أحمد العلواني
عوارضُ اضطرابٍ في نظامنا القيميّ:
لقد انتقدتُ أكثرَ من مرّةٍ، بصورةٍ عابرة، فكرةَ (صدام الحضارات)؛ وربما كان عليّ أن أتوقّفَ لحظةً عند هذه الفكرة لإجراء تقييمٍ لها أكثر توازناً وصوابية.
المشكلةُ في هذه النظرية المُتداوَلة بشكلٍ واسعٍ في وسائل الإعلام ليس( تشخيصها السريري)، فشبكةُ قراءتها تسمحُ فعلاً بتحسين فهم الأحداث التي أعقبتْ سقوطَ جدار برلين.
وبعدَ أن تقدّمتِ الهوياتُ على الإيديولوجيات، صارتِ المجتمعاتُ البشريةُ تتحرّكُ إزاءَ الأحداث السياسية، أحياناً كثيرةً، تبعاً لانتماءاتها الدينية؛ فروسيا عادت أرثوذكسية جهاراً، والاتحاد الأوروبي يعتبر نفسَه ضمنيّاً تجمُّعاً لأممٍ مسيحية، والدعواتُ إلى الكفاح تدوي في جميع البلدان الإسلامية. وعليه، لا يكونُ من غير الحصيف وصفُ عالمِ اليوم بأنه: ( ساحاتٌ حضاريّة ) تتجابهُ.
على أنّ أنصارَ هذه النظرية يضلّون الطريق- في رأيي- حين ينطلقون من رصدهم للحاضر ليبنوا نظريةً عامة للتاريخ، كأن يشرحوا لنا مثلاً أنّ الأعلوية الحالية للانتماءات الدينية هي الحالةُ الطبيعيّة للجنس البشريّ، والتي عادَ إليها أخيراً بعد تعريجةٍ طويلة على الطوباويات المسكونية؛ أو أنّ المجابَهةَ بين( الساحات الحضاريّة) هي المفتاحُ الذي يسمحُ لنا بفكّ رموز الماضي واستباق المستقبل.
كلُّ نظريةٍ للتاريخ هي بنتُ زمانها، فهي كثيرةُ الفائدة لأجل فهم الحاضر؛ لكنها إذا طُبّقتْ على الماضي بدتْ تقريبية ومُتحيّزة؛ وإذا أُسقطت على المستقبل باتت مُجازَفةً، وأحياناً مُدمّرة.
إنّ اعتبارَ النزاعات الراهنة مُجابهة بين ستّ أو سبع( ساحات حضارية) كبيرة- الغربية، الأرثوذكسية، الصينية، الإسلامية، الهندية الإفريقية، الأمريكية اللاتينية- هو بمثابة إضاءة مُنشّطة للفكر، على نحو ما تشهدُ النقاشات الكثيرة جداً التي يثيرها.
لكنّ هذا المفتاحَ لا يساعدنا كثيراً على فهم النزاعات الكبيرة في التاريخ البشري، ولا حتى فهم الحرب العالمية الأولى والثانية، اللتين كانتا بالدرجة الأولى شجارين بين الغربيين؛ وحدّدتا مع ذلك شكلَ الفضاء الذي نحيا فيه، ولا يساعدنا كذلك على تفسير الظاهرات الرهيبة التي أثقلتِ الضميرَ المعاصر، كالشمولية اليسارية واليمينية، أو المحرقة، ناهيكَ عن المجابهة الكروية الكبرى بين الرأسمالية والشيوعية، التي قسّمت بشكلٍ عميقٍ المجتمعاتِ المنتميةَ إلى جميع ( الساحات الحضارية).
وبصورةٍ أعمّ، إذا جلنا بأبصارنا على مراحلَ متنوعة من الماضي القريب أو البعيد، لوجدنا في كلّ العصور أحداثاً- كالحروب الصليبية- تبدو بالفعل متّصلةً بمجابهةٍ بين الحضارات؛ لكننا نجدُ أيضاً أحداثاً كثيرة أخرى لا تقلّ معزىً ولا فتكاً عن تلك، تدورُ داخلَ الساحة الثقافية الغربية، أو الساحة الإسلامية، أو الساحة الإفريقية أو الصينية.
وحتى في عصرنا، الذي يبدو ذلك خاضعاً للرسم التخطيطي المدرسي المتعلّق بمجابهة بين الحضارات، فإنّ حدثاً كحرب العراق يبدو صراحةً حدثاً متعدّد الوجوه: وجه نزاعٍ دموي بين الغرب والإسلام، وجه نزاعٍ أشدّ دموية داخلَ العالم الإسلامي بالذات، بين الشيعة والسنّة والكُرد؛ ووجه منازلة بين الدول حول مسألة الهيمنة العالمية، إلخ.
وبما أنّ التاريخَ مصنوعٌ من عددٍ لا يحصى من الأحداث المفردة، فإنه لا يتقبّلُ التعميماتِ. وإذا شئنا الاهتداءَ إلى حقيقة الأمور فيه، فإننا نحتاجُ إلى حمّالة مفاتيح؛ وإذا كان مشروعاً أن يضيفَ إليها باحثٌ ما مفتاحاً من صُنعه هو، فليسَ من باب الحصافة إبدال الحمّالة كلّها بمفتاح واحدٍ، مفتاحٍ يُفترَضُ به أن يفتحَ كلَّ الأبواب.
لقد استعملَ القرن العشرون كثيراً الأداةَ التي اقترحها ماركس، وبتنا الآنَ نعرفُ الضلالاتِ التي ترتبت على ذلك. فالصراعُ الطبقيّ لا يُفسّر كلَّ شيء، ولا صراعُ الحضارات، لا سيما وأنّ الكلماتِ بالذات مُلتبَسة وخدّاعة.
إذا كان يوجد عند كلّ شخص شعورٌ ما بانتماء اجتماعي يولد بعض التضامنات( الطبقية) كما بعض الكراهيات(الطبقية)، فإنّ حدودَ هذه الفكرة غيرُ واضحة.
كان من المشروع في عصر الثورة الصناعية أن يؤمنَ المرءُ بأنّ البروليتاريا الوليدةَ ستعي هويتها و تعمل كماهية متميّزة، بوصفها(طبقة)، وتلعب دوراً حاسماً في التاريخ إلى الأبد.
يمكن أن نطلقَ كلاماً مماثلاً عن(المفتاح) الجديد.
إذا كان يوجد عند كل إنسان شعورٌ بانتماء إثني أو ديني يولد بعض( التضامنات ) الحضارية، كما الكراهيات المصاحبة لها، فإنّ حدودَ هذه الفكرة لا تقلّ غموضاً عن الحدود(الطبقية).
إنّ (روحَ العصر) في أيامنا هذه، تحملنا على الاعتقاد بأنّ هذه(الحضارات) هي ماهيات محددة، متنامية الإدراك لنوعيتها، وستلعب دوراً حاسماً في تاريخ البشر.
في هذا شيءٌ من الحقيقة بالتأكيد. فمَن يمكنهُ أن ينكرَ أنّ الحضارةَ الغربيةَ لا تتطابقُ مع الحضارة الصينية، ولا مع الحضارة العربية- الإسلامية؟ لكن ليس بين هذه الحضارات حضارةٌ مغلقة بإحكام، ولا حضارة غير قابلة للتحوّل، والحدودُ فيما بينها اليومَ أكثرُ نضجاً منها في الماضي.
إنّ حضاراتنا- منذُ آلاف السنين- تولدُ وتنمو وتتحوّل وتتجاور وتتعارض، وينقلُ بعضُها عن بعض، وتتمايز وتستسلم للتقليد؛ ثمّ تندثر على مهلٍ أو بصورةٍ فظّة، أو يندغمُ بعضُها بالبعض الآخر.
إنّ حضارةَ روما التحقتْ في يومٍ من الأيام بحضارة الإغريق؛ واحتفظتْ كل منهما بشخصيتها، لكنهما دخلتا في توليفٍ مبتكر أمسى عنصراً كبيراً في الحضارة الأوروبية؛ ثم جاءتِ المسيحيةُ- التي ولدت داخلَ حضارة أخرى، يهودية بالدرجة الأولى، ومعها تأثيراتٌ مصريّة ومن بلاد ما بين النهرين، ومشرقية بصورةٍ أعمّ- فأمستْ بدورها مكوّناً أساسياً لحضارة الغرب. ثمّ وفدت من آسيا الشعوبُ المسمّاة البرابرة والفرنجة والألمان والقوط والفاندال، وكل الشعوب الجرمانية والصقالبة، وانصهرتْ مع اللاتين والسلت وكوّنتِ الأممَ الأوروبيةَ.
وتكوّنتِ الحضارةُ العربية الإسلاميةُ بالطريقة ذاتها. فعندما خرجتِ القبائلُ العربيةُ من شبه جزيرتها الصحراوية والخشنة، راحت تتعلّمُ من بلاد فارسَ والهند ومصرَ وروما والقسطنطينية، ثمّ جاءت من تخوم الصين القبائلُ التركية، التي ظلّ زعماؤها سلاطيننا وخلفاءنا زمناً طويلاً، قبل أن تطيحَ بها حركة قومية حداثية كانت تريدُ أن تربطَ شعبها ربطاً وطيداً بالحضارة الأوروبية.
أقول كل هذا لأذكّرَ بأمرٍ بديهي، وهو أنّ حضاراتنا هي منذ القدم حضاراتٌ مركّبة، متحرّكة ناضجة. ولكنني أندهشُ، فيما هي اليوم متمازجة أكثر منها في أي وقتٍ مضى، حين يأتي أحدهم ويدّعي أنها غيرُ قابلة للتحوّل فيما بينها، ومقدَّرٌ لها أن تبقى هكذا اليوم! فيما آلافُ الكوادر الصينيين يدرسون في كاليفورنيا، وآلافٌ من سكان كاليفورنيا يحلمون بالاستقرار في الصين! وفيما أنّ المرءَ الذي يطوفُ العالمَ، عليه أن يبذلَ جهداً ليتذكّرَ ما إذا كان قد استيقظَ في شيكاغو أو شانغاي أو دبي أو بيرغن أو كوالا لامبور!
نعم، اليومَ يأتي بعضهم ليقولَ لنا، مستشهداً ببضعة تصرّفاتٍ مضلّلة، إنّ الحضاراتِ ستبقى متمايزة، ومجابهاتها ستكونُ أبداً محرّكَ التاريخ.
إذا كانت حضاراتُنا تشعرُ بالحاجة إلى توكيد نوعيتها بصورة صاخبة، فذلك بالضبط لأنّ نوعيتها آخذةٌ في التلاشي.
وما نشهده اليوم هو غسق الحضارات المتمايزة وليس قيامها ولا ظفرها. فقد ولّى زمانها، وأزفتْ ساعةُ التسامي عليها جميعاً، ساعة ترويض تقديماتها، وإشاعة نِعَم كل منها في العالم قاطبةً، وتقليص قدرتها على الإيذاء، وذلك لكي نبني شيئاً فشيئاً حضارةً مشترَكة، مبنية على المبدأين اللذين لا يمكن المسّ بهما ولا الفصل بينهما، ألا وهما مبدأ مسكونية القيم الأساسية وتنوّع التعابير الثقافية.
منعاً لأيّ التباس، نوضّح: احترامُ ثقافةٍ ما هو-في نظري- تشجيع تعليم اللغة الحاملة لها، تشجيع التعرّف على آدابها، على تعابيرها المسرحية والسينمائية والموسيقية والتصويرية والمعمارية والحرفية والمطبخية…. إلخ.
وبالمقابل، فإنّ التغاضي عن الطغيان والظلم، وعدم التسامح أو نظام الطبقات المغلقة، عن الزواج الإكراهي، وختان الإناث، وجرائم الشرف أو استعباد النساء؛ عن القصور واللا مبالاة والمحسوبية والفساد المستشري، عن كره الغريب أو العنصرية، بذريعة أنها آتية من ثقافة مختلفة، فهذا- في نظري- ليس احتراماً بل احتقار مقنّع، وتصرّفٌ نابع من التمييز العنصري- حتى مع أفضل النيات.
إنه فقط إذا كنا نؤمن بهذه المغامرة المشتركة نستطيع أن نجعلَ لمساراتنا النوعية معنىً. وإنه فقط إذا كنا نؤمن بما للثقافات من كرامة متساوية يحقّ لنا أن نقيّمها، وحتى أن نحكمَ عليها، تبعاً للقيم المرتبطة بهذا المصير المشترك والتي هي فوق كل حضاراتنا، وكل تقاليدنا، وكل معتقداتنا. ذلك أنه ليس هناك ما هو أقدسُ من احترام الكائن البشري، وصون شخصه الجسدي والمعنوي؛ صون قدرته على التفكير والتعبير عن ذاته، وصون الكرة الأرضية التي تحمله.
وإذا شئنا لهذه المغامرة الخلاّبة أن تستمرّ، فيكون علينا أن نتجاوزَ مفهومنا القبليّ للحضارات كما الأديان، وأن نحرّرَ الأولى من السلاسل الإثنية، والثانية من السمّ الهووي الذي يشوّهها ويفسدها، ويحرّفها من غايتها الروحية والأخلاقية.
سيكون علينا في هذا القرن أن نختارَ بين رؤيتين للمستقبل:
الأولى رؤيةٌ بشرية موزّعة بين قبائلَ عالمية تتقاتل وتتبادل البغضاءَ، لكنها- بفعل العولمة- تتغذى أكثر فأكثر يوماً بحساءٍ ثقافي واحدٍ غير متمايز.
والثانية هي رؤيةٌ بشرية مُدركة لمصيرها المشترك، ومجتمعة بالتالي حول قيم أساسية واحدة، إلاّ أنها تثابر أكثر منها في أي وقتٍ مضى، على تنمية التعابير الثقافية الأكثر تنوّعاً والأكثر غزارةً، محافظةً على كل لغاتها وكل تقاليدها الفنية وتقنياتها وحساسيتها وذاكرتها ومعرفتها.
فمن جهةٍ، إذن، عدّةُ(حضارات) تتجابهُ، إلاّ أنها على الصعيد الثقافي تتحاكى وتتنمّط؛ ومن جهةٍ أخرى، حضارة إنسانية واحدة، إلاّ أنها تنتشر عبرَ تنوّعٍ لا نهايةَ له.
للسير في أولى هاتين الطريقين، يكفي لنا أن نثابرَ على الانجراف الكسول تبعاً للهزّات، حسبما نفعل الآنَ. أمّا اختيارُ الطريق الثانية فيتطلّبُ منا بالضرورة صحوةً، هل سنكونُ قادرين على ذلك؟
أسبابُ بلوغنا هذا الدرك وكيفية الخروج منه:
ما يجري أمامَ عيوننا في بداية هذا القرن ليسَ اضطراباً عادياً. ولعلّه بالنسبة إلى العالم الكروي، الذي ولدَ على أنقاض الحرب الباردة، الاضطرابَ المؤسّس؛ ذاك الذي سيهزّ ضمائرنا وعقولنا كي نخرجَ أخيراً من عهدٍ سابقٍ للتاريخ مفرطٍ في الطول؛ لكنه قد يتبدّى هداماً، مفكّكاً، ويكون مقدّمة لتقهقرٍ شاقّ.
هل سنعرفُ كيف نجعل كل هذه الشعوب، المختلفة من حيث الدين واللون واللغة والتأريخ والتقاليد، والتي اضطرها التطوّر أن تتجاورَ وتتدانى، قادرةً على العيش معاً في سلامٍ وانسجام؟
هذا السؤال يُطرَحُ في كلّ بلد وكلّ مدينة، كما على مستوى الكرة بكاملها. والجوابُ لا يزالُ حتى اليوم غير أكيد. وسواءٌ تعلّقَ الأمر بمناطقَ تتعايش فيها أقوامٌ مختلفة منذ قرون، أو بتلك التي تستقبل منذ عقودٍ مجموعاتٍ هامة من المغتربين. فمن الواضح أنّ الارتيابَ وعدم الفهم يتطوران على نحوٍ يهددُ بالخطر كلَّ سياسات الاندماج أو حتى المساكنة البسيطة.
فكم من انتخابات وكم من نقاشات تقع تحت ضغط هذا الملف الشائك، الذي يشجع التشنجات والانحرافات القائمة على كُره الأجانب، خصوصاً في أوروبا؛ حيث رأينا بعضاً من المجتمعات الأكثر تسامحاً تغضب وتغتاظ وتتصلّب، لكننا نشهدُ في الوقت ذاته تحولات مفاجئة في رؤية الغير تكشفُ عن توجّهات خفية في أفكار معاصرينا.
هذا النقاشُ الكروي حول التعايش لن يغادرنا بعد الآن، وهو سيرافقنا طوال هذا القرن وفي القرون القادمة، ويكون عنيفاً أو لطيفاً، صريحاً أو ضمنياً.
إنّ كوكبنا نسيجٌ مرصوصٌ من شعوب مختلفة، كلّ واحدٍ منها واعٍ لهويته، واعٍ للنظرة التي تلقى عليه، واع للحقوق التي يجب عليه أن يكتسبها أو يصونها، موقناً بأنه في حاجةٍ إلى الآخرين وبأنه أيضاً في حاجة إلى الاحتماء منهم.
لا يجب أن نتوقّعَ أن تتلاشى التوترات بينها بمجرّد مرور الزمن. ألم نشهد شعوباً تتدانى طوالَ قرون دون أن تتمكّن أبداً من الوصول إلى الاحترام المتبادل ولا إلى التعايش المتناغم؟ ذلك أن التغلّب على الأفكار المسبقة والكراهية ليس من شيم الطبيعة البشرية، وقبول الآخر ليس بأكثر أو أقلّ طبعيةً من نبذه. والمصالحة والجمع والتبني والتأليف وإشاعة السلام هي أعمال إرادية، أعمال حضارية تتطلبُ صفاءَ الذهن والمثابرة. وهي أعمالٌ تُكتسَبُ وتُتعلّم ويتربى عليها الإنسانُ.
تعليمُ البشر أن يعيشوا معاً هو معركةٌ طويلةٌ، ليس الانتصارُ فيها كاملاً أبداً، وهي تستلزم بالضرورة تفكّراً صافياً وتربية ماهرة وتشريعاً مناسباً ومؤسسات ملائمة.
يجبُ أن تُخاضَ هذه المعركة اليومَ على مستوى البشرية جمعاء، كما داخل كلّ شعب. لكن من الجليّ أنها لم تبلغ هذا المستوى بعدُ، وليس بقدرٍ كافٍ. فنحن نتحدث دوماً عن (قريةٍ كروية) وهذا واقع. فإنه بفضل التقدّم الحاصل في حقل الاتصالات، أمسى كوكبنا فضاءً واحداً اقتصادياً، وفضاءً واحداً سياسياً وإعلامياً. لكنّ الكراهيات المتبادلة لا تنفكّ تزداد جلاءً.
يظهرُ هذا خصوصاً في القطيعة بين الغرب والعالم العربي- الإسلامي، التي لم تكف عن التفاقم خلال السنوات الأخيرة، وذلك إلى حدّ باتت معه تبدو غير قابلة للإصلاح.
لقد شهدنا أمثلةً على ذلك في الاعتداءات الفتاكة التي جرت خلال السنوات الأخيرة. فاعتداءات11 أيلول 2001 تندرجُ كعنوان شنيع في تاريخ القرن الجديد. وجرتْ أحداثٌ مماثلة في جميع القارات، من نيروبي إلى مدريد، ومن بالي إلى لندن…..
صحيحٌ أن مثلَ هذه الاعتداءات، مهما كانت عنيفةً، لا تشكّلُ خطرَ إبادة- كما كانت حال الترسانة النووية السوفياتية والأمريكية أيام الحرب الباردة- غير أنها يمكن أن تكون فتاكةً للغاية، خصوصاً إذا استعانت غداَ بأسلحةٍ تسمّى( غير تقليدية)- كيميائية، بيولوجية، ذرية وغيرها- يضافُ إلى هذا أن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي قد تنجم عنها ستكونُ مدمّرةً.
سيتذكّرُ الناسُ يوماً ما هذه السنوات اللعينة، كتلك السنة التي أقدمتْ فيها الشرطةُ الأكثرُ حضارة في العالم- شرطة لندن- على بطح مسافرٍ شاب برازيلي على الأرض في مترو لندن، بريءٌ لكنه أسمر البشرة، وقتلته بسبع رصاصات في الرأس.
إنّ صراعَ الحضارات ليس نقاشاً حول مزايا إيراسم وابن سينا، والكحول والحجاب، أو النصوص المقدّسة؛ وإنما هو زوغانٌ كروي نحو كره الأجنبي والتمييز العنصري والتنكيل الاثني والمجازر المتبادلة، أي نحو تآكل كل ما يشكل الكرامة الخلقية لحضارتنا الإنسانية.
وفي مثل هذا الجوّ، فإن الذين هم على قناعة بأنهم يقاتلون البربرية أنفسهم، ينتهي بهم الأمر إلى السقوط فيها بدورهم. العنف الإرهابي يولّد العنفَ المضاد للإرهاب، الذي يغذي الكراهية، ويسهل عمل المعبئين المتزمتين، ويعدّ لاعتداءات جديدة.
هل يُنظرُ إلى هذه الجماعة بارتياب لأنها تضع متفجرات، أم أنها تضع متفجرات لأنه يُنظرُ إليها بارتياب؟ إنها حكاية البيضة والدجاجة، التي لا تنتهي. ومن العبث البحث عن جواب صالح، لأنه غير موجود؛ فكلّ طرفٍ يدلي بالأجوبة التي تمليها عليه مخاوفه وأفكاره المسبقة وأصوله وجراحه.
يجبُ كسر هذه الحلقة المفرغة، إلاّ أنه متى تحرّكت التروسُ يغدو من العسير على المرء أن يسحبَ يدهُ.
كيف يمكنُ في هذه الظروف عدمَ التخوّف من حصول تقهقر؟ فإذا ما تمادى العداءُ الحالي بين مختلف( القبائل) العالمية، وتواصلت كلّ أنواع الاختلالات، سيشهدُ العالمُ خلالَ هذا القرن تفتتاً للديموقراطية، وللحالة القانونية وجميع القواعد المجتمعية.
المصادر والمراجع:
- بيير روسي: مفاتيح الحرب- الدار العربية- بيروت.
- ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة- دار النهار- بيروت.
- أمين معلوف: اختلال العالم- دار الفارابي- بيروت.