العثمانيون قوم من الأتراك ينتسبون من وجهة النظر الأثنية إلى العرق الأصفر أو العرق المغولي، ويُرجِع بعض المؤرخين نشأة الإمارة العثمانية إلى حوالي ١٣٠٠م، بينما يرجع البعض الآخر إلى ١٣٨٠م، عندما توفي آخر سلاطين دولة السلاجقة الروم؛ السلطان غياث مسعود الثالث، حيث كانت الإمارة العثمانية تابعة للدولة السلجوقية، ولم يكن للعثمانيين بروز قبل ١٣٠٠م، لقد ساهم وتسبّب الغزو المغولي المتوحش للمنطقة في هجرة البعض من القبائل التركية من وسط آسيا إلى الأناضول، ثم تعاظمت هجراتهم وخاصة إبان انتصار السلاجقة على البيزنطيين في معركة ملاذ كرد، وتنسب الدولة العثمانية إلى مؤسسها عثمان بن أرطغرل الذي ولد في عام ١٢٥٨ من قبائل الآغوز التركية التي هاجرت من موطنها الأصلي آسيا الوسطى ليستقر في كنف دولة سلاجقة الروم في عام ١٢٨١ وتولى عثمان بن أرطغرل سيداً على العشيرة وبدأ بالتوسع حتى تمت السيطرة على أنقرة عام ١٣٥٤م، ثم بدأ التوسع نحو الغرب إلى أن تمت السيطرة على أدرنة ثم قلعة جناق، أي “جناق قلعة”، وبعد عدة معارك مستفيداً من تمزق الشعوب السلافية تمت السيطرة على قسطنطينية أي إسطنبول الحالية بقيادة محمد الفاتح، فتوغّل العثمانيون في البلقان ثم غيّروا وجهتهم نحو شرق المتوسط والشمال الإفريقي.
الجذور التاريخية للصراع والعداء الفرنسي العثماني
مما لا شكّ فيه أن أوربا وعلى رأسها فرنسا قد سعت باستمرار وبلا هوادة لتحقيق أطماعها في السيطرة على حوض المتوسط والسواحل الشمالية لإفريقيا والوصول إلى شرق المتوسط بكل ما أمكن، وكانت فرنسا على رأس الدول التي شاركت في أحلاف بغية السيطرة على شرق المتوسط، فكان أول تحالف بين فرنسا وإسبانيا إبان الملكية، وكان من أولويات أهدافه هو الوقوف في وجه الزحف العثماني نحو الغرب، وحاول الحلف الفرنسي الإسباني مراراً إخراج العثمانيين من شرق القارة أي البلقان الأوربية وحتى الأناضول بغية السيطرة على الممرات والمضائق المائية كمرمرة والبوسفور.
مشاركة فرنسا في الحلف الغربي ضد السلطان بيازيد الأول
جاء تخوفاً من تنامي القوة العثمانية وبالتالي عجز الممالك والإمارات الأوروبية في التصدي والوقوف في وجههم، فقد وجّه “بونيفاس” بابا روما دعوة تاريخية لتشكيل تحالف قوي ضد العثمانيين بلغ تعداد مقاتليها ١٢٠ ألف مقاتل، وكان على رأسهم المقاتلون الفرنسيون تحت إمرة وقيادة نبلاء فرنسا. إن مشاركة فرنسا في التحالف ضد السلطان محمد الفاتح لمنعه من التوسع نحو البلقان، ثم مشاركة فرنسا في حلف أوربي ضد السلطان بيازيد الثاني ابن السلطان محمد الفاتح في معارك خليج ليبانتو باليونان في عام ١٤٩٩ خير دليل على جذور العداء التاريخي.
بداية التقارب السياسي بين الممالك والإمارات الأوروبية والدولة العثمانية
حدث ذلك في أواخر عهد السلطان بيازيد الثاني ومن بينها فرنسا، وكانت فرنسا إحدى المحطات التي ينتقل فيها الأمير جم شقيق السلطان بيازيد الثاني الذي نازعه أخاه السلطان على السلطة وفشل في طموحه، فلجأ إلى فرسان يوحنا في جزيرة رودس، فطلب السلطان بيازيد أن يحافظوا عليه مقابل أن لا يغزو جزيرتهم، ولكن عارض الطلب كل من ملك مجر وإمبراطور جرمانيا فطلبوا من فرسان رودس أن يسلموا الأمير جم لأخذه أسيراً، ولكن رفض الفرسان ذلك لأنه كان يريد استخدامه كعامل ضغط لإضعاف الدولة العثمانية في سبيل إيقاعهم في حروب داخلية، وبقي هناك يتنقّل مع الفرنسيين إلى أن توفي في مدينة نابولي الإيطالية.
التحالف الفرنسي العثماني كان في عام١٥٣6م
شهد عام ١٥٣٦ عقد أول تحالف دبلوماسي وعسكري متناقض في الإيديولوجيا بين الفرنسيين والعثمانيين، فالأولى مسيحية والثانية مسلمة، وذلك بطلب من الملك الفرنسي فرانسوا الأول من السلطان العثماني سليمان القانوني بغية المساعدة في الوقوف في وجه التوسع الإسباني بقيادة الملك شارلكان وبرفقة الإمبراطور الروماني، وما إن تم الإعلان عن التحالف الفرنسي العثماني حتى بدأت الكنيسة الأوربية الكاثوليكية بمهاجمة هذا التحالف المعلن بوصفه أثيماً، الأمر الذي سبّب إحراجاً واضحاً لفرنسا في العالم المسيحي والكاثوليكي بالأخص، وبرغم معارضة الكنيسة لذلك فقد استمر التحالف ليخدم مصالح الطرفين في سبيل العمل لفرض هيمنتهم على الممرات والطرق التجارية البحرية لحوض المتوسط، من خلال منح ميناء طولون الفرنسي للعثمانيين الذي حولوه إلى قاعدة عسكرية من أجل الإسراع في السيطرة على سواحل الشمال الإفريقي.
مشروع ملك فرنسا شارل الثامن في الاستيلاء على القسطنطينية
يُذكر في صفحات التاريخ أن شارل الثامن كان يرغب في تنفيذ مشروع كبير يهدف من ورائه الاستيلاء على قسطنطينية إسطنبول الحالية والإطاحة بالدولة العثمانية، وخطط للوصول إليها عن طريق البندقية وجعْلها قاعدة ليتوجه منها إلى ألبانيا، فلما شرع في الإغارة على إيطاليا إبان زمن البابا إسكندر، خشي حكام نابولي والبندقية من تعاظم شأن الفرنسيين فوضعوا لهم العراقيل، إذ أرسلوا للسطان بيازيد ليُعلموه بما ينوي شارل الثامن، واستمر الصراع إلى أن غزا سليمان القانوني جزيرة رودس عام ١٥٢٢م فتم الاستيلاء على الجزيرة.
التقارب والتحالف الفرنسي والدولة العثمانية في ١٥٣٦
وكان هذا التقارب بين ملك فرنسا فرنسوا الأول والسلطان العثماني سليمان القانوني، فهذا التحالف يرجع إلى عدة أسباب منها بروز العثمانيين كقوة ومحاولات التوجه نحو أوربا والاستيلاء على الطرق البحرية، ورغبتهم في التوسع إلى شمال إفريقيا وشرق المتوسط، فتخوّف الملك فرانسوا من التقارب بين الإمارات والممالك الأوربية والدولة العثمانية مما يؤدي إلى تحالف يشكل خطراً على المصالح الفرنسية.
جذور ومسبّبات الصراع والعداء العثماني الفرنسي والغرب
تكمن جذور الصراع في ثلاث ركائز وحتميات أساسية وهي:
- أهمية حوض مياه البحر الأبيض المتوسط ٢- شرق المتوسط كبقعة استراتيجية كونية للتنافس عليه ٣- أهمية وميزة سواحل شمالي إفريقيا للدول المتصارعة وقربها من فرنسا.
هذه النقاط الأساسية هي التي حددت المسارات السياسية للدول المتصارعة على هذه الجغرافيا الاستراتيجية والبقعة الهامة من العالم، والتي تسببت في تشابك مصالح الدول في التنافس والاختلاف والصراع ثم إلى العداء.
يكتسب البحر الأبيض المتوسط أهميته كونه يتوسط العالم بجغرافيته ذات البعد الاستراتيجي والمؤثر منذ بدايات التاريخ، وله بعد اقتصادي هائل بدءاً من المواد الأولية التي يمتلكها مروراً بالممرات المائية وطرق العبور والخلجان والجزر، ثم الدور التاريخي والحضاري لهذه الجغرافيا التي كانت بوابة انطلاق البشرية والآدمية والحضارات والأديان منذ فجر التاريخ، هذه الجغرافيا كانت مهداً للحضارات التي نمت وشيدت على سواحلها وضفاف أنهارها كالنيل ودجلة والفرات، وكانت حاضنة للتقدم والازدهار، وملتقى امتزاج وتعايش جميع الحضارات والثقافات، فزادت أهميتها في القرن السادس عشر نتيجة المتغيرات التي حصلت على المستوى العالمي باكتشاف العالم الجديد ونجاح الثورات وخاصة الثورة الصناعية في أوربا، والتي يُعتبر حوض المتوسط رئة يُتنفس منها، فتطور وتضخم اقتصاده مما أدى إلى تغيير موازين القوى بين الشرق والغرب، فأنتج مخاضاً لولادة ونشأة صراعات بين الدول والقوى الكبرى في سبيل السيطرة على الطرق التجارية سواء كانت برية أو بحرية، واستثمار أحواض البحيرات والسيطرة على المساحات لضرورة فتح الأسواق أمام المنتجات التي أنتجتها الثورة الصناعية.
بروز الدولة الطورانية العثمانية التركية كقوة على الطرف الشمالي من حوض المتوسط
ثقافة الغزو والتوسع الشرسة الإجرامية والدموية وباستثمارها للأصولية الدينية في احتلالها جغرافية شعوب البلقان وشرق المتوسط والسواحل الجنوبية للشمال الإفريقي أدت إلى تصادمها مع بحّارة وأساطيل الإمبراطورية الإسبانية والملكية الفرنسية، التي كانت مسيطرة على حوض وممرات البحر المتوسط، وتلتها بعد ذلك الجمهورية الفرنسية. وبعد أن تمكنت الطورانية العثمانية من إخضاع ممالك سوريا ومصر في ١٥١٦ و١٥١٧ م فضلاً عن مناطق واسعة من أوربا وانتزاع سواحل إفريقيا من الهيمنة الإسبانية، وباستيلائها على جزيرة ريودس المسيحية الواقعة على الطريق التجاري بين إسطنبول القسطنطينيّة والإسكندرية في عام ،١٥٢٢ وإعطاء السلطان فرماناً بإخلاء الجزيرة نهائياً خلال اثنى عشر يوماً لانسحاب كل سكانها منها، وبالفعل في كانون الثاني عام ١٥٢٣ غادرت ٥٠ سفينة محمّلة بالفرسان والجرحى مع خمسة آلاف من السكان الجزيرة وبينهم الأستاذ الأعظم للفرسان “فاليري دياساي”، أدى كل ذلك في سبيل تأمين الحدود الشرقية للمتوسط، مما أدى إلى تعمق الصراع والعداء بين أوربا وخاصة إسبانيا والدولة الفرنسية مما أدى إلى انتعاش المسألة الشرقية والتي كانت السبب الرئيس في اندلاع الحرب العالمية الأولى في المستقبل.
العداء الفرنسي العثماني وحملة نابليون بونابرت على المستعمرات العثمانية
بدأت الحملة بمصر حيث جهزت فرنسا حملة عسكرية ضخمة بقيادة الجنرال نابليون، كان الهدف منها الدفاع عن المصالح الفرنسية في حوض المتوسط والسواحل الشمالية لإفريقيا وشرق المتوسط، بعد أن تعاظم النفوذ التركي العثماني في شرق المتوسط وشمال إفريقيا والحجاز والعراق، وتطورِ العلاقات العثمانية الإنكليزية، مما أصاب المصالح الفرنسية بالضرر، لذا انطلقت الحملة من ميناء طولون الفرنسي في عام ١٧٩٨ بقيادة نابليون وغادرت الحملة بثلاثمئة سفينة حربية مجهّزة بالعتاد والخبراء لدراسة الأوضاع متوجّهة إلى السواحل المصرية الشمالية. وكانت أهدافها الأساسية:
- جعل مصر قاعدة استراتيجية وعسكرية يُبدأ منها لتوسيع مستعمراتها وجعلها قاعدة
لتشكيل إمبراطوريتها الحديثة - الوقوف أمام تطور العلاقات العثمانية الإنكليزية
- تضييق الخناق على العثمانيين وتلقينهم درساً
- السيطرة على طرق التجارة العالمية
- العمل على فتح قناة بين البحر الأحمر والبحر المتوسط لنقل طريق التجارة البحرية من رأس الرجاء الصالح إلى قناة السويس، لإحراج وضرب وعرقلة أسطول التجارة الإنكليزية الذي يربط شبه الجزيرة الهندية بالمملكة المتحدة.
قبل الغزو قدّم “شارل مجالون” القنصل الفرنسي بولاية مصر العثمانية تقريراً مفصّلاً إلى الحكومة الفرنسية عن ضرورة غزو مصر والاستيلاء على ثرواتها ومنتجاتها وتجارتها لحرمان الدولة العثمانية منها، ولقد تحركت الحملة وفي طريقها تم الاستيلاء على جزيرة مالطا للتحكم بالطرق التجارية وجعلها قاعدة للتواصل مع المركز وقطع الطريق أمام السفن الإنكليزية والعثمانية، فوصلت الحملة إلى الإسكندرية المصرية وتم احتلالها بعد مقاومة أهلها وحاكمها محمد كريم، وتابعت الحملة طريقها حتى وصلت إلى القاهرة في ٢٥ يوليو عام ١٧٩٨ عندما سمع نابليون أن الأتراك يعدّون لاستعادة مصر بمساعدة الإنكليز، فأعدّ ثلاثة عشر ألف مقاتل من جيشه وتوجّه إلى سوريا وفلسطين في ١٠ فبراير عام ١٧٩٩ واستولى على العريش وغزة ويافا ثم عكا، ولكن لم يتمكن من السيطرة عليها نتيجة مقاومة أهلها وحاكمها أحمد الجزار، فعاد إلى مصر بعدما سمع أنباء عن نزول قوات تركية إنكليزية في خليج أبي قير، فتوجه شمالاً وانقضّ على الجيش التركي فألحق به الهزيمة. وكان من أهم نتائج هذه الحملة هو ظهور المسألة الشرقية.
ظهور المسألة الشرقية يعني بروز أهمية الممرَّين المائيَّين الدردنيل والبوسفور
ما بين حوض المتوسط وحوض البحر الأسود، مما أدى إلى ظهور تحالفات استراتيجية من قبل القوى الفاعلة، وكان ذلك نتيجة الصراع لتقاسم ميراث وأملاك الدولة العثمانية
أسباب ظهور المسالة الشرقية:
- ضعف الدولة العثمانية نتيجة التنافس العائلي على السلطة
- السياسات الشوفينية والعنصرية التي مارسها السلاطين بحق شعوب المستعمرات
- تدنّي ثقافة الدولة ونجاح الثورة الصناعية في أوربا
- انتشار الفساد في نظام الحكم في مركز وولايات الدولة العثمانية
- ظهور دول متطورة وقوية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والقياصرة الروس، وتنافسهم على ممتلكات الدولة العثمانية
- وعي ونهوض الشعور القومي في مستعمرات الدولة العثمانية والممارسات القذرة بحق الشعوب الأصلية في المنطقة وكشف خداعهم الدين المسمى بقميص آل عثمان.
مواقف الدول الفاعلة من الدولة العثمانية – بريطانيا مثالاً
التي عملت بسياسة التوازنات في تفتيت وتوزيع أملاك السلطة مع إبقاء أراضي الأناضول وجزء من البلقان بيد الأتراك لاستثمارهم كشرط للحفاظ على التوازن ما بين البحرين المتوسط والأسود. أما موقف فرنسا وروسيا فكان حازماً وهو تفتيت الدولة كلياً، أما ألمانيا وإيطاليا فقد شكلتا محوراً مع السلاطين ضد الحلفاء مما أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى.
الحرب العالمية الأولى:
عُرفَتْ حينئذٍ بالْحَرِبِ الْعُظْمَى، نشبت بدايةً في أوروبا من 28 يوليو 1914 وانتهت في 11 نوفمبر 1918. أسبابها متعددة لكن سببها المباشر: اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند، لكنّ أسبابها الجوهرية متعددة ومنها التنافس والأطماع، والصراع على الخيرات والأسواق، وتوزيع مستعمرات العثمانيين.
اتفاقية سايكس بيكو الإنكليزية الفرنسية في 1916
هي معاهدة سرية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت المسيطرة على تلك المنطقة في الحرب العالمية الأولى، واعتمدت الاتفاقية على فرضية أن الوفاق الثلاثي سينجح في هزيمة الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى ويشكل جزءًا من سلسلة من الاتفاقات السرية التي تأمل في تقسيمها، وقد جرت المفاوضات الأولية التي أدت إلى الاتفاق بين 23 نوفمبر 1915 و تاريخ 1916، وهو التاريخ الذي وقّعت فيه الدبلوماسية الفرنسية والإنكليزية الاتفاقية، وتم خلالها توزيع المستعمرات العثمانية في شرق المتوسط والشمال الإفريقي وتقزيم العثمانيين فيما بعد.
اتقافية “سيفر” عام 1920 قد نصت صراحة على إقامة دولة كردية وأخرى أرمنية ضمن حدود تركيا الحالية
لقد تمكن “أتاتورك” من دفع الدول الغربية خلال اتفاقية “لوزان” إلى التخلص من بنود اتفاقية “سيفر” بهذا الخصوص، وهو ما يعدّه الأكراد “خيانة” غربية لتطلعاتهم وحقوقهم القومية، خاصة أن الحكومات التركية اللاحقة قمعت بالقوة عشرات الثورات والانتفاضات الكردية، وقد كان لافتاً إصدار العشرات من المنظمات والهيئات الكردية في الذكرى السنوية لاتفاقية “لوزان” بيانات دعت فيها الأمم المتحدة وسويسرا ومعظم المنظمات الدولية الحقوقية إلى إعادة الاعتبار للبنود الواردة في اتفاقية “سيفر” بخصوص إقامة دولة كردية، والاعتراف بما أسمته “الإبادة العثمانية والتركية للأكراد” على غرار ما جرى للأرمن، لذا ينادي الرئيس التركي بالتخلص من “لوزان”،
والجواب المختصر هو الروح الاستعمارية، إذ أن العدول عن “لوزان” والعودة إلى الميثاق الملي يعني العودة إلى احتلال تركيا أراضي شاسعة من شمال سوريا والعراق ومناطق من اليونان، بل إن تركيا تريد تطوير الميثاق الملي على شكل “عثمانية جديدة” تهدف إلى احتلال وتوسيع نفوذ تركيا في مناطق بليبيا ودول أخرى في الجوار الجغرافي، مثل شمال قبرص والقوقاز وغيرها من المناطق التي تعدها تركيا جزءاً من أمنها القومي.
ولعل هذا ما يفسر النزعة العسكرية التركية في القوس الجغرافي الممتد من إدلب في شمال غرب سوريا إلى شمال العراق وإقليم كردستان، مروراً بمدن دير الزور والرقة والموصل وكركوك وصولاً إلى السليمانية، إذ تتحدث تركيا عن “حقوق تاريخية” لها في هذه المناطق، ولسان حال الرئيس التركي أردوغان يقول إما أن تكون هذه المناطق تحت نفوذ تركيا أو أن تقلب تركيا الحدود على أهلها، ما يوضح النزعة التوسعية الاستعمارية التركية.
لقد شهدت الحرب الأولى ضحايا بشرية لم يشهدها التاريخ من قبل، وسقطت السلالات الحاكمة والمهيمنة على أوروبا، وانهارت السلطة العثمانية، وتم تغيير الخارطة السياسية لأوروبا. وتعدّ الحرب العالمية الأولى البذرة للحركات الأيديولوجية كالشيوعية وصراعات ونزاعات مستقبلية كالحرب العالمية الثانية، بل وحتى الحرب الباردة.
أنتجت الحرب العالمية الأولى بروز الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، ثم سطوع بريق النازية في ألمانيا، كونها خسرت في الحرب العالمية الأولى وتركت الكثير من الأمور معلّقة إلى بعد الحرب.
وأخذت الحروب شكلاً جديداً في أساليبها بتدخل التكنولوجيا بشكل كبير في الأمور الحربية، ودخول أطراف لا ناقة لها بالحروب ولا جمل وهي كالشعوب المظلومة والشرائح الاجتماعية المدنية.
استمرار الحروب الفرنسية العثمانية التركية حتى بعد وقف الحرب العالمية
استمرت سلسلة من النزاعات والصرعات والحروب التي خاضتها القوات الفرنسية في كيليكيا برفقة الفيلق الفرنسي الأرمني ضدّ الحكومة المؤقتة التركية، في الفترة ما بين مايو 1920 وأكتوبر 1921 امتداداً للحرب العالمية الأولى، ما يؤكد مدى الاهتمام الفرنسي بتطبيق اتفاقية سايكس بيكو مع الاتفاقية الفرنسية الأرمنية (1916) التي أدت إلى إنشاء القوات الأرمنية تحت قيادة الجيش الفرنسي لاحتلال عاصمة الخلافة العثمانية إسطنبول من قبل قوات المملكة المتحدة وفرنسا في 13 نوفمبر 1918 إلى غاية 4 أكتوبر 1923م، وتم الوصول إلى هدنة ما يسمى بهدنة “مودروس”، التي أدت إلى تقسيم الإمبراطورية العثمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. دخلت القوات الفرنسية أولاً إلى المدينة في 12 نوفمبر 1918، تلتها القوات البريطانية في اليوم التالي.
هبطت القوات في إسطنبول بعد هدنة مودروس، وانتقل الجيش الفرنسي إلى تشوكوروفا بما يتماشى مع سرية اتفاقية سايكس- بيكو، والتي أعطت فرنسا السيطرة على سوريا العثمانية وجنوب الأناضول، بما يتضمن المواقع الاستراتيجية المحورية في سهل تشوكوروفا الخصيب، وموانئ مرسين والإسكندرونة، ومناجم النحاس في إرغاني من جهة أخرى، وكانت أراضي بلاد الرافدين الخصيبة وولاية الموصل (حيث كانت حقول النفط من أولويات البريطانيين، وتبعاً للاتفاقية سيتولى البريطانيون السيطرة عليها، وتتقدم القوات الفرنسية نحو مدينتي عنتاب ومرعش، ثم سيطر الفرنسيون بحسب اتفاقية ساكس بيكو على مناطق جنوب الأناضول المخصصة لهم في الاتفاقية.
الاحتلال الفرنسي لآسيا الصغرى: كان أول ما فعله الجيش الفرنسي هو السيطرة على مناجم الفحم العثمانية ذات الأهمية الاستراتيجية، وكان الهدف هو السيطرة على موارد الطاقة تلك وتلبية احتياجات الجيش الفرنسي، كما مُنع توزيع الفحم في الأناضول، والذي كان يُستخدم في أنشطة لدعم التمرد ضدّ الجيش التركي.
في مارس 1919، اتّجه زورقان فرنسيان إلى ميناءَي زنغل داك وقرة دنيز إرغلي على البحر الأسود للسيطرة على منطقة تعدين الفحم التركية. وبسبب المقاومة التي واجهتها فرنسا في عامها الأول في المنطقة، بدأت القوات الفرنسية في الانسحاب من قرة دنيز إرغلي في 8 يونيو 1920. واصلت القوات احتلالها في زنغل داك، حيث احتلت المدينة بأكملها في 18 يونيو 1920
وكانت العمليات الرئيسية في تراقيا تهدف إلى دعم الأهداف الاستراتيجية للحلفاء. دخل لواء فرنسي القسطنطينية في 12 نوفمبر 1918. وفي 8 نوفمبر 1919، وصل الجنرال الفرنسي فراشيه داسبيري وهو القائد الأعلى لقوات الحلفاء إلى الدولة العثمانية- القسطنطينية للتنسيق مع حكومة الاحتلال.
سقوط مدينة بورصة العاصمة العثمانية السابقة ذات الأهمية الاستراتيجية في شمال غرب الأناضول: وقعت في أيدي القوات الفرنسية أيضاً لفترة وجيزة قبل الهجوم الصيفي الكبير للجيش الأرمني عام 1920، والذي سقطت فيه المدينة بالكامل.
الوضع الراهن وتصاعد العداء والخلاف الفرنسي التركي
لقد ذكرنا فيما سبق مدى أهمية واستراتيجية حوض البحر الأبيض المتوسط، وما حوله من جغرافيا، نتيجة تقاطع المصالح الاستراتيجية وتشابك القضايا الجيوسياسية، وتصاعدَ وتفاقمَ بشكل واضح التوتّر الفرنسي التركي في الآونة الأخيرة حيث توضحت الاتهامات المتبادلة بينهما نتيجة تضارب مصالحها، وخاصة في سوريا وشرق المتوسط وليبيا وجنوب المتوسط بخوص عملية ما يسمى “الأطلسي” الأمنية، أي مناورات لحماية أمن أوربا والتهديدات العسكرية مختلفة الأشكال، حيث يُكشف عن حجم الخلاف الفرنسي التركي العثماني، وفي تصريح من الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون “إن الدور الإجرامي لتركيا في سوريا وليبيا لا يبعث الخير للمنطقة”. بالمقابل اتهمت تركيا فرنسا بلعب دور خطير في دعمها لقوات المشير حفتر، إذ لا يبدو أن انسحاب فرنسا من عملية الأطلسي الأمنية في المتوسط خطوة مؤقتة أو عابرة، ولا تبدو وحدها منزعجة من تركيا، فالاتحاد الأوربي بشكل عام يتوجس من الدور التركي الأحادي في منطقة المتوسط، انطلاقاً من احتلال أجزاء من سوريا ومهاجمة تركيا للقوات الكردية المتمثلة بقسد في شمال سوريا، والتي تعمل مع التحالف الدولي في مواجهة التنظيم الإرهابي داعش، مروراً بتنقيب تركيا عن الغاز في منطقة اقتصادية تابعة لقبرص التي تعتبرها فرنسا وأوروبا أمراً غير شرعي وغير قانوني دولياً، وصولاً إلى تحويل تركيا كنيسة متحف آية صوفيا إلى مسجد، الأمر الذي أزعج الأوربيين.
وتأتي المسالة الليبية في صدارة الخلافات الفرنسية التركية عبر انتهاك تركيا حظر السلاح الذي فرضته الأمم المتحدة في ليبيا، ويرى المتابعون والمحللون أن مناخ التصعيد والتوتر حادّ وجارٍ بين الطرفين، وهذا يؤكد أن منطقة شرق المتوسط هي منطقة الصراعات والأزمات، وإن حاولنا أن نخوض ولو قليلاً في خضم التحولات والمتغيرات التي حدثت منذ عشرة أعوام فقط والتي سوف تحدث أكثر في الأشهر القادمة، يتأكد كما أكّده التاريخ أكثر أن المناطق الدولية تشهد صراعات ونزاعات عسكرية حادة، سواء كانت بالنيابة أو مباشرة، وتأتي سوريا ولبنان والعراق وليبيا في المقدمة كونها تقع في بقعة استراتيجية من هذا الحوض. وللتذكير فقط فهناك حادثة تعكس حجم التوتر في هذه الجغرافيا، حيث أعلنت فرنسا تعليق مشاركتها في عملية الأطلسي الأمنية بسبب تعرّض إحدى سفنها ومضادّاتها لإشعاعات من رادار السفن التركية، هذا ما أعلنته فرنسا، وبالتالي أعلنت فرنسا الانسحاب من عملية الأمن البحري لحلف شمال الأطلسي في منطقة المتوسط وذلك بسبب الخلاف مع تركيا، وأعلنت متحدثتها أن في أجواء التوتر الشديد بين باريس وأنقرة قررنا سحب وحداتنا مؤقتاً من عملية سي غرديان، واعتبرت فرنسا أنّ الخطوة التركية تصرّف عدائي تجاه فرنسا، وتؤكد مجريات الأحداث أنه بلغ التنافس والصراع التركي والفرنسي حدّ العداء والصدام الاستراتيجي في ليبيا، حيث وقفت كل من فرنسا وروسيا ومصر والإمارات بجانب المشير خليفة حفتر المتمركز في شرق ليبيا، ووقفت تركيا مع حكومة السراج ومقرّها العاصمة طرابلس، وتعالت التهديدات والانتقادات الفرنسية لتركيا متهمة إياها وبشكل صريح بأنها قامت بنقل العديد من الإرهابيين من أنحاء العالم إلى سوريا ومن سوريا إلى ليبيا، معتبرةً الدورَ التركي إجراميّاً، وصرّح ماكرون أن تركيا مسؤولة عن الإجرام في سوريا وليبيا، مما يؤكد صحة ما نصبو إليه بأن المصالح الفرنسية متناقضة وعميقة في حوض المتوسط والمشرق.
أبعاد العداء والخلافات الفرنسية التركية وتشابك قضاياها الجيوسياسية
مما لا شكّ فيه أن سياق الجدل الدائر بين فرنسا وتركيا يتوضح لكل متابع للأحداث بأنه ليس موضوع النزاع الليبي أو قضية تنقيب تركيا عن الغاز قرب السواحل القبرصية فقط، بل يتعدى ذلك، فالنزاع في سوريا يشكل مصدراً هاماً من مصادر توتر العلاقات الفرنسية التركية برغم التفاهم على مواجهة النظام السوري الحالي وتحميله مسؤولية الجرائم المرتكبة، فعندما توجّه تركيا قواتها العسكرية لمواجهة القوات الكردية الممثلة بقوات سوريا الديمقراطية المعروفة باسم “قسد” تحت مسمى مواجهة إرهاب حزب العمال الكردستاني، ترى فرنسا ومعها الأوربيون أن تركيا تتصرف بشكل غير عقلاني، فمحاربة تركيا للقوات الكردية التي تتعاون وتتحالف مع الحلف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش وجبهة النصرة، ليس محض صدفة.
ثانياً- قبرص ساحة أخرى من ساحات التوتر بين فرنسا وأوروبا من جهة وتركيا من جهة أخرى، إنّ الانتهاكات التركية تجاه قبرص واليونان ترجع إلى سبب اقتصادي واستراتيجي خالص بعيد كل البعد عن مسببات محاربة الإرهاب، في وقت دعم توقف تركيا في التنقيب عن الغاز والمواد الأولية قبالة سواحل قبرص وحوض المتوسط، والحفر لاستكشاف الجيولوجيا، مما اضطرت فرنسا وأوروبا إلى توجيه تحذير شديد اللهجة لتركيا بأن تركيا مستمرة بسياساتها العنصرية المجحفة بحق شعوب المنطقة، ودسّ السمّ بين مكونات المجتمع القبرصي وتقسيم قبرص على أساس أثنيّ.
ومن أهم الأسباب الرئيسة السبب غير المعلن بدور تركيا في دسّ ونشر ثقافة الخبث الأصولي بين المجتمع الأوربي، عن طريق جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني من أبناء الجالية التركية والإسلامية في أوربا، مما يرى العقلاء في أوربا أن تركيا تلعب دوراً غير أخلاقي يشكل خطراً على الثقافة والأمن القومي الأوربي، وهذا ما جعل فرنسا وبعض الدول الأوربية الأخذ بالوقوف في وجه طموحات تركيا في الانضمام إلى النادي الأوربي، ناهيك عن قيادة تركيا للتنظيمات الإرهابية وزجّها في مناطق التوتر لإثارة الفوضى وضرب مصالح الشعوب، وجعلها بذرة لإثارة المشاكل والنزاعات وابتكار الأساليب لغزو واقتطاع أجزاء من دول الجوار، واستثمارها لخدمة مصالحها الشوفينية، فمثلاً في سوريا وليبيا والعراق وأرمينيا وباكستان.
إن قوى مراكز القرار العالمي ليست غافلة عمّا تقوم به تركيا، وإننا كمتابعين نرى أنه سيتعمّق الخلاف والصراع والعداء، وسيجلب المآسي على كل الشعوب إن لم تتوحد القوى الديمقراطية الخيّرة والوقوف بوجه قوى البطش والسلب والنهب والشر والحقد والإجرام.
المراجع والمصادر
1- تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، خليل أينالجك، ترجمة محمد أرناؤوط، دار المدار، بنغازي، 2002
2- تاريخ العثمانيين، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، بيروت، 2013
3- كتاب الاتفاقيات أيفيان، تأليف بن يوسف خدة، دار المطبوعات الجامعية، الجزائر 2016 م
4- الحرب العالمية الأولى، عمر الديراوي، دار العلم للملايين، بيروت 1999م
5- اتفاقية سايكس – بيكو وأثرها على بلدان المشرق العربي، محمد عبد الحميد سعد، المصرية للنشر والتوزيع، 2021 م
6- الصراع الفرنسي في الشرق، جيمس بار، ترجمة سلافا الماغوط، دار الحكمة، لندن 2018 م