أبحاث ودراساتافتتاحية العددصلاح الدين مسلممانشيتملف العدد 52

جلجامش – السلطة والمدنيّة الأولى

صلاح الدين مسلم

جلجامش – السلطة والمدنيّة الأولى

صلاح الدين مسلم

صلاح الدين مسلم
صلاح الدين مسلم

تمهيد

ملحمة جلجامش ملحمة سومرية مكتوبة بخطّ مسماري، وقد تم اكتشاف هذه الألواح بالصدفة بعد اكتشاف ألواح طينية عام 1853 م في موقع أثري، وعرف فيما بعد أنه المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشور بانيبال في نينوى في العراق، والألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة محفوظة حتى الآن في المتحف البريطاني.

كُتبت الألواح الطينيّة باللغة الأكادية، وتحمل في نهايتها توقيعاً لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني قد يكون كاتب الملحمة التي تعدّ أقدم قصة كتبها الإنسان، إنّ ملحمة جلجامش أقدم من التوراة، حتى أقدم من مجيء موسى عليه السلام، الذي يعتبره البعض في عام 1800 ق.م، وبالتالي هي أقدم من كلّ الديانات السماوية (اليهوديّة، المسيحية، الإسلام.

جلجامش هو خامس ملوك أورك الواقعة بين 2750  و 2350، كان ملكاً وكانت والدته من الآلهة واسمها ننسون، وكان والده بشراً عادياً واسمه لوغال باندا، لذلك كان ثلثاه إله، مهرته أمه الإلهة “نينسون” بالجمال، خلقته الإلهة “أرورو”، أمر ببناء سور حول مدينة أورك الذي دمر فيما بعد من قبل سرجون الأكادي.

هنا بدأت أولى معالم الدولة من خلال بناء السور الذي يعدّ أداة دفاعيّة وهجوميّة في نفس الآن، وبالنسبة لجلجامش هي أداو هجوميّة، لحماية العرش عندما يعدّ نفسه للهجوم على إمبراطورية أو أراض ما.

عُثر على ملحمة جلجامش مجزأة في مكتبة ملك أشور “أشور بانيبال” (669 – 629 ق. م) منقوشة على اثني عشر لوحاً، تحتوي على 3600 بيت شعري، وفي سنة 1872 م توصّل موظف بالمتحف البريطاني بلندن “جورج سميث” إلى حلّ رموز أحد الألواح، ومنا هنا تبدأ قصّة الخلق من جديد، وإعادة قراءة التاريخ.

 

المدنيّة الجلجامشيّة

لماذا تبدأ ملحمة جلجامش بالحديث عن جلجامش الفاني الباحث عن الخلود؟ ولماذا أمّه خالدة وأبوه فان؟ فثلثاه إله والثلث الباقي بشر، فالمرأة تعبير عن الطبيعة الأمّ التي تبقى خالدة، والتي ما زالت تعبّر عن عدم التحوّل بعد من فكرة الآلهة – الطبيعة إلى فكرة الأب أو النظام الأبوي، فالأب الذي يمتلك ثلث القيادة، هو السلطة الذكوريّة التي تريد أن تتمرّد على الطبيعة التي ما زالت متحكّمة بثلثي الأمور.

من هنا تبدأ فكرة اغتصاب الذكر للإدارة وتحويلها إلى سلطة، فالملاحم الشرقية تركّز على هذه النقطة؛ مسألة ألوهية الأمّ، وفناء الأب، حتّى تأثرت بها الملاحم اليونانيّة، فـأكيليس أيضاً كان من أب فانٍ، وأمّ آلهة.

جلجامش هو الملك الذي يؤسّس أولى أركان الدولة، عبر مدينة أورك التي تعدّ أولى معاقل المدينة، فبعد اكتمال المدينة يبدأ بالبحث عن خلود الدولة ببناء السور، فالسور ليس أداة دفاعيّة بقدر ما هو أداة هجوميّة.

أدرك جلجامش أنّه لن يكون خالداً، فهو بشر فانٍ، لذلك جنّد الشعب لبناء السور، فهذا المجتمع الذي كان يعيش حياة رعوية زراعية بسيطة، وكان في سعادة بعيداً عن هذا العمل المضني الذي لا طائل منه سوى الموت والهلاك وتمجيد الدولة التي لم يعتادوها بعد، وباتوا وهم يعملون ليل نهار في بناء هذا السور العظيم، يحنّون إلى الحياة في الطبيعة، حيث لم يكونوا يمتلكون سوى الجمال والجنة في ربوع الجبال والمناطق الرائعة في كردستان (شمال العراق) أو مناطق موزوبوتاميا، فابتهَلوا ونادَوا الطبيعة الأمّ كي تخلّصهم من هذا العذاب.

فجلجامش مرّة يحبّونه، ومرّة أخرى يكرهونه، يكرهونه لأنّه يغتصب نساءهم، أي يعتدي على الروح الموجودة في طبيعتهم، وفي الحياة الطبيعية التي لم ينسَوها بعد.

بالمقابل كان هناك إنكيدو الذي لم يتدنّس بعدُ برجس المدينة، فقد قامت الآلهة الأنثى أرورو بخلق إنكيدو (أو أنكي)، فقد كانت أمّه آلهة أيضاً، فالأمّ الآلهة هي الطبيعة الأمّ، وإنكيدو هو الإنسان الطبيعيّ الذي يعيش في المجتمع الطبيعيّ، حيث غابات موزوبوتاميا ملجؤه، وقد أدرك جلجامش أنّه لن يستطيع غزو الغابة ما لم تتّحدْ قِواه مع قِوى إنكيدو، فهو الذي يعرف مداخل الغابات ومخارجها، هو إنكيدو الذي يمثّل الإنسان الطبيعيّ الذي يريد أن يستدرجه الملك المدنيّ لكي يستطيع من خلاله السيطرة على عقول الناس، فقد كان إنكيدو يمثّل القداسة الفكرية للمجتمع، أو الإرادة الفكريّة والذهنية للمجتمع، فهو هوية المجتمع، وذاكرته، فكما يبحث كلّ سلطويّ عن سلطة دينيّة يستطيع من خلالها إسكات الناس والسيطرة على عقولهم، فعلها جلجامش سابقاً، فقد جذب إنكيدو الذي يعدّ همجيّاً بالنسبة لهذا المدنيّ، فجلجامش قادر على أن يروّض هذا الوحش البرّي، فأرسل شامات وهي الخادمة في معبد الآلهة عشتار، فأغوته، ومارست الجنس معه، وبذلك ابتعدت الحيوانات عنه، فقد حذّرته الأرض من أن يُقدم على هذا العمل الجنونيّ، فقد كانت الأرض تمسك بقدميه لئلّا ينصاع لإغواء المدينة، ولئلّا يترك الطبيعة التي هي منبع السعادة، فكانت شامات هي التفاحة التي حذّرته الطبيعة – الجنّة ألّا يدنو منها، لكنّه الإغواء الذي لا يستطيع الذكَر أن يهرب منه، ربّما تحوّل فيما بعد إنكيدو إلى حواء في الديانات السماوية التي اعتبرت المرأة سبباً لخروج الذكر من الجنّة، وحرّفت الذكر الذي كان السبب في دمار الطبيعة، وبدّلت الأدوار.

بذلك خرج إنكيدو من الطبيعة ولجأ إلى المدينة، وأصبح مروَّضاً حيث علّمته شامات القواعد والقوانين، وتخلّى عن الأخلاق وعن أصدقائه الحيوانات وبدأ يتمرّد على الطبيعة رويداً رويداً إلى أن خانها خيانة عظمى.

 

إنكيدو والهروب من الطبيعة

بدأت شامات تعلِّم إنكيدو الحياة المدنية في كيفية الأكل واللبس، وشرب النبيذ، ثم تبدأ بإخباره عن قوة المدنيّة الجلجامشيّة، وكيف أنه يدخل بالعروسات قبل أن يدخل بهنّ أزواجهنّ، وعندما يسمع إنكيدو هذا، ويقرّر أن يتحدّى جلجامش في مصارعة كي يجبره على ترك تلك العادة، يتصارع الاثنان بشراسة حيث أنّ قوّتيهما متقاربتان، لكنّ إنكيدو الذي بات مدنيّاً ونسي أصله، وخان الطبيعة، فأصبح هشّاً بعد أن كان قويّاً جبّاراً، فأضحت الغلبة للمدنيّة الجلجامشيّة، ليعترف إنكيدو في النهاية بقوة جلجامش، وبعدها يصبحان صديقَين حميمين، فكيف لا، فإنكيدو بالنسبة لجلجامش الميل إلى الروح الطبيعيّة، والملجأ للخلاص من أسرها في نفس الوقت، وجلجامش بالنسبة لإنكيدو هو الشهوة الصمّاء التي باتت تنسيه ضمير الروح التي صارت تموت فيه رويداً رويداً.

فبعد أن ترك أصدقاءه في الغابة لجأ إلى صداقة القوّة، وترك الروح الطبيعيّة، وصار عبداً للقوّة بستار الصداقة، وهذه حال مَن ينصاع لقوّة الدولة ويترك السعادة في الجنة التي ودّعها.

لقد تحقّقت غاية جلجامش في جذب معاونٍ له، ودليل يرشده إلى غابات الأرز الواقعة في شرق كردستان (إيران) ليقطع تلك الأشجار العظيمة، ويستخدمها في حروبه، وبناء دولته، فما كان إلّا أن يقنع إنكيدو للقضاء على حارس الغابة؛ همبابا، فإنكيدو يعرف كلّ مداخل ومخارج الطبيعة، ولولا إنكيدو لما استطاع أن يقضي على همبابا، ويسيطر على الطبيعة، فمن خلال إنكيدو استطاع أن يلج إلى قلوب الشعب الذي يعتقد يؤمن بإله الشمس، والتي ارتضت أن يقتحم جلجامش الغابة ومعه الشعب من خلال إنكيدو الهارب من الطبيعة، والشمس كانت منذ القدم رمزاً للقداسة المورزوبوتامية، وظّلت صورة الشمس هوية الملاحم والنقوش، فلا نقش قديم إلّا وصورة الشمس بارزة هناك، فقد تكون الزردشتية.

كما أسلفنا يمثّل إنكيدو الذاكرة المجتمعيّة، وهو القادر أن يقول للشعب لنذهب إلى هذه الحرب المقدّسة، كما فعلها بعده أصحاب العمامات مروّجو السلطان.

غضبت ألهة الماء إنليل التي كلّفت مسؤولية حراسة الغابة بهمبابا، وهنا تبدأ أولى انتقامات الطبيعة من البشر الذين حاولوا تغيير الطبيعة من خلال قطع هذا الغطاء النباتي الذي كان سبباً في هطول الأمطار، فآلهة الماء تعبير عن المطر الذي قلّ بعد أن قطع الإنسان كلّ هذه الأشجار والغابات الكثيفة التي كانت مصدر الخير والعطاء.

لقد طغى وتجبّر الملك الذي سيطر على الغابة، فحاولت عشتار التي ترمز إلى الآلهة الأمّ أن تروّض هذا الوحش السلطويّ، وتطلب الزواج منه، كي يعود إلى رشده، لكنّ جلجامش فطنٌ لا يريد أن يعود إلى حياة فيها سيطرة للأمّ، فقد تلذّذ بشهوات السلطةـ كما تحكمت الشهوة العمياء بإنكيدو وأنسته أصله، فتغضب عشتار وترسل ثوراً مقدّس من السماء، الذي يعبّر عن قوّة الطبيعة، لكنّ إنكيدو وجلجامش يستطيعان التغلّب على هذا الثور، وكلمة (كل GIL بالكردية تعني طين أو حجر، وكلمة جاميش GAMIŞ تعني جاموس أو ثور) فقد يكون اسم جلجامش مستمد من الثور الحجري أو الطيني.

بعد مقتل الثور المقدس تجتمع الآلهة للنظر في كيفية معاقبة جلجامش وإنكيدو لقتلهما مخلوقاً مقدّساً، فتقرّر الآلهة أن تقتل إنكيدو، فهو بقايا روح الطبيعة في قلب جلجامش، وسيصبح مادّياً صرفاً، ديكتاتورياً لا يعرف الروح، ولا بقايا العودة إلى الطبيعة، والرفق بها، فإنكيدو وإن كان خائناً للطبيعة لكنّه يحنّ إليها بين الفينة والأخرى، ويحاول أن يهدي جلجامش دائماً بطريقة غير شعورية فإنكيدو يمثّل بقايا الإيمان في قلب جلجامش، لكنّ الانتصارات قد أعمته، فقضت على تلك الروح، فيبدأ المرض يتسرّب رويداً رويداً في جسد إنكيدو، فقد أرسلت إليه الآلهة مرضاً مدمّراً يقضي عليه، وهكذا ماتت روح جلجامش الأخيرة بفقدانه إنكيدو.

 

موت إنكيدو والمدنيّة الباحثة عن الخلود

يبدأ الحزن والأسى يتسرّبان إلى قلب جلجامش، فقد ماتت روحه مع رحيل إنكيدو، وبدأ الخوف يتسرّب إليه بعد موته، وبدأ هاجس الخوف من الموت، فقد مات نصفه الروحي، ويريد أن ينقذ نصفه المادّي، فيبدأ برحلة البحث عن الخلود، فهو بشر والبشر فانون، ولا خلود إلّا للآلهة، فكيف سيقوم بتخليد نفسه، والبقاء للعالم المادي والسلطة المادّية التي تخلّت عن روح الطبيعة؟ هو السؤال الذي ظلّ هاجساً يجول في خلده، لقد كانت المدنيّة تبحث عن السيطرة دائماٌ على الأزليّة، والسيطرة على العقول التي تحنّ إلى المجتمع الطبيعي، والمجتمع الزراعيّ الذي أضحى أسيراً داخل أسوار المدينة الجلجامشيّة.

لقد بدأ جلجامش رحلته في البحث عن الخلود والحياة الأبدية، والطريق الوحيدة ليصلّ إلى سرّ الخلود عليه يجد أوتنابشتم (النبي نوح في الديانات التوحيدية – اليهودية والمسيحية والإسلام) فهو الفاني الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود، فقد نجا من الطوفان هو وزوجته فحسب، وقررت الآلهة منحهما الخلود، فتقوم سيدوري؛ آلهة النبيذ بإرساله إلى أورشنبي، ليساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى أوتنابشتم – نوح، فتشفق زوجة أوتنابشتم على جلجامش فتدلّه على عشب سحري تحت أعماق البحار، وهذا العشب قادر على إعادة الشباب إلى جلجامش لِيغدوَ خالداً، فيغوص جلجامش في البحر، ويستطيع اقتلاع عشب الخلود، فيقرّر أن يأخذ العشب إلى أورك ليجربه هناك على عجوز قبل أن يقوم بتناوله، لكنّه في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت أفعى ذاك العشبَ السحريّ، وتناولته، فعاد جلجامش إلى أورك دون عشب الخلود، وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك، فيفكر في قرارة نفسه أنّ عملاً ضخماً كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه، فيموت جلجامش فيما بعد.

 

التقرير المدينيّ

تعدّ الملحمة بياناً في وصف المدنيّة وهيبتها، تلك المدنيّة المتجسّدة في جلجامش، فهو طويل القامة، ضخم الجسم، مفتول العضلات، جريء، مقدام، جميل يفتن الناس بجماله.. لا يماثله أحد في صورة جسمه.. يرى جميع الأشياء، ولو كانت في أطراف العالم.. كان كل شيء وعرف كل شيء، واطلع على جميع الأسرار.. واخترق ستار الحكمة الذي يحجب كلّ شيء، ورأى ما كان خافيًا، وكشف الغطاء عمّا كان مغطّى.. وجاء بأخبار الأيام التي كانت قبل الطوفان.. وسار في طريق بعيد طويل..كابد فيه المشاق والآلام.. ثم كتب على لوح حجري كل ما قام به من الأعمال.

فالقوّة عنوان المدنيّة الأولى في التاريخ، أوروك هي المدينة التي احتاجت لأسوار، لتسجن العبيد الذي يقوّون أركان هذه المدنيّة، ولتهرب من شبح المجتمع الطبيعي النيوليتي، إذْ ينبع مفهوم هيمنة الإنسان على الطبيعة من هيمنة الإنسان الفعليّة على الإنسان[1]. وهنا تجسيد واضح لمقولة موراي بوكتشين في هيمنة الإنسان على الإنسان.

جلجامش هو الملك الذي حوّل أوروك إلى مدينة، حوالي القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، أي قبل خمسة آلاف عام تقريباً، وكانت المدينة في حرب ضد القرية والغابة والمجتمع الطبيعيّ، فإنكيدو يمثّل الطبيعة البكر التي خدشت، والتي استبيحت على يد المدينة وما زالت هذه القواعد تسري حتى الآن، فالمدني يرى أن ابن الريف متوحّش بربريّ، لا يعرف شيئاً عن الحضارة، والحضارة تكمن في المدينة فحسب.

صورة ماركس عن الهمجيّ الذي يتصارع مع الطبيعة ليست تعبيراً عن غطرسة حركة التنوير الفلسفية بقدر ما هي تعبير عن الغطرسة الفيكتورية، وحسب تصريح تيودور أدورنو وما كس هوركهايمر لا مصلحة للمرأة في هذا الصراع، لأنّه صراع بين الرجل والطبيعة بكلّ دقّة[2]، فصراع جلجامش هو صراع مع الطبيعة، إذ يبني الأسوار، ويحارب غابات الأرز، ويبحث عن الخلود للسيطرة على الطبيعة.

 

صورة إنكيدو في الملحمة

لقد قامت الربة “أرورو” بخلق “إنكيدو” المخلوق العجيب المخيف نظيراً لجلجامش، فجاء في الملحمة ” أورورو أنتِ خلقتِ جلجامش.. فاخلقي الآن شبيهًا له.. لينافس قلبه الثائر.. وليتباريا فترتاح أوروك.. (أورورو) وهي تستمع إلى هذه الأقوال.. خلقته في قلبها مثل (آنو).. غسلت (أورورو) يديها.. فأخذت طينة ورمتها على الأرض.. فخلقت البطل.. المولود في منتصف الليل، جندي (ننورتا).. يكسو الشعر جسمه كلّه.

 

  • غسلت (أرورو) يديه، وأخذت قبضة طين ورمتها في البريّة
  • خلقت في البريّة “أنكيدو” تاصنديد، نسل ننورتا القوي
  • يكسو جسمه الشعر، وشعر رأسه كشعر المرأة
  • جدائل شعر رأسه كشعر نصابا
  • لا يعرف الناس ولا البلاد، ولباس جسمه مثل “سموقان”
  • ومع الظباء يأكل العشب، ويسقى مع الحيوان من موارد الماء
  • ويطيب لبّه عند ضجيج الحيوان في مورد الماء[3]

بالطبع فكرة خلق الإنسان من طين هي أيضاً سبق لملحمة جلجامش، فأنكيدو هو آدم الذي خرج من جنّة غابة الأرز، وهو المعبّر عن كيفية الدنوّ من الشهوة، والابتعاد عن السعادة، فكلّما اقترب من المدينة ثقلت قدماه، وخارت قواه، فالغابة تناديه ألّا ينخرط في صفوف المدينة ومعمعتها، لئلّا يكون عبداً لهذه الشهوة، ولئلّا تقوده المدينة إلى الهاوية، إلى أنّشلّ جسمه، وخذلته ركبتاه، وبات خائر القوى لا يستطيع العدو كما كان يفعل من قبل، لكنّه صار فطناً واسع الحيلة كم تصوّره الأسطورة.

حيث تصوّر الأسطورة إنكيدو على أنّه وحش غير مروّض، همجيّ لا يلتزم بقوانين الدولة، يعيش في البراري، حيث أنّه يجوب السهوب، ويأكل العشب، ويساعد الحيوانات التي ينصب لها الصيّادون الشراك، فهو صديق الطبيعة، مندمج معها، يرعى الكلأ مع الحيوانات، ويسقى معها عند مورد الماء، وعندما يغادر الطبيعة يصير إنساناً حسب تعبير الأسطورة، فهو ليس إنسان إن لم يكن مدنيّاًـ فانقلب على الطبيعة وصار يهاجم الأسود والذئاب، ويقتل الحيوانات التي ربّته، وبذلك خان جنسه، وصار أوّل خائن عرفته الطبيعة، وهكذا أصبح إنساناً.

يدرك إنكيدو أنّه خان الطبيعة وهو على فراش الموت، بعد فوات الأوان، حيث بات يلعن حياة الحضارة، وصار يستذكر طبيعته سعيداً خالي البال، يرعى الظباء والحيوان، وصار يلعن من زيّن له المجيء إلى حياة المدنيّة، فصار يلعن الباب الذي صنعه، والصيّاد الذي أتى إليه بالبغي، والبغي التي زيّنت له المجيء إلى أوروك[4]

 

 

صورة عشتار في الملحمة

المرأة في الملحمة له فن ووظيفة الإغواء، وإبراز المفاتن، إنّها المرأة المدينيّة التي تروّض الوحش المندمج بالطبيعة، وهي صورة منحطة للمرأة التي ثارت عليها المدينة، هي الفتاة التي تبعث على الهيام، فهي التي تجعل إنكيدو شخصاً تنبذه البريّة، وتنكره الحيوانات، وتفرّ منه، فهو الذي تدنّس، بالمرأة المدنّسة،  وهي الزوجة التي تسلّم لجلجامش قبل أن تذهب إلى بيت عريسها، الإلهة عشتار تمثّل المرأة القائدة، وهي سلالة المجتمع الأموميّ، هي التي تروّض السلطة الجلجامشيّة والتهوّر الجلجامشيّ، تحاول دائماً أن تدنو منه لتبعده عن الديكتاتورية والتسلّط، فتعرض على جلجامش أن يتزوجها، لكنّه يرفض قائلاً:

  • أنتِ قصر يتحطّم في داخله الأبطال[5]

فهو يرفض الانصياع للآلهة عشتار التي تمثّل النظام الأموميّ الطبيعيّ، وربّة المنزل في المجتمع الإداري البعيد عن السلطة قبل أن يسرق الذكر الإدارة ويحوّلها إلى سلطة وتسلّط.

عشتار تمثّل الذكاء العاطفي الذي حاول ترويض الذكاء التحليلي من صولة الابتعاد عن الروح، هي الروح التي تحاول أن تهدّة من سورة الذكر وعنفوانه، وتجبّره، لذلك كان جلجامش يبتعد عنها، ولم يقبل بها، فهو البطل الذي سيتحطّم عند قصرها، فهو يدرك أنّ جناحه سيقصّ، ولن يعود طائراً يحلّق في سماء الخلود، والجبروت.

بالطبع هناك بعض التناقضات في وصف الشخصيات، من ضمنها عشتار، فعشتار في ملحمة جلجامش هي متسلّطة ومزاجيّة، لكنّها تمثّل القوّة التي ما زالت متحكّمة ببعض زمام الأمور، أي أن المجتمع الزراعي لم يتداعَ بعد، لكنّ الدولة تعلو وتكبر، وأسوارها تعلو يوماً بعد يوم، وهناك بعض التمرّدات على المجتمع الأمومي، كوصف البغي، والفتاة الطائشة، المتهوّرة المزاجيّة، المتمّثلة في عشتار، ويكمن رضوخ الأنثى في أمّ جلجامش؛ الإلهة ننسون.

 

صورة خمبابا

يوصف خمبابا بالشرّير، مع أنّ مهمّته تكمن في حراسة الغابة، وهو لا يعتدي إلّا على من يقطع أشجار الأرز، وهو الذي يحافظ على صفو الغابة ويكره أن يكدّرها أحد، وعندما تصارع مع أنكيدو وجلجامش، شلّت حركته واستسلم خمبابا لهما، وأخذ يتضرّع أن يبقيا على حياته، ويأسراه فيكون خادماً لجلجامش  ويجعل الغابة المسحورة وأشجارها ملك يديه، فرقّ قلب جلجامش، وكاد أن يبقي عليه، لكنّ صديقه إنكيدو حرّضه على قتله، فقتلاه.

هنا تكمن صورة الخيانة الإنكيديّة مرّة أخرى، فهو الذي هرب من الطبيعة ليعود إليها قاتلاً، مدمّراً أعرافها ونواميسها، قد تكون المدنيّة الجلجامشيّة تحاول دائماً القضاء على الطبيعة في صراعها على السلطة، ولئلّا يبقى خمبابا قريباً منه يذكّره دائماً بخيانته، فالخائن الذي خان مرّة، يستطيع أن يعود إلى الخيانة مرّة أخرى.

يمثّل إنكيدو خنوع الهارب من أصله، وهي عادة متأصّلة في الهاربين والخائنين المنبهرين بسحر المدنيّة وإغوائها، فيتذلّلون للمدنيّة، ويعتبرونها الإله الجديد الذي سينسيهم أصلهم، فينقلبون جذريّاً على هويّتهم، بل يعادونها.

 

كلمة ختاميّة

نختتم بكلام للكاتب والباحث فراس السوّاح: “الأسطورة حكاية مقدسة، يؤمن أهل الثقافة التي أنتجتها بصحة وصدق أحداثها. فهي، والحالة هذه، سجلٌّ لما حدث في الماضي وأدَّى إلى الأوضاع الحالية والشروط الراهنة. وهذا ما يعقد صلة قوية بين الميثولوجيا والتاريخ، باعتبارهما ناتجان ثقافيان ينشآن عن النوازع والتوجُّهات ذاتها، رغم ما بينهما من اختلافات تجعلهما يبدوان وكأنهما نظامان مستقلان لا يربط بينهما رابط. فالأسطورة والتاريخ ينشآن عن التوق إلى معرفة أصل الحاضر، ولكنهما يفترقان في القيمة التي نسبغها على ذلك الأصل. فهو أصل قدسي عند الأسطورة، وأصل دنيوي مفرغ من الأسْطَرَة عند التاريخ. بتعبير آخر فإن الأسطورة تنظر إلى التاريخ باعتباره تجلياً للمشيئة الإلهية. أما التاريخ فينظر إلى موضوعه باعتباره تجلياً للإرادة الإنسانية في جدليَّتها مع قوانين فاعلة في حياة الإنسان الاجتماعية. وهذا يعني أننا أمام نوعين من التاريخ: تاريخ مقدس وتاريخ دنيوي”[6].

 

 

 

[1] أيكولوجيا الحرّيّة – ظهور الهرميّة وفناؤها / موراي بوكتشين / الترجمة عن الإنكليزية: متيّم الصايغ / منشورات نقش – الطبعة الأولى / قامشلي 2020  / ص 17

[2] المصدر السابق / ص 34

[3] ملحمة كلكامش أوديسة العراق الخالدة/ طه باقر / دار علاء الدين / ص 41

[4] المصدر السابق / ص 67

[5] المصدر السابق / ص 63

[6] الأسطورة والتاريخ / فراس السوّاح

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى