دراسة في كتاب “في نقد العقل الشرقي”
للمؤلف بولات جان ـ الجزء الأول
عواس علي
بداية وجدت نفسي أمام بوابة الشرق واقفاً أتهيأ للدخول إلى عالم ضبابي بكل معنى، فلمحت المعارك بغبارها الهائج حتى بلغت عنان السماء، ثم تفقدت رمحي وترسي، لكن في البداية لم أجرؤ على الدخول، لأن الشرق له فرسانه الخاصون، فالحق ليس متاحاً لأي شخص لولوج عتبة الشرق، الشرق المعتم المكتظ على ساكنيه، المقدس للموت والنابذ للحياة، فالشرق الطافح بالروحانية والخالي من المادية، قلاعه حصينة. تفقدت أثر الباحث “بولات جان”، فوجدته قد أمعن الخوض في عباب الشرق، مرة أصاب الهدف ومرة جانبه، أردت أن أتفقد أغوار ما قدّمه من تحليل وتركيب للعقل الشرقي مرة بطريقة استنباطية ومرة بطريقة استقرائية، وددت أن أجعل القارئ الشرقي يطّلع على حقيقته بطريقة سهلة من خلال ما رآها الباحث، وسواء وُفّقت في نقل الحقيقة أم لم أوفق؟ فهذا حكم يتطلب من الإنسان الشرقي الاطلاع على كتاب الباحث بولات جان.
ارتأيت أن أبدأ من حال الإنسان الشرقي كباحث يسعى وراء الاستشراق البعيد عن عبق الشرق ورائحته، فأردت أن ألفت النظر بداية إلى الباحث الشرقي من خلال أسئلة:
ـ هل من الصحيح أن الشرق لا يطربه مزمار الحي، فنجد كماً هائلاً من الندوات والحوارات في التلفزة عن كتّاب غربيين وباحثين من الغرب يتم استسقاء آرائهم عن الشرق؟
ـ هل من الصحيح أن الشرق يتمتع بروحانيته والغرب بماديته؟
ـ ماذا جلبت حضارة الشرق للشرقي سوى الأديان المكبّلة له؟
ـ هل من الصواب أن نقول إن الشرقي يخاف من مبضع الطبيب ويتجه إلى التداوي بالتعاويذ والتمائم بدل العلاج بمواد علمية، أواللجوء إلى العلاج الغربي كونه حائز على ثقة الشرقي بدل العلاج الشرقي الذي لا يثق به حتى صانعه؟
ـ لماذا الشرقي دائم التباهي بماضيه؟ هل الجواب ينحصر في كون الشرقي لا يملك حاضره؟
ـ لماذا يرمي الشرقي بأسباب الهوائل التي تصيبه على الغرب؟ وهناك عدو دائم مبتذل للسلطات الشرقية، ثم يتم توجيه الشعوب الشرقية لمحاربته؟
ـ الشرقي يتباهى بالأقوال، وليس فيه من الأفعال ما يتطابق مع الأقوال.
ـ ثم ما سرّ تقديس الشرق للموت والأموات؟
هل من الصحيح لو قلنا أن كتاب بولات جان، لو كان لباحث أو كاتب غربي لرأينا الشرق بكافة وسائله الإعلامية المسموعة والمرئية يسرده، ويتناوله في حوارات وأبحاث مطولة، لكن الباحث كونه من الشرق فمزمار الشرق لا يطرب الشرقي.
“بولات جان” رجل من الشرق تعمّق في دراسة ذهنية الإنسان الشرقي وروحه، تأبّط مبضعه واتجه إلى وضم المشرحة، ولا ينسى بداية أن يعرّف المريض بذاته، ويتباحث معه حول أسباب المرض ثم تعريفه بمرضه، ولا ينسى أن يلفت انتباه المريض إلى ما قد يحتاجه من آخر وسيلة للعلاج وهي الكيّ.
يبدأ بولات جان من فكّ الشيفرة الشرقية ونظرة الغرب للشرق، فالشرق في عيون الغرب رجل حافٍ متمعن في الصحراء يقطر على أثره عدد من الجمال، أطفال حفاة عراة، ونساء على شاكلة كتلة من القماش الأسود دبّت فيه الحركة، الشرق هو صدام حسين، وأسامة بن لادن وداعش، الشرق هو الرؤوس المقطوعة المعلقة على أسوار الحدائق، الرؤوس الآدمية التي حوّلها الدين إلى كرة قدم يلعب بها الأطفال في الشوارع والحدائق، الشرق ذو اللون الأوحد؛ اللون الأسود.
ومن المؤسف أن الشرق يساهم في نقل هذه الصورة للغرب (أحد المثقفين الشرقيين كان يبعث بملف مصور لإحدى القتيلات الغربيات في الشرق، وقد تم جزّ رأسها بسكين، أوصى المفتي بأن يكون السكين حاداً، قال لي الشاب المثقف: انظر لرحمة المسلم، لا تفوته الوصية بأن يكون السكين حاداً).
هذا الشاب كان يوصي و يشجع الآخرين على نشر الفيديو على نطاق واسع ليثبت رحمة الإسلام إلى أي مدى تصل.
أما نظرة الشرقي لذاته كعادته فهي التغني بالأمجاد والماضي، من عمر بن الخطاب إلى صلاح الدين، إلى منبع الأديان، ولا ينسى أن يوصي بأن الغرب أخذ عنه كل شيء، بل سرقه.
أما حقيقة الشرق فيوردها بولات جان مُرّة لاذعة كالعلقم، الشرق المتشابه في كل بلدانه ودوله، شرق السجون الرطبة والمظلمة، الشرق مصنع الاستبداد والمستبدين، الشرق الذي تتحول فيه مراكز التعليم لمصاطب لترويض الإنسان على التحمل والخنوع وتقديس القيادات والحكام، الشرق السوق المفتوحة لتصريف أسلحة الغرب، ليقتل بها الشرقي أخاه، كل ما في الشرق ثمين وأرخصه على الإطلاق هو الإنسان.
منابع تشكّل ذهنيات الشرق
يقول بولات جان إن الإنسان الشرقي مصاب “بعقدة الاكتناز” فهو إنسان مريض بتلك العقدة المرضية النفسية التي يحاول صاحبها التمسك بكل ما هو بالٍ وقديم إلى جانب الجديد، فهو لا يؤمن بالتطور من حيث الذهنية، وليس لديه القدرة أوالمحاولة للتخلص من كل قديم لا يتناسب مع التطور المستمر في الكون والطبيعة، فنجده يتمسك بأفكار باتت لا تناسب مرحلة التطور، وأحياناً يقدس تلك الأفكار. يريد بولات جان أن يقول إن ذهنية الشرقي كعربة البائع الجوال تحتوي على أشياء غير متجانسة البتة، فتجد الشرقي شيوعياً وفي ذات الوقت قومياً وقبلياً وعشائرياً، ينفي وجود الله وتجده يثقل صدور أولاده بالتمائم والحُجب وتعاويذ الأولياء الصالحين… وهكذا.
ذهنية الشرقي تتعبه وترهقه كونها تحمل تناقضات وصراعات جمّة وغير متجانسة، البالي فيها يختلط مع الجديد، وكأن الكاتب يريد أن يقول إن الشرقي برجه ماء، وهواء، وتراب، ونار، فالذهنية الشرقية كتلة من التناقضات، تجد بعض الأفكار والحلول المطروحة عند الشرقي من العصور الغائرة، إلى جانب أفكار وحلول جديدة وعصرية، فالشرقي يحمل موروث خمسة آلاف عام إلى جانب الأفكار التي حُمّلت على ظهره، كالفلسفات الجديدة؛ من الماركسية حتى الرأسمالية، فصفات الشرقي: عاطفي، قدري، اتكالي، ساذج، مكبوت، عشوائي، فوضوي، متنمّر، مسكين، يقضي وقته بلا هدف، سريع الفساد والعطب، يحب الوساطة والمحسوبيات، يخاف الموت ويقدس الأموات، لا يحب القراءة، يقضي وقته في شرب الشاي وفصفصة البزر…
ومع كل هذه الصفات تجد القناعة لديه بأن مؤامرات الكون كلها تُحاك ضده، وتُسرق علومه واختراعاته ومبتكراته.
يقول بولات جان : “إن هذه المتناقضات التي يحملها الشرقي ويعتلها على ظهره ترهقه وتجعله غير قادر على مواكبة التطورات الكونية بالشكل السريع”.
أسباب الانحطاط في الشرق
يُرجع بولات جان الانحطاط في الشرق إلى عدة أسباب، منها أسباب داخلية ومنها خارجية، مع التأكيد على أن الشرق كان في مرحلة من المراحل التاريخية منارة للعالم يستقي منه العلوم والفكر والحضارة.
بداية الانحطاط كانت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وكان أولها ظهور الانقسامات الداخلية والتشبث بالسلطة، وظهور العناصر التركية في الشرق بكل همجيتها، وسيطرتها على الشرق بكل أجزائه، ثم تلتها هجمات الفرنجة على الشرق بحروب دامية، ثم هجمات المنغول التي دمرت بنية الشرق تماماً، وهدمت المدن وأنظمة الري، لقد كانت هجمات متبادلة بين المنغول والفرنجة.
ويضاف إليها الأسباب الداخلية التي تحوّل بموجبها الشرق إلى حقل مغلق أمام الاجتهاد والابتكار، فتحوّل إلى عبادة النصوص الجامدة وتقديسها، وقتل الكثير من العلماء والمفكرين عبر باب الزندقة والتكفير عن طريق الإفتاء الصادر عن رجال الدين مثل “الإمام الغزالي”، حيث تم القضاء على كل حركة ثورية تهدف إلى التجديد، وفي ظل كل هذه الظروف ظل العثمانيون مسيطرين بكل ما يمتلكونه من تخلف قرابة الخمسة قرون، إذ أغلقوا منافذ الشرق على العالم، وبينما في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر كان العالم في تطور مستديم والشرق مستمر في انحطاطه؛ توجهت أنظار الغرب إلى الشرق المريض، فكانت بداية ظهور الحملات الأوربية باتجاه الشرق من فرنسا إلى بريطانيا، وكانت عبارة عن حملات استكشافية لجغرافية الشرق، والبحث عن أسواق لتصريف البضائع الأوربية إلى جانب الاستفادة من حضارة الشرق وعلومه المطمورة مع الأوابد التاريخية.
الاستشراق
يدرس بولات جان الاستشراق كعلم ظهر في الغرب وكانت وسائله وأدواته الشرق بحد ذاته، وكانت الغاية من هذا العلم هي دراسة الغرب للشرق بكل تفاصيله من آثار وعلم، إلى دراسة الإنسان المريض وإجراء التشريح عليه للاستفادة من حياته وعمل كل عضو من أعضائه لاكتساب التجارب ونيل المعارف، فكانت البداية من قبل العلماء المتتلمذين في الشرق: “المستشرق عبارة عن فرد قبِل المخاطر على نفسه والتضحية بحياته من أجل أن يقدم لبلاده المرتبط بها وطنياً خدمة علمية أو نفعية، فدأب على تعلم لغات الشرق وعاداتهم وتقاليدهم حتى أصبح فرداً منهم، وكل ذلك لينال رضاهم وثقتهم حتى يقدموا له المعلومة، أو يسمحوا له بالتنقيب و التحري عن معالم الشرق وثقافته”.
كان الاستشراق إعادة استكشاف الغرب للشرق الساحر والغامض المتستّر خلف أساطيره وحكاياه و خرافاته، وربما كانت البداية المشجعة من قبل الكنيسة في الغرب التي كانت تهدف إلى دراسة أصول الأديان في الشرق بما فيها الدين المسيحي، حيث استطاع الأوروبيون أن ينقلوا الكثير من آثار الشرق إلى الغرب لتشريحها ودراستها، كالطب والفلسفة والمنطق والتصوف، ويستفيدوا منها في تطوير أبحاثهم واكتشافاتهم، وربما على ذلك بنى الغرب مفهومه عن الإنسان الشرقي الكسول لحد العجز عن البحث في ما قدمه له أسلافه من علوم وحضارة، فنجد جميع الاكتشافات الأثرية قد قام باكتشافها غربيون بمساعدة الشرقيين الذين كانوا يعملون تحت إشراف الغربيين كعمال حفريات، وعتّالين للمكتشفات، فعلماء الغرب المتعالين على الشرق يدركون أن أصول جذورهم الحضارية قادمة من الشرق، وفي النهاية لو نظرنا إلى كل تلك الحضارات من منظور إنساني فهي مجموع ما قدمته البشرية للعالم ككل بدون تحديد الاتجاهات الجغرافية، ومن المؤسف أن الشرقي لم يكتفِ بكسله في البحث فيما تركه له أسلافه من حضارة، بل اتجه حينما دبت فيه النخوة إلى تحطيم وإتلاف تلك المعالم الحضارية والثقافية والعلمية.
النظرة الاستشراقية لدى الشرقيين
بعض العلماء والأدباء الشرقيين انتبهوا إلى ما قام به المستشرقون الغربيون من دراسات على كافة العلوم والحضارات الشرقية، فنادوا بالنهضة الفكرية، لكنهم لم يجدوا أمامهم سبيلاً غير الرجوع إلى الدراسات التي قام بها المستشرقون عن الشرق، فالشرقي الذي لم تلفت انتباهه الآثار والمخطوطات الشرقية، وهو المارّ بجانبها في كل يوم، وحوّل بعضها إلى زرائب للدواب، لم يجد في وفاضه ما يدرسه، فاضطر المفكرون الشرقيون أن يبحثوا في ما قدمه الغربيون من دراسات عن علوم الشرق وحضارته، فقاموا بعملية النقل من الغرب بدل البحث العقلي، وهكذا أصبحوا مجرّد أداة نقل لمعارف وأفكار واكتشافات شرقية على يد المستشرقين الغربيين، وتحوّل الشرق إلى الغرب للبحث عن ذاته التي لم يعرف كيف يكتشفها، وراح يرى ذاته من خلال عيون الغرب.
على الشرقي ههنا أن يعي ويعرف أن تطور الشرق لا ينبع من الغرب، ولا بأس من الاستفادة من التطور الغربي بما يناسب الشرق، وألا يأخذ عن الغرب كل شيء ويلبسه بدون أن يعي فيما إذا كان يناسب قياسه أم لا، ويجب الابتعاد عن التقليد الأعمى للغرب، ويتوجب على الشرقي أيضاً العودة إلى الشرق ودراسة ماضيه ليعثر على حاضره المنشود.
الاستغراب
الاستشراق الذي ظهر كعلم في الغرب يهتم بدراسة العلوم الشرقية وحضارته؛ ظهر في مواجهته تيار من المثقفين الذين يدعون إلى محاربة الغرب وكل ما قدمه للشرق من دراسات وعلوم، فطالبوا بالعودة إلى السلف، إي إلى الوراء، والابتعاد عن كل ما هو غربي، فكان “الاستغراب” ضد الاستشراق، وجلّ هؤلاء ظهروا بين رجال الدين الذين راحوا يفتون بأن كل ما هو وارد من الغرب أو كل ما هو غربي مكروه، وبعضهم ذهب إلى تحريمه، فظهرت التيارات الإسلامية المعادية للغرب كالوهابية والأخوان المسلمين التي تفرعت عنها منظمة القاعدة وداعش فكانت جذوة السلفية في الإسلام.
ربما الحل الأمثل يكمن في الابتعاد عن تقليد الغرب والأخذ بالنظريات العلمية الثابتة التي قدمها، والأخذ بكل ما يتناسب مع الشرق، والبدء في دراسة روح الشرق من نظرة شرقية، والكشف عن كل ما هو مستور لدى الشرق من القوميات إلى الأديان والتاريخ، والابتعاد عن المغالطات التاريخية، يجب على الشرقي أن يعرف بدايةً مكونات الشرق بشكل مفصّل، والابتعاد عن الخطاب القومي المقيت والتقديس الأعمى للمذاهب المتفرعة عن الأديان في الشرق، وتقديس الفرد وعبادته. والسؤال الذي يتبادر لذهن المرء: لماذا الغرب استفاد من المعارف الشرقية ولم يستفد منها الشرق نفسه؟! الجواب يكمن في الذهنية الشرقية المتعصبة لكل ما هو ماض، وتقديس الماضي الذي يطغى على الحاضر.
الغربي أخذ من الشرق كل ما هو مناسب له بعد دراسة تفصيلية وتشريحية، لكن الشرقي مازال مفعماً بكل ما هو منغلق على المقدسات التي تدعو إلى تصرفات بقمّة الوحشية، فالشرقي لا يمتلك حرية الاختيار من حيث الثقافة أو المعرفة، إنه يأخذ كل ما يُقدّم له على شاكلة مقدسات، من النعرة القومية إلى التعصب الديني فالمذهبي، ولا ننسى أن الغرب أخذ عن الشرق ما هو سلبي أيضاً، وخاصة ثقافة القتل والمجازر وربما طوّرها أيضاً، فالوحشية الموجودة في الغرب ربما تتجاوز وحشية الشرق في مضمونها، ولكنها تبقى على نطاق ضيق، ولا ننسى الغرب الذي أفرغته رأسمالية الدولة من مضمونه الأخلاقي والإنساني.
الاغتراب
ليس الاغتراب هو تغيير المرء لمكانه فحسب، بل هو غربة الروح أيضاً، “أن تضطر إلى ترك موطنك تحت ظروف قسرية قاهرة وتئن تحت وطأتها، وتُجبر على الرحيل عنه والاستقرار في بلدان أو مناطق أخرى”.
يرى الباحث بولات جان أن الاغتراب يعكس نموذجين لا ثالث لهما:
النوذج الاول: هو الإنسان الشرقي المغترب الذي يجد نفسه مرغماً على العيش ضمن منظومة غربية متكاملة، وهو مرغم على العيش ضمنها، ولكنه في نفس الوقت غير قادر على التخلي عن جذوره الشرقية، فيعيش صراعاً داخلياً مريراً، فلا هو قادر عن الانسلاخ عن ماضيه ولا هو قادر على الاندماج مع المجتمع الغربي، وهذا ما جسّده الأديب السوداني “الطيب صالح” في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال)، حيث عاش صراعاً بين الحاضر والماضي الذي لا يقدر على تجاوزه ونسيانه، وذلك ما يولّد لديه الكره تجاه المنظومة الغربية التي أُرغِم على العيش فيها، فتتحول لديه ردة الفعل إلى التطرف، والشاهد على ذلك أن المهاجرين الغربيين مع داعش ذوو الأصول الشرقية هم أكثر تطرفاً من تطرف الشرقي ضد الغرب، فهم يعرفون خفايا المجتمع الغربي بكل تفاصيله المملة.
النوع الثاني: هو الشرقي المغترب الذي يبذل كل ما بوسعه ليتحول إلى إنسان غربي بل أكثر غربية من الغربي نفسه، وربما نجد هذا النموذج أيضاً داخل الشرق ويتجسد في بعض الشخصيات التي تقلد الغرب تقليداً أعمى، فيظهر لدينا من حيث الشكل إنسان غربي ولكن المضمون يبقى شرقياً، فتولدت لدينا شخصية مشوّهة، روح غربية تعيش في جسد شرقي، والأقرب إلى هذا النمودج هم اليساريون المنسلخون عن الواقع الشرقي، وإلى جانبهم المنادون بالعودة إلى الماضي والمتجسدون بالإسلاميين، فالمجتمع الشرقي بات يحتوي على نموذجين من الطليعة، السلفيين والمقلدين.
التقليد الأعمى للغرب
يقول الباحث بولات جان: “محاولات التقليد العمياء للحياة الغربية في بلدان الشرق قد انتهت كلياً تقريباً إلى نتائج معاكسة وتراجيدية، وتسببت في نفور فئات وطبقات ونُخب مختلفة في تلك البلدان”، وإننا نجد أن التقليد الأعمى للغرب قد انعكس سلباً على بلدان أرادت أن تقلّد الغرب في شكلها مع تستّرها على واقعها الشرقي الملطّخ بكل أشكال الإرهاب والإبادات والصهر القومي، وخير مثال على ذلك ما قام به أتاتورك من محاولة تقليد الغرب، وكذلك حزب البعث وجمال عبد الناصر، كلهم تناسوا بأن الشرق له خصوصية لا تسمح بتقبّل النمط الغربي، وأن للشرق إرثه الذي يساعده للدفاع ضد كل ما هو دخيل إليه، فلا يتقبّل ما هو دخيل إليه بسهولة، ومن المؤسف أن المحاولات مازالت مستمرة بجلب قوالب جاهزة وتنصيبها على الشرق.
عقدة الإسقاط ونظرية المؤامرة
يقول الباحث إن الحكومات والسلطات في الشرق قبل أن تبحث في الأسباب التي تجعلها ترتقي بشعوبها، تبحث عن عدو مفترض يتآمر على السلطة الممثلة للشعب ويحيك المؤامرات ضد هذه السلطة، فيمنعها من أن تقدم أسباب التطور والرقي لهذا الشعب، ولا بد لهذه السلطة من إعلام كاذب يسوق لها ادعاءاتها، وفيما لو فكر هذا الشعب بأن يتألب على هذه السلطة، فإن هذا التألب أوالحراك هو بدافع من العدو الخارجي الذي يريد أن يتآمر على هذا الشعب، فالشعب لا يمكن أن ينفر بوجه السلطة لولا المؤامرة الخارجية، و كل من يفكر أن يخرج عن الحلقة المفروضة على الشعب هو عميل أو متعاون مع العدو الخارجي، والشرقي من السهل عليه أن يحمّل أسباب بؤسه وجوعه وفقره على عدو مفترض صنعته له السلطة ووجهته بذلك الاتجاه، وغالباً ما يكون العدو هو الغرب وأمريكا، فلولا الغرب وأمريكا والاستعمار لكان الشرق يرفل بالنعم، وإن كان في ذلك شيء من الصحة فإن أغلب الحكومات في الشرق هي أدوات طيّعة بيد الغرب، فهي في الظاهر تعادي الغرب ومن الباطن أداة بيده، فالمشكلة تكمن في الشرق والحكومات الشرقية، فالشرق بحاجة إلى صعقة قوية تخرجه من هذه الدوّامة اللا متناهية، وعلى الشعوب أن تتعرف على حقيقة حكوماتها التي تعتبرها المنجى الوحيد لها، وأن تتعرف على عدوها الأقرب لها.
الدين: جدلية الإصلاح وسدنة الإرهاب
ربما وُلد الإنسان وهو يبحث عن تفاسير لما يحيط به، وأغلبها حول رجوعه إلى قوى خارجة عن إرادته، ولطالما وجد الأشياء تحيط به وهي موجودة قبل وجوده، وربما كل إنسان بحاجة إلى معبود وهو عبارة عن طمأنينة للنفس والروح، ولكن سرعان ما تلتف السلطات حول هذا الدين وتحوّله إلى أداة لخدمتها، تارة باسم الفتوحات وتارة باسم نشر الدين والإيمان، وتارة أخرى بالدفاع عن الوطن، وكلها تبدأ من حيث الغاية النبيلة لإرضاء الإله والوعود بالجنة والحواري والغفران، ولكن الحقيقة تختفي خلف الإله الذي يتمثل في الهدف الأسمى، أي في السلطة، فكلها حروب من أجل السلطة وجني الثروات والنفوذ، ونجد بدايتها في محاربة النبيين كون ظهورهم كان يهدد وجود السلطة، من فرعون إلى اليهود إلى العرب، كلهم وقفوا في وجه الأنبياء، وسرعان ما تحوّل الدين إلى إيديولوجية الهدف منها إحكام قبضة السلطة على الشعب وتوجيهه بالاتجاه الذي يخدم مصالحها، وجمع أكبر قدر من الناس البسطاء والسذّج والزجّ بهم في حروب سلطوية، وسرعان ما تظهر من بين الإيديولوجية الدينية تيارات مناهضة للسلطة بتفاسير وتعاليم جديدة، فيتحول الدين إلى تيارات كما هو في الإسلام حيث الشيعة والسنة والعلوية، ومازال الصراع مستمراً منذ قرابة أربعة عشر قرناً، ومن ثم استغلال الدين بالوجه المغاير لمضمونه، فالإسلام الذي ظهر لرفع الظلم تحوّل إلى دين القتل والجزّ والنحر والنهب والسلب، وربما هذا الصراع الديني في الطوائف المسلمة هو أحد الأسباب الرئيسية في ركود الشرق.
لا يُنكر أن ظهور الدين من حيث الزمان والمكان كان عبارة عن صرخة في وجه الظلم، ولكن من المؤسف أن هذا الدين تقولب ولم يتطور، وأضحت قواعده لا تناسب الزمان والمكان، وتم تفريغ الدين من مضمونه لصالح أجندات السلطة.
يمكن القول بكل صراحة إن الدين يلعب دوراً هدّاماً وتخريبياً ومعرقلاً للتطور في الشرق، فهو يضع الناس أمام خيارين: إما إلى التشدد والتوحش أوالعدمية والنفور من الدين، فالأديان في الشرق مرغمة على إجراء مراجعة نقدية وتشريح حالتها الحاضرة، وإجراء الإصلاحات الفورية التي تتلاءم مع العصر، وتحويل الدين إلى قيم أخلاقية وروحية واجتماعية بعيداً عن السياسة والزهو بالمباني الفخمة من الجامع إلى الكنيسة والصومعة.
وربما أشدّ ما جعل الأديان تتحول من مفهومها الروحاني والأخلاقي إلى مظلة للأفكار القومية والشوفينية هو انجرارها وراء السلطة، عن طريق رجالات الدين الذين راحوا يباركون رجال السلطة ويهبونهم الدعاء الدائم والمبايعة لهم من أجل الحصول على مكاسب مادية حرّمتها الأديان بكافة أنواعها، وظهور مجمّعات الإفتاء التي تعتبر كل من يخرج عن طوع الحاكم خارجاً عن الدين وبالتالي وجوب تكفيره وزجره، وظهور فكرة النص المقدس وتحريم النقاش في الأديان، فالنصوص ورجالاتها بشكلهم الحالي أصبحوا حجر عثرة في طريق تجاوز معضلة الدين، وكل من حاول أن يطرح فكرة إصلاحية اتُّهم بالكفر والاستيراد من أفكار الكفرة في الغرب وكان مصيره السجن أو الموت المحتم، وكل الحركات الإسلامية الراديكالية التي ظهرت في الشرق كان جلّها يدعو إلى التمسك بالدين؛ الدين الذي يعبّر عن مفهوم السلطة، وتحوّل القادة السلطويون إلى أنصاف آلهة، وربما أهمّ ما يميز الإنسان الشرقي هو فعله خلاف قوله، الظاهر شيء والباطن شيء آخر، على عكس ما هو عليه الغرب الذي خاض صراعاً مريراً مع الكنيسة ورجالاتها، واستطاع أن يتجاوز معضلة الدين، وتحوّل الدين في الغرب إلى مجرّد فكر روحاني بعيد كل البعد عن السلطة، ففي تلك المرحلة التي مرّ بها الغرب في القرن الثامن عشر؛ مرحلة الاكتشافات والاختراعات والأفكار النيّرة، كان الشرق مشغولاً في الانقسامات الدينية وظهور المذاهب كان في أوجِه، ففي المرحلة التي ظهرت فيها الاختراعات والاكتشافات في الغرب كان الشرق مشغولاً في من هو الأحقّ بالخلافة الإمام علي أم معاوية، ومازالت الكرة تتدحرج بين المذاهب الإسلامية حول الأحقية في الخلافة، فالشيعي يبيح قتل السني الذي يعتبره سبباً في قتل الحسن والحسين، وهناك فتاوى وأحاديث متخفية لدى كل مذهب لا تظهر للعلن تندى لها الجباه، كلها عبارة عن خزعبلات وأقوال تنافي المسلّمات العقلية.
إن القدسية التي أضفاها رجال الدين على النص الديني تعدّته إلى النصوص الفرعية التي تم ابتداعها من قبل رجال الدين، وتحولت القدسية إلى قدسية كل ما هو مسنون لدى الشرقي من العادة حتى العرف، فنجد الشيوعيين في الشرق مازالوا متمسكين بالنصوص الماركسية التي تخلى عنها واضعوها أنفسهم، فالإنسان الشيوعي الشرقي إنسان أممي وفق ما يخدم قبيلته و قوميته، فنجد الشيوعي قد تحوّل إلى صفّ القوميين والطائفيين، وتحولت السلطة لديه إلى وراثة يتم تداولها ضمن الأسرة الواحدة، فتقديس النص في الشرق تعدّى النص الديني، والإنسان الشرقي لا يقبل التغيير بل يحارب بسيف السلطة التي ترفض التغيير والإصلاح وفق ما يخدم مصالحها، على غير ما هي عليه حقيقة الأديان القائمة على الجدلية والنقاشات والبراهين من النبي زردشت مروراً بالمسيح فالرسول محمد، وانتقال الفلسفة من الغرب إلى الشرق وظهور بوادر التفكير كان له قوته التي ساهمت في تحريك الركود الفكري والجمود الديني، لكن ظهور بعض رجالات الدين الذين رموا بشباكهم على كل ما هو قادم من الغرب، و الذين قنّعوا الأفكار التي حاولت أن تطل برأسها من تحت عباءة الإسلام، فحرّموها واتهموها بالكفر والزندقة والإلحاد كما فعل الإمام الغزالي مع جميع المفكرين والمتنورين، وحاز فكر الإمام الغزالي على رضاء الحكام، وبناءً عليه قرر صلاح الدين الأيوبي قتل السهروردي.
وسرعان ما تحوّل مجمع المسلمين “الجامع” إلى منبر لمدح الحاكم والسلطان بعد أن كان منبراً للنقاش والجدال والوقوف على أوضاع البلاد والرعية، وبذلك تم محاربة الفكرة الفلسفية التي ترى في النقاش والجدل إغناء للأفكار وتفتيحاً للعقول، وبذلك تم إغلاق الباب أمام الجدل والنقاش، والاكتفاء بالنص الجامد.
العقل الشرقي
الجزء الثاني
سرمدية الدوغمائيات في الشرق.
يكتظّ الإنسان الشرقي بالجمودية من كل الأطرف، من دينه حتى أيديولوجيته، لا يقبل بالبديل ويحاول أن يرمّم ما يمتلكه، ولا يقبل بالتوجه إلى ما هو جديد، تراه يبذل قصارى جهده من أجل إصلاح سيارة بالية يصرف على إصلاحها ثمن سيارة جديدة، وهكذا في أفكاره، يتمسك بأفكاره بتعنّت للحفاظ على ذاته وخصوصيته، ويشعر أو هكذا جعلته السلطات يشعر بالهلاك بمجرد الاقتراب من الجديد، وتراه دائم التحسّر على ما هو قديم، حتى وهو يركب السيارة تجد في قلبه ووجدانه يتحسّر على أيام ركوب الحمير والجمال، لا يواكب التطور حسب الزمان والمكان، يكتفي بما هو مقسوم له، اتّكالي إلى درجة الخمول، يقف في عمر الستين بانتظار الموت، بينما في الغرب تجدهم في عمر الثمانين يتسابقون على تقديم الخدمات لمجتمعاتهم، أمّا الشرقي دائماً الأقرب على الأخذ من العطاء، ينقل تجارب الآخرين ليقوم بتطبيقها على واقعه، متناسياً الظروف المكانية والزمانية لتجربة الآخرين، لديه القوة لإعادة تجربة الآخرين مراراً وتكراراً، على الرغم من أن النتائج التي يحصل عليها هي نتائج خاطئة، تجده يحترم آراء الغير ويقدسها، وما لا شك به أن مجمل ما يتلبس روح الشرق هي أفكار قدّمها له الغرب، تجده يحارب التجزئة ويطالب بالوحدة، وهو كاذب في أفكاره، يقدّس التجزئة التي فرضت عليه عنوة، وما لا شك فيه بأنّ الإنسان الأفريقي ليس ببعيد عن الإنسان الشرقي، وهو صنوه، والغريب أن الكل يتحدث عن التغيير والتجديد والوحدة، ويشرح لك أسباب التخلف، وفي حقيقة الأمر هو ما لا يريد وهو ضد أهدافه، تجده يتصدّى للأزمات بالزغاريد والشعارات الطنانة والرنانة.
انبعاث التوحش
لا يؤمن الشرق بالقوة العلمية، ويرجع سبب البلاء إلى الابتعاد عن الدين الحنيف، وفي نفس الوقت يسند معظم الاكتشافات العلمية في الغرب إلى الدين والقرآن وإن اسلمنا بذلك فما المانع الذي منع الشرق من الاستفادة من العلوم التي أوحى بها الله لهم على حد قولهم، لا يعترف الإنسان الشرقي بأن ترك البحث عن الاكتشافات العلمية التي أوحى له بها الله وراح يبحث عن القتل والتدمير، فلو أخذنا من الآية الكريمة مضمونها” وأعدوا لهم ما استطعتم من القوة ورباط الخيل لترهبوا بها عدو الله وعدوكم” ليس الله بعاجز عن أن يقول لتقتلوا عدو الله وعدوكم، واكتفى بترهيب العدو لمنعه من الاعتداء، وقال الرسول: الناس شركاء في ثلاثة؛ الماء، والنار، والكلأ، لم يقل الاسلام شركاء قال قوله على إطلاقه ” الناس” فنجد الإسلام يعمل على عكس ذلك تماماً، وتم استبدال إرهاب العدو بالقتل والموت، وتجد أن الوسيلة تحولت إلى غاية بحد ذاتها، ألا وهي الموت والقتل، وتم وضع الدين في خدمة القومية، وعلى ذلك ظهرات حركات وأحزاب عدة، وفق كل مذهب سواء سني كالبعث في العراق أو شيعي كحزب الله اللبناني، ولم تفت الحكومات الدكتاتورية في الشرق في مواجهة تلك الحركات في ابتداع إسلام يناسب مثالها كحكومات دكتاتورية، فوضعت الدين والقومية في خدمة مصالحها الفردية، وباتت تقتل باسم الدين تارة، وتارة باسم القومية.
تقيح أمراض القومية
ظهرت القومية بداية في أوربا، وانتقلت بعدها إلى الشرق التي عشّشت فيه وفرخت، ولم تستطع القومية أن تحارب الدين والكنيسة كما فعل مارتن لوثر، وهوبز في أوربا و لا ينكر ظهور شخصيات في الشرق، لكن التيار الديني قضى عليها بسهولة، واجتث جذورها، وتم التزاوج ما بين الدين والقومية بعد تحويل الدين إلى خادم مطيع للقومية، وباسم ذلك التآلف ظهرت حركات التحرر القومية، قادها رجالات من المبتدعين لذلك التزاوج، وإلى جانب ذلك ظهرت الحركة الشيوعية التي وضعت في خدمة القومية أيضاً، وهي في أصل ظهورها كانت تخدم القومية حتى في برجها العاجي في موسكو، لكن الشرق انقسم على ذاته، وظهرت أثنيات طائفية وقومية ومذهبية، وعلى حساب تطوّر الثقافة الوطنية العامة تطورت الثقافات الاثنية المذهبية والقومية، فنجد الإنسان الشرقي يتعصب لانتمائه الطائفي والقومي اكثر من انتمائه الوطني وبالتالي ظهرت في الشرق أوطان مهلهلة ومتفككة، ومجتمعات غير متجانسة يحكمها طغاة باسم الأكثرية والاقلية عن طريق الارتداد القومي الذي تحول إلى شعار القومية النبيلة وغيرها من القوميات فهي قوميات وضيعة، وبدل العمل على إيجاد ثقافة وطنية تستظل تحتها كلّ مكونات الوطن باثنياته القومية والطائفية والمذهبية، وجدت ثقافة القومية النبيلة الواحدة، ومن المؤسف أنّ الشرق نسخ قومية متطابقة لبعضها البعض، والكل يحتقر الكل من العربي للكردي واليهودي والسني والشيعي والمسيحي.
عقلية أنا المركز
في حقيقة الأمر العقلية التي تعتبر نفسها مركز الكون والبقية أطراف تحدث عنها أفلاطون واعتبرها أحد دوافع الصراعات الفردية أو الجماعية على مر التاريخ، بدت بالقبيلة وانتهت بالقومية والدول والقارات، ومن المؤسف أنّ هذه العقلية لازالت مستمرة بشكل متستر، موسكو أمّ الأفكار الاشتراكية، أميركا مركز القوة في العالم، وسورية قلب العروبة، والشرق أمّ حضارات الغرب، وأمّ الاكتشافات والفلسفة، هذه الطريقة في التفكير والتعصب جعلت البشرية بعيدة وطامسة للكثير من الحقائق، والحقيقة الوحيدة أنّ العقلية المسيطرة على هذا التفكير يجهل الفرد أو الجماعة أو الحزب يجانب الصواب من خلال الابتعاد عن الفعاليات التي يجب أن تتم لترتقي بالإنسان أو الحزب أو الدولة إلى الأمام بدل التقوقع على الذات.
عقدة النقص لدى الاقليات
إنّ مفهوم الأقلية بحد ذاته مفهوم انتقاصي ودنيوي بحق ما يطلق عليهم باسم الاقلية، وإن كان هذا المفهوم يأخذ بالمفهوم العددي، فالاكثرية في أيّة دولة تعتبر عددها يخولها بأحقّيّة السلطة، ولا يكتفى بذلك بل يتم التوجه إلى مفهوم الصهر الأثني لكل أقلّيّة ضمن بوتقة الأكثرية، وفي حال رفض الانحلال فليس أمامهم إلا التهجير القسري من قبل الأكثرية، وقد تصل القضية إلى حدّ التصفية الكاملة بحق الاقلية كما حدث بحق الأرمن في تركيا، وكما يحدث بحق الأمازيغ في الجزائروفي إيران بحقّ مجموعة الديانات غير المسلمة أو حتى على مستوى المذهب غير الشيعي، وهناك مكانة خاصة بالأكثرية تعمل على إظهار دنيوية الأقلية مقابل إظهار العراقة والأصالة على الأكثرية، كما هو الحال في تركيا، فالكردي في ظل الحكومة التركية يتستر خلف القومية التركية ببذل جهد مضاعف لتعلم اللغة التركية، وفي ظل الحكم العلوي في سورية لم تتغيّر نظرة السنة تجاه العلويين الذين يعتبرون أقلية بالنسبة للسنة، بالرغم من سيطرة العلويين على مقاليد الحكم بكل تفرّعاته الأمنية والعسكرية.
ويجب أن يعلم أبناء الشرق الأوسط الحقائق التالية:
ـ كل الشعوب في الشرق الأوسط ذات بنية حضارية عميقة في الشرق.
ـ إنّ بعض القوميات جاءت إلى الشرق الاوسط في وقت متأخر كالاتراك والعرب، وأغلب الشعوب في الشرق التي تعتبر أقليات هي الأقدم.
ـ أكثر الشعوب في الشرق تمّ تقسيمها وتجزئتها فتحوّلت إلى أقليات موزعة بين عدد من البلدان.
ـ إنّ الشعوب التي تعتبر أقلية في الحقيقة هي صاحبة الأرض الحقيقية، كالأمازيغ في شمال أفريقيا، والآشوريين في العراق وسوريا والكرد في الأناضول، الأرمن في أرمينيا…إلخ
ـ إنّ الأكثرية تمارس سلطتها بحق الأقلية من أجل التخلّي عن هويتها الأثنية ما أدّى إلى انسلاخ عدد لا يحصى من الأقلّيّة إلى الأكثريّة.
ـ إنّ الشرق بغناه الحضاري الذي يتنوع بحسب تنوّع الأثنيات فيه سواء الأثنية القومية أو الدينية ويعتبر حديقة متنوعة بأزهارها.
أدلجة التاريخ
إنّ من أهمّ مميزات الشرق السلبية قي قراءته التاريخ وفق منظور أيديولوجي، فقد تم تسخير التاريخ في خدمة الدين الذي يعتبر أيديولوجية الشرق من اليهودية حتى المسيحة، فنجد أن اكثر الكتب السماوية من التوراة إلى الإنجيل إلى القرآن كلها تسرد تاريخ فئة محددة أو قومية محددة، ولم تلبث تلك الفئة أو القومية أن تنظر إلى التاريخ وفق مفهومها الأيديولوجي، وراحو يكتبون التاريخ وفق مصالحهم، على مبدأ “من لا تاريخ له لا مستقبل له” فنجد أنّ أتاتورك شكل مجمعاً، وأمر الأتراك بإيجاد تاريخ لهم في المنطقة، وهم القوم الوافد إلى الشرق في القرن العاشر الميلادي فتم تحريف تاريخهم، وربطهم بتاريخ السومرييون أسوة بالكرد والآشورين والأرمن والفرس، وأكثر الأحاديث الإسلامية لدى الدولة التركية منسوبة لعثمان بن عفان الذي يرون به جدا مسلماً للعثمانيين، وليست البقية بعيدة عن ذلك سواء من العرب أم غيرهم، فالتاريخ في الشرق هو عبارة عن تاريخ مغلوط ومزور، فالسوريون يحتفلون بحرب تشرين التحريرية، وهي في الحقيقة خسارة فادحة للسوريين مع الاسرائيلين، ومع ذلك تم إقناع السوريين بانتصارهم خلف القيادة الحكيمة، وإيران الخمينية التي همها مقاتلة اسرائيل كُشفت الحقيقة المخمينية تلك الفضيحة” ايران كيت” إسرائيل كانت تدعم ايران في حربها ضد العراق سراً.
وحقيقة القول: إنّ التاريخ في الشرق هو عبارة عن أكاذيب ملفقة وحقائق مزورة، ليس لها من الصحة شيء، وستكشف هذه الحقائق لاحقاً كما تمّ الكشف عن حقيقة الطوفان وسفينة نوح و سفر التكوين وقصة آدم وحواء.
العنصرية المحلية
داهم الشرق مفهوم مصنع عبر سلطاته وهو مفهوم القوقعة على الذات في مواجهة الحضارات والثقافات الأخرى، وربما يعود ذلك إلى انتفاء العدالة وضعف القوانين ممّا اضطر الفرد في الشرق إلى التمسك بالقبيلة والطائفة والقومية، فهو بغير ذلك الانتماء يحسّ بالضعف والخوف في مواجهة القبيلة أو القوميات الأخرى، و كل ذلك أدى إلى انغلاق الفرد الشرقي على ذاته ضمن البيئة الواحدة، ففي بلدٍ واحدٍ تجد الفوارق بين إنسان الداخل والساحل في فوراق كبيرة وكل ذلك يعود إلى الانغلاق على الذات بدافع من السلطات التي أبدت له التخوف من الغير، ممّا أدّى إلى ظهور ثقافات محلية بعيدة عن الثقافة الوطنية، وخير مثال على ذلك ما كشف عنه الحراك في سورية فظهرت الثقافة السنية والعلوية والشيعية والكردية والعربية فوق الثقافة الوطنية، وكلها صرعات تنم عن الحقد والكره، وعدم تقبل ثقافة الآخر، واحترام خصوصيته، فنتج عنها صراعات أثنية، وربما التجربة السورية ليست بالبعيدة عن التجربة اللبنانية في الثمانينيات، والصراعات التي لازالت جذورها متجذرة في المجتمع اللبناني، بالنتيجة العنصرية المحلية تعني أن تكره الآخر لأنه ليس من طائفتك أو دينك أو قومك فقط.
تفضيل الأغيار على الأقارب
هناك عقدة تمّ التحدث عنها، هي عقدة الإحساس بالنقص تجاه الأغراب، فالإنسان الشرقي لا يتقبل الشرقي الذي يتفوّق عليه، ويتقبّل الغير بكل رحابة صدر، وذلك ناتج عن عقدة الإحساس بالدونيّة، فقريش لم تقبل بمحمد رسولاً عليهم وهو العبد الفقير، وكذلك اليهود لم يقبلوا بعيسى بن النجار، فتجد الشرقي يفتخر بالماركات الأجنبية الغربية، مع أنّها لا تقلّ جودة عن المنتجات الشرقية، ويندفع إلى قراءة أطروحات الغرب، وينكفئ عن قراءة ما يطرحه الشرقيّون من علوم وأفكار، وكلّ ذلك نابع من الشعور بالدونية والحسد والغيرة وعدم الثقة بالذات.
المرأة في الظل
الشرق ليس على ما يرام وليس بخير، لأنه بكل بساطة المرأة الشرقية ليست بخير وليست على ما يرام.
يرى الباحث بولات جان أنّ الوضع الذي عليه المرأة في الشرق ينعكس بشكل مباشر على المجتمع الشرقي، كيف لا وهي نصفه، فهناك ألف قانون سُنّ في الشرق في سبيل ستعباد المرأة بدءاً من الشراشف السوداء التي تغطي المرأة وتجعلها عبيدة للون الأسود الأوحد، ولا يحق لها أن تظهر إلا في الزوايا المعتمة، فالمرأة في الشرق مملوكة للرجل بموجب القواعد الدينيّة بكل أشكالها ومذاهبها، وفوق ذلك اعتبرتها ناقصة عقلٍ ودين، وأيدتها المثيولوجيا في سرد الحكايا عن المرأة واعتبرتها مدبراً للشيطان ومعينه، ففي بدايات القرن الواحد والعشرين لازال الشرق يعامل المرأة كما عاملها هارون الرشيد واتباعه، فالشرق لازال يعتبر الرجل رب الأسرة، فهو مالك كلّ شيء في الأسرة، من الأثاث حتى المرأة والأولاد، فالرجل الشرقي ينظر إلى المرأة كما ينظر لنبتة الزينة، يتمتع بجمالها وهو المالك لها، وفي الجانب الآخر حصلت المرأة علي بعض الحقوق، وكانت ردة الفعل أنّها استرجلت وتحولت إلى أقبح ما هو عليه الرجل، وتلك المرأة المسترجلة لا تمثل حقيقة المرأة الحرة، وتعتبر انحرافاً عن حقيقة المرأة، وقد انسلخت المرأة عن المجتمع الشرقي، وراحت تقلّد المجتمعات الغربية دون تطور واع، وربما حقيقة المرأة هو وجود المرأة، وإثبات ذاتها في الحركة الكردية وخاصة في سورية، فقد قطعت شوطاً تجاه حقيقة المرأة الحرة.
المحاولات الثورية
كثيراً ما يتم الخلط بين الثورة وبعض المفاهيم الأخرى، كالانقلابات العسكرية والحروب الطبقية، أو المذهبية أو الدينية.
ولابد من التنويه إلى أن كلّ الثورات تولد وتولد بداخلها الثورات المضادة، وخاصة في الشرق، فالثورة في الشرق تقوم ضد جهة ما وسرعان ما تقع في ذات المصيدة التي قامت ضدها، وتتحول إلى نسخة طبق الأصل عنها، وغالباً ما تقع تحت وطأة الأديان والمذاهب التي يتم تسخيرها لمصالح تخدم افراد الثورة، وتتحول الثورة إلى مبادئ وأفكار دينية تخدم مصالح معينة، وكل من يعارض هذه الأفكار هو خارج عن الدين.
ليس الشرق تاريخَ الحروب والصرعات والتناحرات، بل هو تاريخ الثورات سواء الفردي منها أو العام، فالرسل والأنبياء كانوا ثوريين حقيقين، لأنهم أوّل من شعر بالحاجة للثورة والتغير من موسى حتى محمد، ففي بلاد ما بين النهرين على إثر الصراع بين الزردشتية والمسيحية الدائم ظهر الرسام والفيلسوف ماني، وكان عبارة عن ثوري حقيقي شعر بالحاجة إلى الثورة ضد الواقع المرير الذي عاشه في بلاد ما بين النهرين، وككل الثورات لاقى ماني ما لاقى من الثورات المضادة، كما هو عليه المسيح وكان مصيره القتل، وليس ببعيد عنه الرسول محمد الذي عانى ما عاناه من وجود الثورة المضادة، وفي النهاية انتصر الإسلام المنبثق من الصحراء والذي يحمل صفاتها في طياته، وبعد تزاوجه مع الإمبراطوريات الرومانية تحول إلى دين القتل والذبح، و مع مرور الزمن ظهرت بذور الثورة بين الدولة الإسلامية وكانت محاولات فردية، لكنّ من المؤسف كان مصير كل هؤلاء القتل والرجم من الحلاج إلى أبي ذر الغفاري والسهروردي، وكل هؤلاء رفعوا راية الثورة في وجه الظلم والقتل، لكن النصر كان حليف الديكتاتوريات التي قلبت الحقائق المطروحة ضد هؤلاء، وهيّجت الجماهير عليهم وباسم الشعب تمّت محاكمتهم وقتلهم.
وفي النهاية إنّ الشرق بحاجة إلى ثوريين حقيقين يشعرون بالحاجة إلى الثورة ومستعدين للتضحية الثورية.
يسار تائة بين أروقتَي الزمان والمكان
إنّ ما عرف عن اليسار بمعنى الشيوعية التي تجسد مفهوم الاشتراكية بمنهجيته المتكاملة، جانب الصواب، فالاشتراكية أقدم من الماركسية بكل أنواعها من الطوباوية حتى الللينية، فالاشتراكية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، فكانت من بداية المجتمع القبلي ومروراً بالمسيح الذي كانت أفكاره تجسّد الاشتراكية، ونبذ الملكية الخاصة، لم يكن الرسول محمد بعيداً عن الاشتراكية بدعوته للتآخي بين الناس، ونبذ الاحتكار وتوزيع الملكية بالتساوي، لكنّ ذلك لم يدم بعد ظهور الثورة المضادة، وتحوّل الدولة الإسلامية إلى دولة دكتاتورية محصورة بيد عوائل معينة تبحث عن مصالحها الشخصية، وسرعان ما ظهرت تيارات ثورية ضد ذلك الظلم كثورة العبيد والقرامطة، وخلاصة القول: نستطيع أن نقول إنّ الشيوعية والاشتراكية وجدت قبل الماركسية، فلا ينكر نهجهها المتكامل الذي تبلور في الاتحاد السوفيتي والصين وغيرها، لكن يجب ألّا يغيب عن بالنا أنّ تلك الأفكار ظهرت في الغرب من حيث الزمان والمكان، وتمّ تصدير الثورة الماركسية إلى الشرق في بداية القرن العشرين، حيث كانت في صراع مع الغرب، فتحوّل الصراع إلى صراع مصالح بين الغرب والشرق المتمثل بالشيوعية، وبالرغم من التضحيات التي قدمتها الاحزاب الشيوعية في الشرق من الثقافة والفن والأدب فقد ترك اليسار آثاراً إيجابية في الشرق، لكن الذي تحول إلى سلبيات يمكن انتقادها هول التحول الذي أصاب تلك الأفكار في الشرق، فقد تحوّل لينين إلى نبي، وماركس إلى إله، والقادة الشيوعيون إلى صحابة وحواريين، وكما في الدين ظهر تقديس النص، وظهر الخلاف عن مضمون النص الماركسي في جزئياته والابتعاد عن فحوى مفهوم النص العام، فتحوّلت الأحزاب الشيوعية في الشرق إلى تابع ومتبوع مع الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، دون أن يكون لتلك الأحزاب حرية تحليل النص الماركسي وتطبيقه وفق ما تتطلبه المرحلة من حيث الزمان والمكان في الشرق، كان ذلك ما ندعوه بتقديس النص، والطامة الكبرى كانت في الشرق هي الازدواجية الأممية والشوفينية، فالأممي في الشرق يرفع شعار الأممية وينادي بالأممية، وفي ذات الوقت يحمل أفكاراً شوفينية لم يستطع التخلص من قدسيتها قد تصل إلى حدّ القبلية، وكانت تلك الشوفينية تمارس على الشعوب التي تحاول أن تتحرر من نير الظلم، والحصول على حقوقها كما هو الشعب الكردي والأمازيغي، وسرعان ما كانت النتيجة انقسامات حادة بين صفوف اليساريين في الشرق، أتت على ما تبقّى منهم.
ثالوث السلطة ـ الحزب، القبيلة والسياسة
حزب القبيلة أو قبيلة الحزب: تعتبر القبيلة أقدم تنظيم عرفته البشرية، وكان للقبيلة دورها في تنظيم المجتمع في الشرق، والسير الأعمى وراء رئيس القبيلة وعدم الخروج عن طاعته، وكان للقبيلة قوانينها وأعرافها وعاداتها الخاصة التي يتوجب على الفرد الالتزام بها وعدم الخروج عنها، والولاء التام لرئيس القبيلة سواء كان شيخ القبيلة أو الآغا أو الأمير…إلخ، ولا يجوز الخروج عن طوعه، ومن خرج فقد كفر، فكان هناك هرم للقبيلة مقدس، وسرعان ما انتقلت تلك القبيلة بكل ما تحتويه من هرميّة وقدسية إلى أحزاب في الشرق، وتكاد لا تختلف تلك الأحزاب عن القبيلة في مضمونها من قدسية رئيس الهرم إلى أعوانه وأبنائه، فتشكلت لدينا أحزاب قبلية في الشرق، حتى أنّك لا تستطيع التمييز بين أكانت القبيلة قد تحوّلت إلى حزب أم تحوّل الحزب إلى قبيلة؟ وفي نهاية الأمر جميع تلك الأحزاب في الشرق غايتها الفوز بالسلطة واستثمار تلك السلطة لمصالح الحزب القبلي ورئيسه الخاص وأعوانه، فالسياسة في الشرق تستثمر للمصالح الشخصية بعيدة عن المصلحة العامة
الشرق يقتل مبدعيه
الشرق الملوث بالدكتاتوريات، والأنظمة القمعية الفاسدة، والسائرون على إثرهم والمصفقون الخانعون من قضاة و جلادين، تلك الأنظمة التي تحكم وفق نهج متماسك، ومتّحد في المصالح، وكلّ من خرج بأفكار مميزة أو حارب الحاشية الديكتاتورية اعتبر خارجاً عن الشريعة التي تمّت صياغتها على شاكلة قوانين شرعية، وليس على تلك الطغمة إلا الاستعانة بهؤلاء المفتين لهم.
ففي الشرق الذي يحارب كل ماهو جديد بيد من حديد، لا ينفك عن قتل كل فرد يحمل أفكاراً جديدة تناقض مصالح الطغمة الحاكمة، كانت البداية من الأنبياء حتى آخر المفكرين، وكان نصيب الأنبياء التعذيب والطرد والقتل جزاء ما قدّموه من أفكار تناقض مصالح الطغمة الحاكمة وحاشيتها، والقليل من هؤلاء المبدعين استطاعوا أن يتخطوا خنادق الشرق العميقة من خلال استفادتهم من الخلخلة التي أصابت تلك الانظمة في الشرق، فكلما كانت تلك الأنظمة مصابة بداء الهشاشة استطاع المفكرون والمبدعون من إعلان أفكارهم والفوز على تلك الأنظمة، والعكس صحيح كلما كانت تلك الأنظمة متماسكة وقوية استطاعت أن تقضي على تلك الافكار ومبدعيها، فالشرق لا يدرك أفكار مبدعيه، وإن أدركها حاول الوقوف في وجهها عبر أصوات رجال الدين المنافقين للسلطة، والعلماء الكذابين، والجنرالات الملاعين لتعلو أصواتهم فوق كلّ الاصوات، فإن نظرنا إلى ما هو عليه الشرق نجد أن أغلب العقول المفكرة والمبدعة فرت تجاه الغرب خوفاً من جنرالات الشرق وحاشية البلاط، ففي الشرق رجلُ السلطة دائما على حق، وكلّ ما يقوم به ليس إلا وحي وإلهام رباني، ولا يحتاج إلا لثلة من المصفقين، وزغاريد السلاح، فيما لو احتاج في وجه من الأوجه لكل من يحاول التطاول على مركزه السلطوي.
في النتيجة قدم لنا الباحث بولات جان دراسة موسعة عن حقيقة الإنسان الشرقي وقال لنا بصوت مرتفع: هذه هي حقيقة الشرق المتألب على ذاته غير المدرك لحقيقته المرة، فالإنسان في الشرق ليس إلا إنساناً مريضاً بأمراض متراكمة عبر الزمن، ويحتاج إلى طبيب شرقي، وعلاج شرقي يناسب أمراض الشرق، ويقدم للإنسان الشرقي دواء حسب الزمان والمكان.
جنون السلفية
ظهر تيار السلفية إلى الوجود في بدايات ظهور الوهابية في شبه الجزيرة العربية في بداية القرن الثامن عشر على يد آل سعود والوهابيين، ويُعتبر ردة فعل تجاه الأفكار التي راحت تدعو إلى التطوير والتحديث وقراءة النص وفق المرحلة التي هو فيها، فكانت السلفية التي تدعو إلى العودة إلى الماضي والتمسك به “رواية السلف الصالح”، وأسندت أسباب البلاء والتخلف إلى الخروج عن ركب الماضي والنص الديني، وراحت تحارب أي نظرة إلى المستقبل الذي سيقود التاريخ عنوة إلى الأمام، ثم تمسكت بالتاريخ القديم وفق نظرة مغلوطة؛ على الرغم من أن قراءة التاريخ ضرورة ملحّة لاستنباط التجارب والنظرة إلى المستقبل، فظهور الفتاوى التي تحرّم كل ماهو مخالف لحياة السلف من المأكل حتى الملبس على يد السلفيين، جعل التاريخ يلتفت إلى الماضي ولوَتْ بعنقه إلى الوراء بدل النظرة إلى المستقبل، وسرعان ما تحوّل هذا التيار إلى عصا لينة وطيعة في يد الغرب لمحاربة ما يتناقض مع مصالحه، من الحرب في أفغانستان إلى الصومال والسودان.
لقد تحول هذا التيار السلفي إلى تيار فكري تعدّى الإسلام إلى جميع المفكرين الذين لا يرون في المستقبل سوى الماضي، وحقيقة السلفية وتفرعاتها جاءت لتقديم الخدمة للغرب والرأسمالية في مواجهة الشيوعية، فتم توجيهها باتجاه بوصلة السيوعية، وما تقوم به السلفية من حروب الآن ما هو إلا عبارة عن ردة فعل تجاه توقف الدعم لهذه المجموعات بعد أن لم يعد لوجودها معنى بعد انهيار المنظومة الشيوعية، فانقلبت هذه المجموعات على أسيادها.
و يقول الباحث إن السلفية لم تنحصر بالإسلام السني، فالمذهب الشيعي لا يقلّ تطرفاً ودوغمائية عنه، والحرب بين الشيعة والسنة مازالت تُعتبر انتقاماً للإمام علي وأحقيته بالخلافة وثأراً لدم الحسن والحسين، وفي الحقيقة ليست سوى حرب غبية لا يقبلها المنطق والعقل يموّلها الساسة في سبيل تحقيق أهداف سياسية عميقة في إشغال الشعب بعدو خارجي وداخلي، فالشعب الإيراني الذي يموت من الجوع يثابر على أثر رجالات الدين الإيرانيين في محاربة السنة باطناً، وكذلك دول الخليج التي ترى في الشيعة عدواً للسنة، والإسلام كله متفق بكل شرائحه على محاربة اليهود، من تركيا إلى إيران، وفي حقيقة الأمر تنفضح الأمور أمام التطبيع الذي تقوم به الدول العربية الثرية مع إسرائيل، وتنحصر الحرب بالدول المهلهلة اقتصادياً كإيران وتركيا، فكلاهما يبحث عن عدو خارجي لشعبه لصرف النظر عن الواقع الاقتصادي المهلهل، فالجوع والبؤس و الفقر هو من أجل محاربة العدو الكافر لتحرير المقدسات.
تقديس الموت
يتعمق الباحث في جدلية الشرق حول الموت والحياة، وهي عبارة عن جدلية الهروب عبر الموت من الحياة الفانية إلى حياة أبدية، وحتى يتم تحقيق الحياة الأبدية لا بد من المرور بالموت، وأفضل الموت هو الموت في سبيل نشر الدين الذي تحوّل إلى سلطة، فالموت هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحياة الأبدية، وربما مفهوم الموت في الشرق بكل أديانه لا يختلف في مضمونه وأهدافه، فالإنسان في الشرق عبارة عن إنسان مسافر يقف في محطة القطار بانتظار أن ينقله إلى الجنة حيث أنهار من الخمر والحواري والأشجار المثمرة، فالموت هو السبيل الوحيد للوصل إلى الحياة الأبدية، ولذلك تم تقديسه في الشرق، حيث الجنة الرغد، وفي الحقيقة فإن الجنة التي تم تصويرها في الإسلام ليست إلا عبارة عن كل ما ينقص المسلم في الحياة الأولى، ويُضاف إليها ما هو محرّم، من أشجار ونساء وخمر وماء رقراق، إننا في حقيقة الأمر نجد كل ما في الجنة رقراقاً، وهو ما يعكس حياة الصحراء منبع الإسلام، فالذي يعيش في الدول الإسكندنافية يبحث عن الشمس والدفء اللذين ينقصانه، ولو وصفت له الجنة الإسلامية لرفضها مقارنة بالجنة التي يعيش فيها في وقته الحالي.
إن مفهوم الموت عند الأديان عبارة عن مفهوم تحفيزي من أجل الوصول إلى الحياة الأبدية، فالتصور الذي ينقله الأمير الداعشي لعناصره عن الجنة سيجعلهم يستعجلون الموت في سبيل الوصول إلى تلك الخيرات، وربما لم يخطر ببالهم لماذا الأمير نفسه لا يستعجل الجنة التي ينقل حقيقتها لعناصره؟ ما الذي يجعله يتأخر عن كل هذه الخيرات؟ والمثال على ذلك أن الخليفة الإسلامي (أبو بكر البغدادي) لم يفجّر نفسه بالرغم من تلفّحه بكل وسائل الموت السريع، وكان يترقب الحياة لآخر لحظة، ومع كل هذه الأساطير نجد الإنسان الشرقي لا يهتم بالحياة لطالما هي حياة مؤقتة، وعليه أن يتحمل المظالم والعيش المتقشف في سبيل الوصول للحياة الأبدية، وكل من يموت مقاتلاً في سبيل دينه الذي تحوّل لخدمة الساسة، هو شهيد لا تنتظره سوى الملائكة لتقوده إلى الجنة، وجزاء موته مقاتلاً عن الساسة والدولة والأحزاب والإيديولوجيات هو تخطيه حاجزالحساب إلى الجنة، وفي ظل كل هذه المفاهيم هناك أشخاص يتربّعون على هرم السلطة، ويعلمون حقيقة الحياة التي يجب أن يعيشها الإنسان لمرة واحدة، لذلك نجدهم يقدّسون ضحاياهم من أجل تحفيزالأحياء منهم إلى الموت في سبيل أن تُكتب لهم حياة يعرفون حقيقتها، ويعرفون كيف يعيشونها بكل تفاصيلها الشهية.
ربما كانت بداية تقديس الموت جاءت من الأديان، ولكن سرعان ما انتقلت إلى الإيديولوجيات، وأضحى الموت سبيلاً لتحقيق أحلام الملايين من الفقراء والعبيد، وربما كانت الجنة التي يوعد بها الأحياء لا بد من تحقيق جزء منها على الأرض في ظل القتال من أجل الكرامة والحرية والتفرّد في الخيرات، فجمال عبد الناصر الذي رسم للأمة العربية وطنها الأوحد بامتياز، وكان عبارة عن زجّ العرب في بوتقة العيش في سبيل تحقيق حلم فردي لعبد الناصر في سبيل الخلاص، فالموت الذي رسمه عبد الناصر في سبيل تحقيق أهدافه الدوغمائية التي لم يؤمن بها، كان الهدف من الموت هو تحقيق النصر على اليهود ورميهم في البحر من أجل العيش في جنة وعد بها عبد الناصر، وهي ذات الجنة التي من أجلها أمرت الصهيونية العالمية اليهود بالهجرة إلى فلسطين وقتال كل من يقيم عليها من غير شعب الله المختار، والحقيقة أن ظهور الأديان ارتبط بمنح جرعة أمل للناس من أجل خوض الحروب والقتال والتضحية بالذات، وجاءت الإيديولوجيات الفكرية لتكمل هذه الرسالة.
و ربما يكون هذا هو السبب وراء تخاذل الإنسان الشرقي عن عيش حياته وتحسين ظروفه والاهتمام بالتطوير والتحديث، والسعي وراء الاكتشافات والاختراعات.
سنتابع مع الباحث بولات جان الجزء المتبقي في العدد القادم، فكونوا في ودائع الرحمن.