اللّجنة الدّستوريّة السّوريّة.. آفاق نجاحها وفشلها
آناهيتا جميل
تمهيد:
تمرّ سوريّا بمرحلة مفصليّة وتاريخيّة مهمّة جدّاً على صعيد تطوّر أزمتها ووصولها إلى حدِّ الانفجار العموديّ والأفقيّ، وتناثر شظاياها في كافّة الأرجاء، حيث طالت الجميع دون استثناء.
على وقع دويِّ القذائف والدبّابات والصّواريخ والطائرات القادمة من كلّ حدبٍ وصوبٍ في أجواء سوريّا، غابت إمكانيّة طرح أيّ حلول سياسيّة وسلميّة لأزمتها، في ظلّ اعتقاد كلّ طرف أنّه سيحقّق النصر لصالحه في أقرب وقت، وهو ما نسف كلّ الجهود الرّامية إلى وقف النّزيف السّوريّ الذي دخل عامه الحادي عشر.
رغم الكمِّ الهائل من المؤتمرات التي عقدتها أطراف الصراع السّوريّ، إن كان من جانب المعارضة والأطراف الرّاعية والدّاعمة لها، أو من جانب النّظام وحلفائه؛ فإنّها لم تتوصّل إلى برنامج عمليّ ووطنيّ واضح يلتفُّ حوله السّوريّون للخروج من الأزمة. فمنذ انعقاد مؤتمر أنطاليا عام 2011 وكذلك مؤتمر معارضة الدّاخل الذي عقد في فندق سميراميس وحضره نائب الرّئيس السّوريّ “فاروق الشرع”، وكذلك مؤتمر تأسيس هيئة التنسيق الوطنيّة في بلدة “حلبون” التّابعة لمحافظة ريف دمشق في 6 أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 2011. وبعدها تتالى انعقاد المؤتمرات والاجتماعات في الدّاخل والخارج، وصولاً إلى مؤتمرات جنيف وسوتشي واجتماعات أستانا المتتالية وفيينا أيضاً، فإنّها جميعاً لم تتمكّن من إخراج الأزمة السّوريّة من عنق الزُّجاجة، بل على العكس تماماً، تفاقمت أكثر ودخلت في متاهات عديدة، وغدا حلّها إقليميّاً ودوليّاً، بعد أن تدخّلت عدّة قوى بشكل مباشر في الأزمة، إثر فشل مراهناتها على أدواتها السّوريّة في تنفيذ وتمرير أجنداتها في الدّاخل السّوريّ.
لا يُخفى على أحد أنّ عدّة قرارات أمميّة صدرت بخصوص الأزمة السّوريّة، إلّا أنّ أهمّها على الإطلاق كان القرار رقم /2254/ الذي تضمّن عدة بنود رئيسيّة تُفضي إلى حلّ الأزمة سياسيّاً وتقطع الطريق أمام الحلول العسكريّة، ليعقبها تشكيل هيئة حكم انتقالي ووضع دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة، مترافقة مع بدء مرحلة إعادة الإعمار.
سنتطرق في هذا البحث إلى اللّجنة الدّستوريّة التي أنشئت بموجب اتّفاقات وتفاهمات دوليّة وإقليميّة، رغم أنّها جاءت في سياق بنود القرار الصادر من مجلس الأمن الدّوليّ /2254/ في 18 ديسمبر/ كانون الأوّل 2015، إلا أنّ الدّول التي ضغطت باتّجاه تشكيل اللّجنة الدّستوريّة خرجت عن سياق وروح القرار الأمميّ، وحاولت أن تُجيّرها لصالح أجنداتها الخاصّة.
لا شكّ أنّ تأسيس اللّجنة الدّستوريّة يُعدُّ مطلباً شعبيّاً وقانونيّاً سوريّاً، وقبل كلّ شيء يُعتبر حاجة ملّحة، إن كان الهدف منها وقف نزيف الدم السّوريّ، وتنظيم حياة الشّعب السّوريّ الذي قذفته أهوال الحرب في كلّ أصقاع الأرض، وبات يبحث عن مكان يحافظ فيه على حياته، ويحلم بالعودة إلى بلاده وقد صمتت قرقعة الأسلحة وهدير الطائرات، وتوقّف القتل على الهُويّة الطائفيّة والمذهبيّة والدّينيّة والعرقيّة.
سنعرج على أهمّ المفاصل الرّئيسة لتشكيل اللّجنة، وكذلك التوافقات التي حصلت قبل تأسيسها، والقوى والأطراف السّياسيّة التي شاركت فيها. فيما سنتوقف عند القوى التي تمّ استبعادها من المشاركة في اللّجنة وأسبابها السّياسيّة والقوى التي تقف وراءها. وسنبحث في الصراع الدّائر في اللّجنة، والذي يمثّل إحدى تجلّيات الصراع في سوريّا وعليها، وذلك من خلال استعراض أهمّ ما تمّت مناقشته في الجلسات التي عقدتها، والمنغّضات التي تعترض سبيل إنجاحها، فيما سنتطرق إلى المآخذ على عمل اللّجنة وتشكيلتها، وإمكانية نجاحها من فشلها.
الدّستور تعريفاً
يُعدُّ الدّستور النّاظم لحياة المجتمعات والشّعوب، فينقلها من حالة البداوة إلى حالة التحضّر والعيش وفق قوانين وقواعد تنظّم حياته السّياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة والثّقافيّة وعلى كلّ المستويات. والتّعريف القانونيّ حسب المشرّعين، وكما وصفته الأدبيّات الدّستوريّة بأنّه “مجموعة المبادئ الأساسيّة المنظّمة لسلطات الدّولة والمبيّنة لحقوق كلّ من الحكّام والمحكومين فيها، بدون التدخّل في المعتقدات الدّينيّة أو الفكريّة، ولبناء الوطن، وهي الواضعة للأصول الرّئيسيّة التي تنظّم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامّة، أو هو موجز الإطارات التي تعمل الدّولة بمقتضاها في مختلف الأمور المرتبطة بالشؤون الدّاخليّة والخارجيّة”.
وحسب المؤرّخين والمشرّعين أنّ كلمة دستور وافدة إلى اللّغة العربيّة، فهي كلمة معرّبة؛ أصلها “فارسي” يتكوّن من مقطعين: مقطع (دست) بمعنى قاعدة، ومقطع (ور) ومعناه صاحب، أي تصبح صاحب القواعد.
والدّستور ينظّم العلاقة بين السُّلطات الثّلاث الرّئيسيّة في الدّولة (التّشريعيّة، التّنفيذيّة، والقضائيّة) بحيث لا تتعارض مع بعضها، بل تتكامل في حماية المواطن والدّولة من الأخطار والتهديدات الدّاخليّة والخارجيّة، وكذلك تحفظ حقوق المواطنين، وبموجبه تُسنُّ القوانين الفرعيّة لكلّ مؤسّسة وإدارة في الدّولة.
أهميّة الدّستور في حياة المجتمعات:
إنّ جميع الشعوب بحاجة ماسّةٍ إلى وضع دستور لحياتها ولكافّة أنشطتها. فحتّى العشائر والقبائل تضع دساتير تناسب أوضاعها، وإن لم تكن بالمستوى القانونيّ المُتعارف عليه، إلّا أنّها تنظّم حياة أفراد العشيرة وفق منظومة قانونيّة معيّنة، ويلتزم بها الجميع، في حين يسهر رئيس العشيرة على حُسنِ سير وتطبيق القانون. ولا يمكن للمجتمعات أن تحيا وتتطوّر دون وجود دستور، وعند إلغائه أو وقف العمل به، تسود بدلاً منها الفوضى، وهذا ما يحدث عادة أثناء الانقلابات العسكريّة، حيث يُحلُّ الدّستور أو يوقف العمل به، ويفرض بدلاً منه قانون الطوارئ والأحكام العرفيّة.
إلّا أنّه وفق المعايير الحديثة المُتّبعة في معظم دول العالم؛ فإنّه للدّستور أهميّة كبيرة في المجالات التّالية:
1 – من النّاحية السّياسيّة: يُحدّد الدّستور طبيعة الدّولة إن كانت مَلَكيّة أم جمهوريّة، وما هو نظام الحكم فيها سواء كان برلمانيّاً، أو رئاسيّاً. ويضع فلسفة الحكم المحلّيّ، ويرسم الهيئة الإداريّة للدّولة، ويُحدّد أطر سيادتها وشكلها وحدودها.
2 – من النّاحية الحقوقيّة: يرسم أطر حُرّيّات الأفراد، إن كانت دينيّة، أم سياسيّة، أم مدنيّة، أم فكريّة، ويحفظها، دون أيّ تمييز بين أفراد المجتمع على أسس عرقيّة أو دينيّة أو ما شابه ذلك.
3 – من النّاحية القانونيّة: يعتبر رجال القانون أنّ الدّستور يُعدُّ “المرجعيّة الأساسيّة لكافّة التشريعات والقوانين”، وأنّه “يحدد دور الدّولة في تنظيم النشاط الاقتصاديّ الذي يحقّق التوازن بين مصلحة المجتمع والفرد، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة”. كما يُعدُّ في “قمّة الهرم الخاص بقانون الدّولة”. ويضع القوانين التي تحمي الأمّة والوطن وكذلك قيمه الثّقافيّة والرّوحيّة ويبرز هُويّتها.
مآل الدّستور الرّوسيّ لسوريّا:
طرحت روسيّا في 26 يناير/ كانون الثاني 2017 دستوراً لسوريّا صاغته في دوائرها الخاصّة، وعرضته على النّظام في وقت سابق للتّاريخ الذي أعلنت فيه، كما طرحته أمام المعارضة في اجتماعات أستانا، فرفضته المعارضة جملة وتفصيلاً. ونُقِلَ حينها أنّ الوفد الرّوسيّ برئاسة موفد الرّئيس الرّوسيّ إلى سوريّا “ألكسندر لافرنتييف” في ختام محادثات أستانا وضع الدّستور الذي أعدّته بلاده على الطاولة، فلم يأخذ أحد من أعضاء وفد المعارضة النّسخة التي قُدّمت لهم، وقالوا: “إنّنا نرفض النّقاش حوله، ونرفضه كليّاً”.
أدركت روسيّا الوضع المحرج الذي وضعت نفسها فيه حينما طرحت ذاك الدّستور، خاصّة بعد أن قوبل بالرّفض من قبل معظم أطياف المعارضة السّوريّة، وكأنّها حاولت خلاله أن تكسب ما لم تستطع أن تناله من جولاتها العسكريّة. فأدارت بوصلتها نحو تعزيز دورها السّياسيّ والدّبلوماسيّ بعقد صفقات مع الدّول الإقليميّة التي لها دور فاعل في سوريّا، مثل تركيّا وإيران، في مسعى لجعلها بديلة للإجماع الدّوليّ الذي انصبّ اهتمامه على تفعيل دور مؤتمرات جنيف ومقرّرات فيينا، فأنشأت روسيّا عدّة مسارات موازية، مثل مسار أستانا وسوتشي، وأيضاً طرحت فكرة إعداد دّستور جديد لسوريّا.
نص الدّستور الرّوسيّ على عدّة فقرات رئيسة تتعلّق بتنظيم الدّولة السّوريّة وفق مبادئ أساسيّة، بعد إجراء تعديلات جوهريّة على الدّساتير السّابقة، الأمر الذي فسّره بعض الخبراء القانونيّين بأنّه جاء وفق متطلّبات المصالح الرّوسيّة في سوريّا، وخاصّة في الشقّ الاقتصاديّ منه. جاءت أهمّ بنود الدّستور الرّوسيّ – السّوريّ الذي تمّت صياغته في موسكو، دون علم النّظام (الحكومة السّوريّة) وكذلك أطراف المعارضة والإدارة الذّاتيّة الدّيمقراطيّة في روج آفا التي تحوّلت لاحقاً إلى الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا، على الشكل التالي:
1 – شطب اسم “الجمهوريّة العربيّة السّوريّة”، واستبداله بالــ “الجمهوريّة السّوريّة”، مثلما كان اسمها قبل تولّي حزب البعث السُّلطة عام 1963.
2 – لم يَعُد الفِقهُ الإسلاميّ مصدراً للتشريع، حيث ألغيت الفقرة التي كانت تنص على ذلك، وهذه ولّدت ردّة فعل كبيرة لدى جماعة الإخوان المسلمين، حيث يطالبون بدولة إسلاميّة.
3 – عدم تحديد ديانة الرّئيس، بعد إلغاء المادّة التي كانت تحدّد ديانة الرّئيس بـ “الإسلام”.
4 – اللّغتان العربيّة والكُرديّة متساويتان في مناطق الحكم الذّاتيّ الثّقافي الكُرديّ، ويحقّ لكلّ منطقة وفقاً للقانون أن تستخدم بالإضافة إلى اللّغة الرّسميّة لغة أكثريّة السكّان إن كان مُوافَقاً عليها.
5 – تطبيق مبدأ “لا مركزيّة السُّلطات”، واستبدال “جمعيّة المناطق”، بدلاً من “الإدارات المحلّيّة” في شكلها الحالي، ومنحها صلاحيّات موسّعة تقيّد مركزيّة السُّلطات.
6 – استبدال تسمية “جمعيّة الشّعب” بدلاً من تسمية “مجلس الشّعب”، أي البرلمان المصغّر في الأقاليم.
7 – تتولّى “جمعيّة المناطق” السُّلطة التّشريعيّة في البلاد، وتتكوّن من “ممثّلي الوحدات الإداريّة”، وينعقد مجلسها على نحو منفرد عن «مجلس الشّعب»، ويجوز لها عقد جلسة عامّة للانتخاب والاستماع إلى رئيس الوزراء أو رئيس الجمهوريّة.
8 – يجوز لجمعيّة المناطق إحالة مشاريع القوانين إلى جمعيّة الشّعب للنظر فيها.
9 – يحقّ لمجلس الشّعب تعيين أعضاء المحكمة الدّستوريّة العليا، (وهي جزء من صلاحيات الرّئيس في الدّستور الحالي)، وتعيين رئيس “البنك الوطنيّ”، حيث اسمه في الدّستور الحالي “البنك المركزيّ” وهو المخوّل بإقالته من منصبه أيضاً.
10 – إلغاء التّقسيم السّائد لعضويّة مجلس الشّعب؛ نصف الأعضاء من فئة العمّال والفلّاحين، والنصف الآخر من باقي الفئات.
إنّ قراءة سريعة في بنود هذا الدّستور، توضّح بشكل جليّ لا شكَّ فيه أن روسيّا تسعى إلى استبدال شكل الدّولة السّوريّة، وهي أهمّ البنود التي طالها التغيير، وفق الصيغة التي أعدّتها موسكو، حيث قلّصت من صلاحيّات الرّئيس الذي يستأثر ويَحصُر مهام الدّولة بمعظمها في منصبه، ما ولّد ديكتاتوريّات تشبّثت بكرسيّ الحكم، فيسنُّ ويُشرّع القوانين بما يتلاءم مع نظامه، كذلك بيده القرار العسكريّ والمؤسّسة العسكريّة، فيما يتحكّم بمفاصل العمل التّشريعيّ أيضاً من خلال صلاحيّاته في تصديق القوانين والتّشريعات وكذلك حلّ مجلس الشّعب (أي البرلمان). كما اشترط للترشّح لرئاسة الجمهوريّة أن يكون المرشّح قد أتمّ الأربعين عاماً من عمره، على عكس ما تمّ تغييره أثناء تنصيب الرّئيس الحالي بشّار الأسد بتحديد عمره أن يكون قد تجاوز /34/ عاماً. فيما حدّد مدّة ولايته بسبع سنوات، على ألا يترشّح لأكثر من دورتين. واشترط أن يؤدّي القسم الدّستوريّ أمام أعضاء جمعيّتي “الشّعب والمناطق”، حيث تمّ تغيير القسم الدّستوري عبر حذف لفظ “الجلالة” منه وكذلك لم ترد فيه أيّ اشارة «قوميّة عربيّة» أو «اشتراكيّة»، ليكون: «أقسم أن ألتزم بدستور البلاد وقوانينها، وأن أحترم وأحمي حقوق وحُرّيّات الإنسان والمواطن، وأن أدافع عن سيادة الوطن واستقلاله وسلامة أرضه، وأن أتصرّف دائماً وفقاً لمصالح الشّعب». أمّا القسم الحالي، فهو: «أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد وقوانينها ونظامها الجمهوريّ، وأن أرعى مصالح الشّعب وحُرّيّاته، وأحافظ على سيادة الوطن واستقلاله وحُرّيّته والدّفاع عن سلامة أرضه، وأن أعمل على تحقيق العدالة الاجتماعيّة ووحدة الأمّة العربيّة”. وتوكّل لـ”جمعيّة المناطق” تولّي مهام رئيس الجمهوريّة في حال الشغور الرّئاسي (مرضه أو وفاته أو عجزه عن أداء مهامه)، وكذلك عجز رئيس مجلس الوزراء عن القيام بتلك المهام.
كما حدّد عدداً من مهام مجلس الوزراء في إدارة الحكومة وتعيين نواب رئيس مجلس الوزراء والوزراء وعقد المعاهدات والاتّفاقيّات. فيما حصر سحب الثّقة من الحكومة بـ”جمعيّة المناطق” بتصويت ثلثي الأعضاء.
وأجرى الدّستور المقترح من قبل روسيّا تعديلات كبيرة في تشكيل المحكمة الدّستوريّة العليا، حيث تتألّف من /11/ عضواً بدلاً من /7/ أعضاء، وتعيّنهم “جمعيّة المناطق”، بعدما كان يسمّيهم رئيس الجمهوريّة بمرسوم.
كذلك حدّد الدّستور الرّوسيّ لسوريّا مهام القوّات المسلّحة في الدّفاع عن سيادة الدّولة، وأسقط عنه “الصفة العقائديّة”. غير أنّ المسألة الأكثر إثارة في الدّستور هو تحديد توجّه الدّولة الاقتصاديّ، حيث أكّد على سيادة علاقات السّوق، عبر القول: “إنّ سوريّا تؤمّن حُرّيّة النّشاط الاقتصاديّ وتُعترف بالملكيّة الخاصّة، وتَخلق الدّولة على أساس علاقات السّوق ظروفاً لتطوير الاقتصاد وتضمن حُرّيّة الأعمال، كما تضمن حُرّيّة تنقّل البضائع والرّساميل، وأنّ الموارد الطبيعيّة يمتلكها الشّعب”.
رفضت معظم أطراف المعارضة الدّاخليّة والخارجيّة مسوّدة الدّستور الرّوسيّ المعدّ لسوريّا، فيما ظلّ موقف النّظام ضبابيّاً، ولم يصدر منه أيّ موقف واضح رافض أو موافق عليه. وعلى إثر ردود الفعل الرّافضة؛ عمدت روسيّا إلى محاولة تبرير موقفها ومحاولتها تدوير الزّوايا، عبر الإيحاء بأنّ الدّستور الذي طرحته ما هو إلا مجرّد مشروع وبداية لحراك سياسيّ سوريّ، ومحاولة لمساعدة السّوريّين للخروج من الأزمة. وقالت النّاطقة باسم وزارة الخارجيّة الرّوسيّة ماريا زاخاروفا: “إنّ المشروع هو عبارة عن مجموعة أفكار ونقطة انطلاق للنّقاش، لا شيء حتّى الآن سوى التسريبات. هذا بالتأكيد ليس إجباراً وليست خطّة عمل ثابتة، إنّها مجموعة أفكار وخيارات، لكي يبدأ الحديث عن هذا الموضوع، إنّها نقطة ما لإطلاق النّقاش لتركيز انتباههم “السّوريّين” وجهدهم على مناقشة مشروع مستقبل بلادهم بدلاً من الأحاديث الفارغة”.
اللّجنة الدّستوريّة بين مصالح الخارج وآمال السّوريّين:
طُرِحَت فكرة تشكيل اللّجنة الدّستوريّة في مؤتمر سوتشي في يناير/ كانون الثاني 2018، بعد اتّفاق ما تُسمّى الدّول الضامنة في اجتماعات أستانا (روسيّا، تركيّا، وإيران). ورغم أنّ تشكيل اللّجنة الدّستوريّة قد ورد ضمن بنود القرار الأمميّ /2254/، حيث أنّه تضمّن أربع سلال رئيسيّة، هي (هيئة الحكم – دستور جديد – الانتخابات – محاربة الإرهاب). واعتبرت تلك السلال الملفّات الأساسية للتفاوض في جنيف، وسُمّيت بـ” السّلال الأربعة” لموفد الأمين العام للأمم المتّحدة حينها “ستيفان ديمستورا”، وهي بمجموعها شكّلت رؤية للحلّ السّياسيّ في سوريّا، إلا أن الدّول الغربيّة وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة لم تتشجّع كثيراً لفكرة تشكيل اللّجنة الدّستوريّة، وكذلك الاتّحاد الأوروبيّ، وأبديتا موافقتهما على مضض مع بعض التحفّظات، لعدّة أسباب، أهمّها، أنّها اعتبرت أنّ الأجواء غير ملائمة لتشكيلها، والنّظام لا يزال بعيداً عن قبول أيّ حلول سياسيّة ويعرقل كلّ الجهود الرّامية إلى وقف العنف، وهو ما تبيّن من خلال جولات المفاوضات في جنيف.
طال أمد تشكيل اللّجنة، وتعرّض مسارها لكثير من الشدّ والجذب بين مختلف الأطراف المشاركة فيها، ودارت نقاشات ومباحثات بين جميع الأطراف، فظهرت خلافات عديدة حول نقاط كثيرة، أهمّها، طبيعة ومرجعيّة الأطراف التي ستشارك في قوام اللّجنة، وخاصّة من طرف المعارضة.
بعد تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات، التي تأسّست في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول 2015 خلال اجتماع عقدته أطراف المعارضة السّوريّة في الرّياض، انضمّت إليها فيما بعد كلّ من منصّتي موسكو والقاهرة، حيث تتألّف الأولى من مجموعة قوى وأحزاب معارضة داخليّة وخارجيّة بقيادة المعارض السّوريّ المقيم في موسكو “قدري جميل”، والثّانية ضمّت أيضاً قوى من الدّاخل السّوريّ والخارج كان يقودها “حسن عبد العظيم” وفيما بعد الفنّان “جمال سليمان”. ضمت الهيئة اثنين وثلاثين عضواً، بينهم تسعة من الإئتلاف الوطنيّ لقوى الثّورة والمعارضة، وهم: ” جورج صبرا، فاروق طيفور، عبد الحكيم بشّار، سهير الأتاسي، منذر ماخوس، خالد خوجة، رياض سيف، رياض حجاب، وسالم المسلط”، وعشرة من الفصائل المسلّحة، وخمسة من هيئة التنسيق الوطنيّ، وثمانيةٌ مستقلون، هم: “معاذ الخطيب، لؤي حسين، أحمد الجربا، رياض نعسان آغا، هند قبوات، يحيى قضماني، حسام الحافظ، وعبد العزيز الشلّال”، إضافة إلى ستّة عن هيئة التّنسيق، وهم: “منير البيطار، صفوان عكّاش، أحمد العسراوي، محمّد حجازي، زياد أبو وطفة، وليد الزعبي”، ترأس الهيئة الدكتور “رياض حجاب”. رغم التئام شمل الهيئة، إلا أنّ الخلافات ضربت صفوفها. فبعد رئاسة رئيس الوزراء السّوريّ المنشقّ “رياض حجاب” كمنسّق عام لها، ظهر للعيان أنّ جماعة الإخوان المسلمين مارست ضغوطاً كبيرة على الهيئة، لجعلِها تتماشى وتعمل وفق أجنداتها. فبالرغم من أنّ موقف الجماعة الرّسميّ تمثّل في عدم الموافقة على التفاوض مع النّظام والابتعاد عن المشاركة في الهيئة، إلا أنّها شاركت فيها عبر القيادي في الجماعة “فاروق طيفور”، كما لجأت إلى أسلوب المواربة والمراوغة في ضبط إيقاع اللّجنة حسب رؤيتها، حيث زجّت بأشخاص محسوبين عليها، مثل العميد المنشقّ “أسعد عوض الزّعبي” والدّكتور “نصر الحريري”. عيّنت الهيئة في بداية عملها الدّكتور رياض نعسان آغا متحدّثاً باسمها.
تفاقمت الخلافات أكثر داخل الهيئة، وتسرّبت أنباء حول استغلال بعض الأشخاص لمناصبهم لتمرير مصالحهم الخاصّة وكذلك مصالح الدّول الإقليميّة التي ترعاهم. أعلن المنسّق العام “رياض حجاب” مع عشرة أعضاء آخرين بينهم الدّكتور رياض نعسان آغا استقالتهم من الهيئة، إثر عدم قدرتهم على توحيد آراء ومواقف الهيئة وسيطرة جماعة الإخوان المسلمين على كلّ مفاصل عملها، فضغطت السّعوديّة على الهيئة لعقد مؤتمر ثانٍ لها، وفعلاً عقد مؤتمر الرّياض – 2 في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017.
الهزّة التي تعرّضت لها الهيئة، جعلتها ترتدُّ إلى الوراء قليلاً، وتقرّر في مؤتمر الرّياض – 2 زيادة أعضائها إلى خمسين عضواً بدلاً من اثنان وثلاثين، وتوزّع الأعضاء على الشّكل التالي: عشرة من الإئتلاف، ستّة من هيئة التّنسيق، أربعة من منصّة موسكو، كما ضمّت ممثّلين للفصائل العسكرية أيضاً. ومرّة أخرى تمّ استبعاد العديد من القوى السّياسيّة الفاعلة داخل سوريّا، ومن أهمّها الإدارة الذّاتيّة الدّيمقراطيّة في شمال وشرق سوريّا، ومجلس سوريّا الدّيمقراطيّة الذي يعتبر مظلّة للعديد من القوى السّياسيّة الكُرديّة والعربيّة والسُّريانيّة والآشوريّة والتركمانيّة.
أشرفت الهيئة العليا للمفاوضات على تشكيل وفد المعارضة للمشاركة في اللّجنة الدّستوريّة، واعتمد فيها نظام “المحاصصة” الطائفيّة والعرقيّة والسّياسيّة، والأخطر فيها؛ أنّ تعيين أعضائها جاء وفق السيناريوهات التي رسمتها لها دول إقليميّة مثل تركيّا، السّعوديّة، وكذلك روسيّا وغيرها من الدّول. فيما وفد النّظام، ضمّ مسؤولين من حزب البعث، منهم أكاديميّين وكذلك عناصر أمنيّة. اعتقد العديد من المراقبين أنّ هذه التوليفة من اللّجنة لن تتمكّن من الوصول إلى أيّة نتائج مرجوّة منها. فتباينت أهداف وتطلّعات الطرفين من اللّجنة، ففيما دعت المعارضة إلى “إعداد دستور جديد”، فإنّ النّظام طالب “بتعديل الدّستور الموجود” أي الدّستور الذي طرحته عام 2012 المعدّل عن الدّستور الذي أعدّه الرّئيس السّابق حافظ الأسد عام 1973.
اقترحت الدّول الثّلاث الرّاعية لاجتماعات أستانا أن تتشكّل اللّجنة من /150/ عضواً، خمسين عضواً من المعارضة، ومثلهم من النّظام، والثّلث الأخير من منظّمات المجتمع المدنيّ يختارهم المبعوث الدّوليّ إلى سوريّا. وانبثقت عنها لجنة مصغّرة مؤلّفة من /45/ عضواً موزّعة بالتّساوي بين الأطراف الثّلاثة.
حدّد المبعوث الأمميّ السّابق لسوريّا “ستيفان ديمستورا” ومن بعده “غير بيدرسون” مبادئ أساسيّة لعمل اللّجنة، منها ضرورة التزامها بمرجعيّة بيان جنيف رقم /1/ لعام 2012 وكذلك والقرارات الدّوليّة ذات الصلة بسوريّا، وخاصّة القرار /2254/ لعام 2015. وكان المبعوثان قد قاما بعدّة جولات مكوكيّة بين العواصم ذات العلاقة بالشأن السّوريّ، مثل موسكو، أنقرة، الرّياض وكذلك دمشق، للدّفع باتّجاه “تشكيل اللّجنة الدّستوريّة”، وواجه عملهما عدّة معوّقات، منها تأكيد المعارضة السّوريّة على ضرورة الالتزام بتحقيق الحلّ السّياسيّ، وكذلك تحديد جدول أعمال للعمليّة السّياسيّة التفاوضيّة في سوريّا، والخطوات التي تؤمّن إجراءات الثّقة المتبادلة، على أن يسبق أيّ عمليّة تفاوضيّة الإفراج عن المعتقلين والمخطوفين، والعودة الآمنة والطوعيّة للمهجّرين والنّازحين، وهذا ما رفضه النّظام وروسيّا.
استغرق تشكيل اللّجنة الدّستوريّة أكثر من عام ونصف، تخلّله جدال حول أعضائها وآليّات عملها ومرجعيّتها، وكذلك عدّة أمور تقنيّة أخرى مثل رئاستها وشروط ما قبل جلوس الطرفين حول طاولة حوار واحدة برعاية أمميّة. فأولى الخلافات التي تسرّب فحواها في أروقة مجلس الأمن أثناء تشكيل اللّجنة الدّستوريّة كان حول ستّ أشخاص، حيث “أصرّت المعارضة على تواجدهم ضمن قائمة الأمم المتّحدة (منظّمات المجتمع المدنيّ)، بينما عارض النّظام ذلك، ومن بين هؤلاء الستّة شخصيّات قانونيّة ودستوريّة كبيرة، خشي النّظام من موقفهم، وتمّ تجاوز مشكلتهم حيث اتّفق على أن النّظام وروسيّا سيقومون بتسمية شخصيّتين، بينما يقوم بيدرسون بتسمية الأربعة الباقين”. الخلاف الآخر ظهر حول رئاسة اللّجنة، حيث طالب النّظام ترؤّس شخص ضمن وفده للّجنة، وبعد ضغوط من الأمم المتّحدة وروسيّا، وافق النّظام على مبدأ الرّئاسة المشتركة لها، على أن يتمتّع كليهما بصلاحيّات متساوية، وعيّن النّظام “أحمد الكزبري” رئيساً من طرفها، فيما عيّنت المعارضة “ممتاز البحرة” رئيساً مشاركاً لها. إلا أنّ عدّة مصادر من المعارضة وموالية للنّظام، أكّدت أنّ قائمة منظّمات المجتمع المدنيّ تمّ تعيينها مناصفة بين المعارضة والنّظام، كجزء من المحاصصة بينهما.
أعلن الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش عن تشكيل اللّجنة في 23 سبتمبر/ أيلول 2019، وكان قبلها قد تمّ الاتّفاق بين رؤساء الدّول الضّامنة في سوريّا “روسيّا، تركيّا، وإيران”، خلال قمّة ثلاثيّة عُقِدت بينهم في أنقرة في 16 سبتمبر/ أيلول 2019.
حاولت روسيّا التّسويق للجنة الدّستوريّة بأنّها الحلّ الوحيد للأزمة السّوريّة، بالتّزامن مع وضعها العصي في عجلة اللّجنة، وكأنّها تريد أن تسيطر عليها وتحدّد نتائجها سلفاً وقبل عقدها لأيّ جلسة لها، فطرحت فكرة أن تكون مرجعيّة اللّجنة تفاهمات “أستانا” وليس جنيف والقرارات الأمميّة، محاولة تغليف مساعيها بمسحة من المقاربات المزيّفة، مثل مطالباتها بالحفاظ على وحدة الأراضي السّوريّة، وانسحاب جميع القوّات الأجنبيّة من سوريّا، فيما برّرت هي وإيران وجودهما بأنّه جاء تلبية لطلب حكومة شرعيّة. كذلك اشترطت الأمم المتّحدة اعتماد اللّجنة الدّستوريّة على مُخرجات مفاوضات جنيف الممثّلة بالبنود الـ 12، وألا ينعقد مؤتمر سوتشي مرّة ثانية حتّى لا يحلّ بديلاً عن مسار جنيف.
إقصاء الكُرد من تشكيلة اللّجنة:
يبدو أنّ الثّقافة الإقصائيّة التي زرعتها الأنظمة السّوريّة المتعاقبة في أذهان المجتمع السّوريّ، وخاصّة نظام البعث منذ سيطرته على مقاليد السُّلطة عام 1963، تلك الثّقافة مثّلتها المعارضة المجتمعة ضمن الإئتلاف السّوريّ، من خلال رفضها مشاركة الكُرد والإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا في أيّ من هياكل المعارضة، بما فيها الإئتلاف. ويزعم عدد من الكُرد المنتمين إلى المجلس الوطنيّ الكُرديّ أنّهم يمثّلون الكُرد في المحافل الدّوليّة وهيئات المعارضة، إلا أنّ هذا بعيد عن الحقيقة كلّياً، دون أيّ إسقاط سياسيّ للمسألة. فقد صرّح العديد من المسؤولين في المعارضة أنّهم لا يقبلون بأيّ شكلٍ من الأشكال لوجود كُرديّ مستقلّ ضمن صفوفهم، هذا فضلاً أنّ الحقوق الكُرديّة، وإلى الآن، لم تُدرج في أيّ من وثائق المعارضة أو طُرحت في أيّ من مؤتمراتها واجتماعاتها. فلم يحضر أيّ من ممثّلي القوى السّياسيّة الكُرديّة في الدّاخل اجتماعات أستانا وفيينا وجنيف وسوتشي، ومشاركة أعضاء المجلس الوطنيّ الكُرديّ في بعض تلك الاجتماعات، جاءت بصفتهم أعضاء في الإئتلاف لا بصفتهم ممثّلي الشّعب الكُرديّ في روج آفا وسوريّا. هذه الحقيقة لم تعترف بها المعارضة إلى يومنا هذا، وهي إحدى الأسباب الرّئيسيّة لعدم ثقة الشّعب الكُرديّ وممثّليه بأقطاب وهياكل المعارضة، التي تنكّرت لحقوق ووجود الشّعب الكُرديّ في مستقبل سوريّا.
كان لتركيّا الدّور البارز والرّئيسيّ في ممارسة الضغوط على المعارضة لحملها على رفض التمثيل الكُرديّ ضمن المعارضة السّوريّة. فتركيّا المُصابة بالفوبيا الكُرديّة، تتخوّف من مشاركة ممثّلي الشّعب الكُرديّ في أيّ من هياكل المعارضة ومؤسّساتها وبالتالي حصولهم على اعتراف دوليّ رسميّ، يؤهّلهم لنيل حقوقهم المشروعة ضمن سوريّا ديمقراطيّة مستقبلاً، وهي استخدمت نفوذها لدى أطراف المعارضة، وخاصّة جماعة الإخوان المسلمين، في رفض مشاركة الكُرد، بل حتّى أصدرت مواقف معادية للكُرد، من خلال وسمهم بالانفصال ومحاولة تقسيم سوريّا. كما أنّ تلك القوى المدعومة من تركيّا أيّدت مواقف الأخيرة في احتلالها لمناطق الكُرد، مثل عفرين، سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، بل وشاركت معها أيضاً.
بالمقابل؛ أعلنت معظم القوى والحركات الكُرديّة في الدّاخل السّوريّ، وكذلك الإدارة الذّاتيّة الدّيمقراطيّة، أنّها غير معنيّة بأيّ نتائج تسفر عن عمل اللّجنة الدّستوريّة أو أي من هياكل المعارضة، إن لم تكن مشاركة فيها، إعداداً وعملاً.
مواقف النّظام لم تكن أفضل من المعارضة، ورغم أنّه لم يعلن عن مواقف علنيّة رافضة لمشاركة الكُرد في اللّجنة الدّستوريّة وغيرها من المؤتمرات، إلا أنّه حاول الإيحاء بأنّ الكُرد مشاركين ضمن وفده في اللّجنة، وكذلك في مؤتمرات جنيف، حيث شارك كلّ من “عمر أوسي” رئيس ما تُسمّى “المبادرة الوطنيّة الكُرديّة” التي أنشأها النّظام لتعويمه باسم ممثّل الكُرد، وكذلك شارك السّفير السّوريّ السّابق في إسبانيا “حسام آلا”، ولكن بصفته دبلوماسيّاً سوريّاً وليس كُرديّاً. لم تظهر أيّ مواقف أو دعوات من النّظام بضرورة مشاركة الكُرد والإدارة الذّاتيّة في اللّجنة الدّستوريّة خلال جميع المحطّات التي مرّ بها تشكيلها.
كذلك لم تمارس روسيّا أيّ ضغط على المعارضة لحملها على مشاركة الكُرد في اللّجنة الدّستوريّة، وأبدت مقاربة من زاوية تنافسها وصراعها مع أمريكا على الجغرافيا السّوريّة، ومارست سياسة انتهازية إلى أبعد الحدود. فروسيّا التي فتحت الأجواء السّوريّة أمام الطيران التركيّ وقوات جيشها لاحتلال عفرين ومناطق كُرديّة أخرى، بالتأكيد لن تدع الكُرد يشاركون في اللّجنة الدّستوريّة.
في حين لم تبدِ الولايات المتّحدة أيَّ اهتمام على مشاركة الكُرد، بل وقفت تتأمّل المشهد وأعمال تشكيل اللّجنة وعملها من بعيد، وكأنّها غير معنيّة بها. اللا اهتمام الأمريكيّ ومن ورائه الأوروبيّ، أفضى لأن تستفرد كلّ من روسيّا، تركيّا، وإيران، بتشكيلة اللّجنة وكذلك سير أعمالها. فعند بروز أيّ مشكلة، إن كان من طرف المعارضة أو النّظام، تهرع الدّول الثّلاثة إلى التدخّل بشكل مباشر.
رغم وعود وتصريحات عدّة مسؤولين روس وأمريكيّين بضرورة مشاركة الكُرد والإدارة الذّاتيّة في اللّجنة الدّستوريّة، إلا أنّها دائماً جوبهت بالفيتو والرّفض التركيّ ومن ورائه المعارضة التي تمثّل حركة الإخوان المسلمين رأس الحربة فيها. وتبيّن في النهاية أنّ تلك الوعود والتصريحات لم تكن سوى للتسويق الإعلاميّ، فلم تظهر جدّيّة لدى الطرفين في إشراك الكُرد في اللّجنة وكذلك في محادثات جنيف.
وفي مؤتمر القاهرة للمعارضة السّوريّة الذي عقد في عام 2012، طالب الوفد الكُرديّ المشارك، أن تكون حقوق الكُرد في سوريّا، مادّة فوق دستوريّة، أي أن تُضمن في الدّستور تلقائيّاً وليست بحاجة للاستفتاء عليها بأيّ وقت كان. إلا أنّ المعارضة القومويّة والإسلامويّة عارضت هذا المبدأ.
تبقى هناك فرصة أمام الكُرد لتفعيل دورهم في هياكل المعارضة، عبر بناء مؤسّساتهم على الأرض وتمتين جبهتهم الدّاخليّة، وفتح قنوات اتّصال مع جميع القوى التي لها دور فاعل في الأزمة السّوريّة، على قاعدة الحفاظ على الثّوابت الوطنيّة الأساسيّة في سوريا، وعدم التفريط بالمنجزات التي حقّقتها الإدارة الذّاتيّة طيلة ثماني سنوات، فهي الضمانة الوحيدة للعودة إليهم وإشراكهم في جميع معادلات الحلّ النهائيّ السّوريّ.
العراقيل التي تواجهها اللّجنة الدّستوريّة:
سادت الأوساط السّياسيّة والحقوقيّة مخاوف من عدم تمكّن اللّجنة من إنجاز مهامها المُناطة بها، أو تحقيق الآمال التي عُلّقت عليها من قبل الأطراف التي ساهمت في تشكيلها. وروّجت المعارضة لفكرة أنّ النّظام لن يلتزم، كعادته، بأيّ من مُخرجات اللّجنة، حتّى إن توصّلت إلى وضع دستور سوريّ، فإنّه سيضع العراقيل أمام اللّجنة بالأصل، وبالتّالي إفشالها قبل أن تحقّق شيئاً. وفي هذا الصدد قال وزير الخارجيّة السّوريّ الرّاحل “وليد المعلّم” في إحدى تصريحاته قبيل انعقاد المؤتمرات الدّوليّة حول الأزمة السّوريّة عام 2011: “سوف نغرقهم بالتّفاصيل، وعليهم ان يتعلّموا السّباحة”، وكان يقصد المعارضة.
حاول النّظام ممارسة الضغوط على أعضاء اللّجنة من ممثّلي المجتمع المدنيّ، عن طريق أجهزته الأمنيّة، وهدّد بعضاً منهم لحملهم على الانسحاب من اللّجنة، ما استدعى أن يقول “ديمستورا” بعد اختطاف أحد أقرباء عضو في اللّجنة: “إنّنا شهدنا عمليّات اختطاف لأفراد من عوائل بعض المشاركين بلجنة صياغة الدّستور”. كما تبيّن من خلال مسار تشكيل اللّجنة أنّها – أي اللّجنة – جاءت نتيجة توافقات ومحاصصة دوليّة وإقليميّة، بعيداً عن الكفاءة والتخصص والتمثيل. وقد وجد بعض الخبراء الحقوقيين أنّه كان من المفترض وضع آليّات محدّدة لاختيار الأعضاء، مثل التمثيل الجغرافيّ من جميع المناطق السّوريّة، بحيث لا يتمّ إقصاء أو تهميش أيّ مكوّن منه، وهذا ما لم يتمّ، ما نسف شرعيّة اللّجنة من قبل الشّعب السّوريّ. وأقحمت عدد من الأسماء من طرف المعارضة لا علاقة لها بالدّساتير والقوانين ولا تمتلك أيّ خبرة. فيما تمّ تغيير قائمة المجتمع المدنيّ عدّة مرّات، نتيجة اعتراض النّظام والمعارضة عليها، وفي النّهاية جرى تشكيلها أيضاً وفق آليّة محاصصة بين المعارضة والنّظام، أي شارك كلّ طرف فيها عن طريق المبعوث الدّوليّ، وبموافقة الدّول الدّاعمة لكلّ طرف.
وما يبدّد من جهود اللّجنة وعملها، هو غياب منهج معيّن لعملها، على ضوء تباين وجهات نظر كلا الطرفين، حيث تصرُّ المعارضة على وضع دستور جديد للبلاد، يقلّل من صلاحيّات الرّئيس ويحوّل نظام الحكم إلى برلمانيّ، وتحدّد ولاية الرّئيس بولايتين فقط. فيما يتمسّك النّظام بتعديل بعض المواد والفقرات من الدّستور الذي أعدّه عام 2012، ويدّعي أنّه جاء ليلبّي مطالب الشّعب السّوريّ. هذه إحدى النّقاط الخلافيّة الكبيرة بين الطرفين، ما ينسف جهود المجتمع الدّوليّ في التوصّل إلى رؤية مشتركة بين الطرفين.
ويذهب العديد من خبراء القانون إلى الاعتقاد أنّ اللّجنة لن تتوصّل إلى وضع دستور جديد لسوريّا، بسبب الألغام التي وضعت أمام عملها، فـ”عقدة القواعد الإجرائيّة وطريقة العمل والنّظام الدّاخليّ وطريقة التصويت، ومدّة عمل اللّجنة، وصلاحيّة أعضائها، ومن المُراقِب لعملها، وكيف تعتبر جلساتها قانونيّة، وموضوع نسب التصويت، وغيرها من الأمور الإجرائيّة التي لم يتمّ الاتّفاق عليها”، حسب أحد القانونيين. فأيّ قرار من اللّجنة يحتاج إلى موافقة 75% من الأعضاء، أي /113/ عضواً من أصل /150/، وتسري ذات الآليّة على اللّجنة المصغّرة أيضاً أي موافقة /34/ عضواً من أصل /45/ عضو. هذه الآليّة بحدّ ذاتها تجعل من صدور أيّ قرار عن اللّجنة شبه مستحيل.
التفاصيل الأخرى تبدو أكثر صعوبة من المبادئ الأساسيّة التي لم يتمّ التوافق عليها، أو بالأحرى لم يتمّ مناقشتها بالأصل في الجلسات التي عقدتها اللّجنة. فقد حاول وفد النّظام إضاعة الوقت حول مسائل لا علاقة لها بعمل اللّجنة، مثل إدانة الإرهاب وحلّ التنظيمات المسلحة، فيما وفد المعارضة أصرّ على إطلاق سراح المعتقلين والسّماح بعودة اللّاجئين والنّازحين إلى منازلهم وإسقاط التُّهم الموجّهة إلى أبناء الشّعب السّوريّ ممّن هم خارج مناطق سيطرة النّظام.
ويتساءل العديد من المراقبين عن مرجعيّة اللّجنة الدّستوريّة، وكيف سيتمّ تطبيق الدّستور في حال تمّ التوافق عليه، هل من خلال استفتاء من قبل الشّعب، أم سيفرضه مجلس الأمن؟ كما أنّ شكل الدّولة السّوريّة المستقبليّة وفق الدّستور المأمول، أيضاً هو موضوع خلاف كبير بين المعارضة والنّظام. ففيما قسم من الأولى تتطلّع إلى دولة إسلاميّة، كجماعة الإخوان المسلمين، وقسم آخر يصرّ على أن تكون سوريّا دولة لا مركزيّة أو حتّى فيدراليّة، فإنّ النّظام يُصرُّ على مركزيّة الدّولة وتكون السُّلطات محصورة بالمركز. هذا الانقسام في الرؤى، مردّه إلى الجهات الدّوليّة والإقليميّة التي تدعم بعض أطراف المعارضة. “فالولايات المتّحدة وحلفاؤها يؤيّدون حكومة غير مركزيّة أو فيدراليّة، لكن تركيّا تعارض ذلك، كذلك فإنّ إيران وروسيّا تؤيّدان حكومة موحّدة مركزيّة. كذلك هنالك خلاف حول قضايا المواطنة والحصول على الجنسيّة، والعدالة الانتقاليّة والمصالحة الوطنيّة، وعودة النّازحين واللّاجئين، وانتشار السّلاح والجماعات المسلّحة غير النّظاميّة، والتواجد الأجنبيّ في سوريّا، وغيرها من القضايا الشائكة”. وهي قضايا وأسئلة معلّقة ولا يعتقد أحد بأنّ اللّجنة أو حتّى الكيانات السّياسيّة للمعارضة والنّظام قادرةٌ على الإجابة عليها.
هل يمكن إنقاذ اللّجنة من الفشل..؟
منذ بداية الإعلان عن تشكيل اللّجنة، لم يشعر أيّ سوريّ بالتفاؤل حيالها، أو عقد عليها الآمال في الوصول بسوريّا إلى دولة ديمقراطيّة يحكمها القانون والدّستور، لقناعته أنّ المشكلة لا تكمن في الدّستور، بل فيمن يطبق ويشرف على تطبيق الدّستور، خاصّة بعد أن فقد ثقته بكلّ من النّظام والمعارضة، على حدٍّ سواء.
فقضيّة الدّستور بحاجة إلى نشر “ثقافة دستوريّة تحترم الدّولة وتصون الدّستور”، فيما لا تزال ثقافة القطيع والرّئيس الأوحد والاعتقاد الدّينيّ بإمكانيّة إدارة الدّولة وفق الشّريعة الإسلاميّة، راسخاً في البنية الثّقافيّة والذّهنيّة للمجتمع السّوريّ، مضافاً إليها النّهج الإقصائيّ وعدم قبول الآخر المختلف معها، أمراً يزيد في تعقيد الأزمة. هذه الاتّجاهات الرّاديكاليّة والإلغائيّة تغذّيه أطراف المعارضة والنّظام، لا بل تُصرًّ على ديمومتها وتعتبرها أنّها الأصلح والأنسب للسوريّين في كلّ الأزمان. هذه التعبيرات عكست نفسها ضمن اللّجنة الدّستوريّة بشكل أوضح. فإقصاء الكُرد من المشاركة في اللّجنة، إنّما جاء بموافقة المعارضة والنّظام، ورُبّما هي القضيّة الوحيدة التي اتّفق الطرفان حولها.
وللأسباب المذكورة أعلاه؛ لا يُعوّل السّوريّون على دستور يكتب تحت الإملاءات الإقليميّة والدّوليّة وبأيدي لا سوريّة. فأيّ دستور يجب أن يضمن حقوق جميع المكوّنات السّوريّة، دون النّظر إلى عددها وحجمها، هذا إن كنّا نريد دستوراً يُنصِف السّوريّين جميعاً، لا أن يمثّل حقوق فئة ويحمي مصالحها، أو يكون مسبوغاً بلون دينيّ وطائفيّ ويخضع لإرادة الأغلبيّة. فالمسألة الجوهريّة في أيّ دستور سوريّ مستقبليّ، هو الابتعاد عن الأخذ بمفهوم الأغلبيّة والأقلية، وأن يعتمد التمثيل العادل والوازن لكلّ المكوّنات الدّينيّة والعرقيّة في سوريّا، وكلّ الاعتقاد أنّ أعضاء اللّجنة بعيدون عن هذه الثّقافة.
ونظراً للانقسام الحاصل في سوريّا ما بين الولاءات الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة، وعدم تبلور خطّ وطنيّ ثابت يُعتمد عليه في صوغ وإعادة تشكيل الدّولة السّوريّة، فإنّه من المرجح أن يكون الدّستور المزمع مؤقّتاً خلال المرحلة الانتقاليّة، ليُصار إلى وضع دستور دائم تحت إشراف الأمم المتّحدة في مرحلة لاحقة بعد وضع نهاية الأزمة السّوريّة وفي أجواء من الاستقرار والتّوافق بين السّوريّين أجمع. إلا أنّ هذه المرحلة تبدو بعيدة نسبيّاً، نظراً للتدخّلات الأجنبيّة والإقليميّة في مسارات الأزمة وتفاصيلها، فيجب في البداية إنهاء احتلال الأراضي السّوريّة، وخروج القوّات الأجنبيّة من أراضيها، وعودة السّيادة السّوريّة على جميع أراضيها وإداراتها ومؤسّساتها. فلا يمكن الحديث عن دستور سوريّ ومناطق إدلب وعفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض والباب وإعزاز محتلّة من قبل الدّولة التركيّة ومنسلخة عن السّيادة السّوريّة، كذلك التغلغل الإيرانيّ في مؤسّسات الدّولة السّوريّة، ونشر التشيّع، هو الآخر يُعدُّ عاملاً ينسف كلّ الجهود للتوصّل إلى دستور سوريّ يحمي السّيادة السّوريّة. فيما السّيطرة الرّوسيّة على مرافئها وتحكّمها بقوّاتها العسكريّة وقرارها السّياسيّ والاقتصاديّ، ينزع صفة المشروعيّة عن أيّ دستور يوضع في هذه الظروف.
ونظراً لأنّ اللّجنة تشكّلت وفق مبدأ المحاصصة بين المعارضة والنّظام، وليس على مبدأ الكفاءات القانونيّة، فإنّه تزداد المخاوف أن تجد هذه المحاصصة تمثيلاً لها في تفاصيل الدّستور، ليتمّ وضعه على أساس الانتماءات القوميّة والدّينيّة، على غرار ما حصل في اتّفاق الطائف بخصوص لبنان عام 1989 الذي نصّ أن يكون “رئيس الدّولة ماروني، رئيس الحكومة سنيّ، ورئيس مجلس النوّاب شيعيّ”. وفي هذه الحالة لا يمكن إنقاذ البلاد من التقسيم، بل نجد أنّ هذا الدّستور يكرّس التقسيم.
ونظراً لأنّ اللّجنة، وخلال اجتماعاتها الخمسة التي عقدتها، لم تتمكّن من الدّخول في تفاصيل وضع مسوّدة دستور لسوريّا، فإنّ الدّعوات كَثُرَت بحلّها والتشديد على عدم التعويل عليها أبداً. ونلمس في ثنايا عمل اللّجنة؛ أنّها تُسقط سياسات وأجندات دول إقليميّة على عملها، وكأنّها تسعى إلى تمثيل مصالحها وليس مصالح السّوريّين. فلم يطرح وفد المعارضة والنّظام علناً بإنهاء الاحتلالات على الأرض السّوريّة، أو مناقشته. هذا التّفصيل يراه خبراء قانونيين أنّه مهمّ جدّاً، بل يحدّد بوصلة عمل اللّجنة، ويحرّرها من الإملاءات الخارجيّة، ويبدو أنّ هذه القضيّة أيضاً بعيدة المنال وتعتبر ضرباً من المستحيل في ظلّ التّوازنات السّياسيّة والعسكريّة الرّاهنة.
خاتمة:
في ظلّ الإشكاليّات المتعلّقة بعمل اللّجنة وتشكيلتها غير المنسجمة، يسود اعتقادٌ قويٌّ بين الأوساط الحقوقيّة والسّياسيّة السّوريّة الوطنيّة وكذلك الدّوليّة والإقليميّة، بأنّ اللّجنة عاجزةٌ عن وضع دستور وطنيّ سوريّ يلقى قبولاً لدى جميع السّوريّين على مختلف انتماءاتهم الدّينيّة والإثنيّة، وأنّه يتوجّب قبل التفكير والعمل على وضع الدّستور، وقف المقتلة السّوريّة، وعودة اللّاجئين والنّازحين وإطلاق سراح المعتقلين وإنهاء مظاهر التسلّح في البلاد، ليتسنّى لجميع السّوريّين إبداء رأيهم في الدّستور، دون استبعاد لأيّ مكون. وبدلاً من إضاعة الوقت على اللّجنة الدّستوريّة؛ فإنّه ينبغي تنفيذ حلّ سياسيّ وفق القرارات الدّوليّة وأهمّها القرار /2254/ ومقرّرات مؤتمري فيينا. حينها ستتولّد الرّغبة في وضع دستور ملائم، دون تدخّل الدّول النّافذة في الأزمة السّوريّة.