القومية والوطنية في الفكر القومي العربي السوري
لكي نستطيع أن نفهم لماذا تفجّرت سوريا بعد الثورة, لا بد من العودة إلى التاريخ المصطنع لسوريا الحديثة ولمصطلحَي القومية والوطنية اللذين صاغتهما النخب الثقافية والسياسية السورية العربية. لقد قامت الدولة السورية أساساً على مفاهيم خاطئة، وبالتالي لم تكن للثورة تلك الخلفية المعرفية لكي تستطيع تصحيح الخطأ التاريخي. فتصحيح هذا الخطأ لا يتم بإجراء تعديل عليه، وإنما وضع أسس جديدة تجسّد الواقع الحيّ لهذا الشعب المركب قومياً ودينياً وطائفياً.
حين نستعرض كتابات المثقفين العرب حول الفكر القومي والوطني في “المشرق العربي” كما يسمونه، نجد أن مرجعيتهم الأساسية تعود إلى زكي الأرسوزي (1899-1968) وميشيل عفلق (1910-1989). هذان المفكران هما اللذان وضعا أسس الفكر القومي العربي لسوريا والعراق. ولم يتجاوز أي كاتب أو مفكر عربي آخر أفكارهما في القومية والوطنية حتى الآن. الغريب في الأمر أن الفكر القومي العربي تأسس في منطقة هي في الأساس منطقة تداخل شعوب عريقة، بينما ركز الكُتّاب العرب منذ بدايات فكرهم القومي على عروبة هذه المنطقة وعروبة الشعوب التي تسكن فيها. فحتى أواخر العهد العثماني لا توجد جغرافية محددة تحت اسم سوريا, ولو أعدنا النظر في التقسيمات الإدارية العثمانية؛ لوجدنا أنّ سوريا “سايكس- بيكو” غير موجودة إدارياً. يقول الكاتب وجيه كوثراني: “من زاوية التقسيم الإداري العثماني الذي اعتُمد من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لم تشكل (سوريا) “وحدة إدارية” ضمن ولاية عثمانية واحد، بل تقاسمتها الولايات الثلاث: ولاية دمشق، ولاية حلب، ولاية بيروت، إضافة إلى “متصرفيات” القدس وجبل لبنان ودير الزور. ولم يتطابق الإطار الجغرافي والسكاني الذي شملته تلك الولايات مع مناطق التي ستستقر عليها حدود “سوريا” التي خضعت للانتداب الفرنسي.(1)
لم تتطابق تحديدات المسؤولين السوريين الذين طالبوا باستقلال سوريا من الدولة العثمانية مع حدود سوريا كما هي في اتفاقية سايكس- بيكو. فقد كتب وجيه كوثراني أن المذكرة التي قدمها المؤتمر السوري إلى لجنة الاستفتاء الأمريكية في 2 تموز 1919 تشير إلى أن المؤتمر السوري رسم حدود “سوريا” كما يلي: ” شمالاً جبال طوروس، وجنوباً رفح- فالخط المارّ من جنوب الجوف إلى جنوب العقبة الشامية أو العقبة الحجازية، وشرقاً نهر الفرات، فالخابور والخط الممتد شرق (أبو كمال)، إلى شرق الجوف، وغرباً البحر المتوسط”. والملاحظ هنا أن شرق الفرات لم يدخل في حساباتهم.(2)
لا يقف الكاتب عند هذه التوثيق فقط، بل يذكر أنه ثمة استخدامات شتى تصادفنا لتعبير “سوريا” في الوثائق العائدة إلى تلك المرحلة التاريخية. “فهي تعني امتداداً جغرافياً قد يضيق أو يتسع تبعاً لوجهة النظر التي تحملها الوثيقة.(3)
هناك حقيقة أخرى لا بد من التطرق إليها، وهي أن العرب لم يطالبوا طيلة التاريخ العثماني بصوت خاص بهم, فقد كانوا يعتبرون السلطاني العثماني هو خليفة المسلمين, وبما أنهم عرب مسلمون فهم موجودون في دولتهم وإمبراطورتيهم. لا بد من الإشارة أيضاً أن العثمانيين بدورهم لم يفكروا قومياً مثلما فكروا إسلامياً, فلم يحاولوا تتريك الأعراق الأخرى التي دخلت في نطاق إمبراطورتيهم.(4) ولم يكن لهم معارك مع العرب. فحين سيطروا على سوريا ومصر انتزعوها من أيدي المماليك، ولم يقاومهم العرب، وإنما رحبوا بهم وأعلنوا ولاءهم للغازي العثماني.(5) كما لم يحاول الأتراك دمج العنصر العربي أو تتريكه إلا بعد استيلاء جمعية الاتحاد والترقي على مقاليد الحكم سنة 1908.(6) كما لم تصطبغ لفظة “عثماني” بصبغة عرقية ذات مدلول قومي إلا في القرن التاسع عشر، وذلك تحت تأثير الفكرة الليبرالية الأوروبية.(7)
كان الحكم العثماني يقوم أساساً على مبادئ الشرع الإسلامي بواسطة محاكم دينية يشرف عليها شيخ الإسلام الذي كانت له السلطة العليا في الأمور الدينية.(8) وكما نعلم من خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والممارسة العملية؛ أن الشريعة مقدسة ومعصومة لا تتغير, فالحكومة الإسلامية هي حكومة من الله, ومن واجب كل مسلم دينياً واجتماعياً, أن يخضع لهذا الحكم الذي يساوي بين المسلم وأخيه المسلم, وهكذا تتجسد الدولة الإسلامية في الله, والله هو القوة العظمى التي تعمل للخير العام, فالخزينة هي خزينة الله, والجيش هو جيش الله، حتى أن الموظفين في الدولة, هم عمال عند الله. (9)
لم يكن الفرد في الإمبراطورية العثمانية مواطناً، بل كان من رعايا السلطان, فهو يتبع السلطان كما يتبع القطيع لمالكه.
لقد شخّص القنصل الفرنسي العام في بيروت وضعية الفرد في سوريا ضمن إطار الإمبراطورية العثمانية بقوله: في هذا البلد حيث لفظة “الدين” تُعتبر مرادفاً للفظة “القومية” أو لكلمة “الوطن”. (10) وهكذا لم يكن العرق أو القومية هما اللذان يفرّقان بين جماعة وأخرى وإنما الدين.
كانت الإمبراطورية العثمانية في أوج عزّتها تمتدّ من أبواب فيينا إلى شواطئ بحر قزوين، ومن الخليج الفارسي إلى عدن، وعبر البحر الأحمر وشمال إفريقيا إلى مقربة من شاطئ الأطلسي.
لم يتمرّد العرب خلال الحكم العثماني على السلطان, ولم يكن يختلف اعتزاز العربي بالإمبراطورية العثمانية عن اعتزاز التركي بها, بل كانت المعاناة من ظلم السلطة واحدة على جميع الأعراق والقوميات تقريباً. وكان الكرد أيضاً من بين هذه الشعوب العثمانية، لكنهم على خلاف العرب تمرّدوا مراراً وتكراراً ضد السلطان العثماني رغم أنهم أيضاً كانوا مسلمين مثل العرب.*
لم يكن التمرد العربي ضد العثمانيين بداية القرن العشرين دافعاً ذاتياً بعكس ما كان الحال بالنسبة للكرد, وإنما كان نتيجة عامل خارجي، وحصراً نتيجة التدخل الأوروبي في شؤون الإمبراطورية العثمانية وسعيها لزعزعتها.
بدأ المثقفون العرب يطّلعون على الفكر الغربي ويكتشفون أساليب التربية الغربية المخالفة للأساليب العثمانية, وهنا بدأت الأفكار السياسية والاجتماعية الغربية الحديثة تتسرّب إلى أذهانهم من خلال العلاقات التجارية والسياحة والمدارس التبشيرية في سوريا ولبنان، ولاسيما أواخر العهد العثماني, فاكتشفت الفئة المثقفة من العرب أن في الغرب واقعاً جديداً ونمطاً من الحياة يختلفان جذرياً عن الحياة في ظل الدولة العثمانية. وكان المسيحيون السوريون واللبنانيون من أوائل المواطنين الذين توجهوا نحو الثقافة الغربية وحضارتها. وهم الذين لعبوا الدور الأهم في تهييج النقمة ضد السلطات العثمانية بالاعتماد على التوجه نحو الفكر القومي العربي,(11) ومع ذلك، فحتى أواخر القرن التاسع عشر لم تكن هناك “قضية عربية” في المحافل الدولية, وكانت لفظة “عربي” تُطلق على البدو وعلى سكان الأرياف في الشرق الأوسط,(12) وكان العرب آخر الأجناس شعوراً بالعصبية الجنسية، لأن سوادهم الأعظم مسلمون لا يكادون يشعرون بغير الانتماء الديني.(13)
عند الحديث عن سوريا اليوم يجب الانطلاق من تاريخها الحقيقيّ، وليس كما صاغه القوميون العرب في دفاترهم المدرسية, فسوريا ليست هي التي جسّدتها اتفاقية سايكس بيكو. وليست هي سوريا “الطبيعية” التي رسم خريطتها أنطون سعادة (1904 – 1949) مؤسس الحزب القومي الاجتماعي السوري. في دراسة قدّمها طالب في الدراسات العليا -عمران الرشق- في جامعة بيرزيت حول “الأقليات القومية بين الدولة والمجتمع المدني- سوريا نموذجاً” حيث كتب: “سوريا كدولة تأسست على قاعدة اتفاقية سايكس- بيكو؛ هذا الكيان السياسي ليس له تاريخ خاص وبالتالي فالكيان الحالي مصطنع إلى حد كبير”.(14)
لم يتم تعريف هوية الشعب السوري تعريفاً مطابقاً للواقع حتى الآن, فهناك من يعتبره آرامياً أو سريانياً من الناحية التاريخية, وهناك من يعتقد أنه عربي بالكامل. لكن الحقيقة مخالفة لهذا وذاك, فقد انحصرت في الخارطة السورية الحديثة شعوب عديدة, وبمعنى آخر؛ يُعتبر الشعب السوري مجموعةً من الشعوب والأقليات يوجد في تركيبته عرب وكرد وآشوريين وسريان وتركمان وأرمن وجاجان وآراميون وشركس وبقايا يهود.
كانت هذه البقعة التي نسميها سوريا اليوم مسرحاً لصراع الغزاة منذ فجر التاريخ, فيأتي غازٍ بجيشه ويحتلها ويقيم عليها دولته لفترة من الزمن، ثم يأتي غازٍ آخر ليطرد الغازي الأول ويجلس على صدر هذه المنطقة وشعوبها، وهكذا دواليك. لم يكن يحتل كل غازٍ هذه الخارطة التي نسميها سوريا فقط، بل كان يحتل غالباً الشرق الأوسط كله, وكان لتعدد الغزاة من حيث الجنسية والقومية والديانة التأثير المتعدد على كافة شعوب المنطقة, فنلاحظ أن أغلب الحضارات القديمة التي ازدهرت في هذه المنطقة تعود للحوريين (أحد جذور الكرد) والحثيين الذين انقرضوا والآشوريين والكلدان والمسلمين من أجناس وقوميات مختلفة والرومان والفرس, غير أنّ أهم الحضارات في هذه المنطقة هي الحضارة الرومانية, فسوريا مليئة بآثار هذه الحضارة, والآثار الموجودة في متاحفها خير دليل على ذلك.
كان آخر غازٍ غزا سوريا هو السلطان سليم الأول العثماني عام 1516 حيث انتزعها من أيدي المماليك الشراكسة وضمّها إلى الإمبراطورية العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى 1914- 1918. خلال هذه الحرب العالمية دخلت فصيلة من جيش الشريف حسين بقيادة الأمير فيصل ومعه فصيلة من الجيش الأسترالي بقيادة الميجر؛ آرثر أولون, وقد توّج الانكليز هذا الأمير ملكاً على سوريا في 8 آذار 1920.(15)
وهكذا نجد أن تاريخ هذه الجغرافيا هو تاريخ الغزاة أكثر مما هو تاريخ شعوبها، بما فيهم الغزاة العرب المسلمون الأوائل.
لا نجد في التاريخ أن الشعوب الأصلية التي كانت تسكن سوريا حكمت نفسها بنفسها يوماً, فربّما كانت زنوبيا استثناءً. جاء في كتاب “دليل الجمهورية السورية” الذي صدر بعد الاستقلال ما يلي: ” كانت سوريا منذ فجر التاريخ مطمع أنظار الغزاة والفاتحين, فلا يكاد الأمر يستتبّ فيها لفاتح حتى يغزوها فاتح آخر ينتزعها من يده ويبسط سلطانه عليها ويفرض فيها تقاليده وعاداته وينشر مدنيّته وأساليبه, وكان السكان المحلّيون يقتبسون من هذا وذاك ما يتفق مع مشاربهم وأهوائهم ممّا جعلهم سريعي التطور والانتقال من حال إلى حال”.(16)
تشير الوقائع إلى أنّ الإنكليز هم الذين طردوا العثمانيين من سوريا وليس العرب, وهم كانوا وراء تنصيب أميرٍ حجازيّ ملكاً على سوريا كتابع لهم كما ورد سابقاً.
عندما قَدِم الأمير فيصل إلى دمشق خرج وجهاء المدينة لاستقباله، ودخلوا معه إلى دمشق، وتوجهوا إلى دار الحكومة ليستقبل الأمير المهنئين.(17) أصدر فيصل بتاريخ 5 تشرين الأول عام 1918 بلاغاً يذكّرنا بتصريحات كل غازٍ احتل بلداً آخر، فيبدأ البلاغ بتقديم الشكر للسوريين على ما أبدَوه من العطف والمحبة وحسن قبولٍ لجيوشه المنصورة، والمسارعة للبيعة له باسم مولانا السلطان أمير المؤمنين الشريف حسين نصره الله.
لم تتغير الصورة بين الماضي والحاضر, فقد سبق أن استقبل وجهاء المدن السورية الغازي العثماني وهنّؤوه بالنصر على المماليك في مرج دابق، وقدموا له الطاعة وحق السيادة عليهم. ولقد قال الغازي العثماني حينها ما يشبه كلام الأمير فيصل, وقال ما يشبه كلام نابليون بونابرت عندما احتل مصر, كما قال أحفاده عندما دخلوا دمشق بقيادة الجنرال غورو.
هذه السيرورة التاريخية تعطينا فكرة عن هذا الشعب الذي نسميه اليوم الشعب السوري, فعندما تم طرد العثمانيين من سوريا شعر سكان المنطقة ولا سيما في المدن الكبرى أنّهم لا يملكون هوية خاصة بهم, فمن هو هذا الشعب؟ هل هو شعب إسلامي؟ إذاً كيف قَبِل أن يفصله الإنكليز المسيحيون عن دولة الخلافة الإسلامية؟ أهو شعب عربي؟ لكن هذا الشعور لم يكن موجوداً عند عامة العرب السوريين، ناهيك عن وجود قوميات أخرى في سوريا, هل هو شعب سوري له هويته الخاصة؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا قَبِل هذا الشعب أن يكون الملك عليهم شخصاً غير سوري جاء من الحجاز على شكل غازٍ بأمر من الإنكليز؟ لا تفسير لكل ذلك سوى أن سكان هذه الجغرافيا تعوّدوا على حكم الغزاة, وتبيّن لاحقاً أن الملك فيصل لم يكن لديه أي شعور وطني سوري, فبمجرد أن هدّد الفرنسيون بالدخول إلى دمشق هرب إلى العراق بحثاً عن مُلك جديد, فهو مجرد غازٍ يبحث عن مُلك ليحكم, بينما استشهد يوسف العظمة ابن دمشق، على ربوعها, وقال جملته المشهورة حينئذ: “سأدافع عن البلد حتى الشهادة لكي لا يُقال أن الفرنسيين دخلوا دمشق سلماً”.
عندما نعود إلى بلاغ الأمير فيصل السابق نجده يستخدم مصطلح “البلاد السورية”, فبعد عودته من مؤتمر الصلح إلى بيروت ثم إلى دمشق اجتمع إلى زعماء الأحزاب وأركان الدولة, وفي هذا الاجتماع تم الاتفاق على دعوة مندوبين يمثلون البلاد السورية للمؤتمر السوري في 17 حزيران 1919, والملفت للانتباه أن المندوبين جاؤوا من مختلف المدن السورية باستثناء الحسكة والقامشلي والرقة ودير الزور, بمعنى أن سكان شرقي الفرات لم يتم تمثيلهم في هذا المؤتمر. جاء في البند الثاني على أن تكون سوريا ملكية، مدنية، نيابية، تُدار مقاطعاتها على طريقة اللامركزية الواسعة وتُحفظ فيها حقوق الأقليات, على أن يكون ملك هذه البلاد الأمير فيصل.(18) في اجتماع للمؤتمر السوري الذي انعقد في 3 آذار ولغاية 7 آذار في عام 1920 اتخذ المؤتمرون قراراً باستقلال سوريا, ومما جاء في قرارات المؤتمر: ” فنحن أعضاء هذا المؤتمر رأينا بصفتنا الممثلين للأمة السورية في جميع أنحاء القطر السوري تمثيلاً صحيحاً,(19) نجد هنا أن المؤتمرين يتكلمون عن الأمة السورية”. كما جاء في البند الثالث من جواب الملك فيصل لقبوله إنذار غورو أن الانتداب الفرنسي سيخدم استقلال الشعوب السورية.(20) ونلاحظ أن الملك فيصل يستخدم هنا مصطلح الشعوب السورية.
وقع القوميون العرب في مغالطات كبيرة عندما اعتبروا أن الدافع القومي العربي كان وراء انقلاب الشريف حسين عام 1916 ضد العثمانيين, فلقد كان الشريف حسين رجل دين، يتكلم ويحكم باسم الإسلام وليس باسم العروبة، كما فعل صلاح الدين الأيوبي. في الحقيقة لم يسعَ الشريف حسين إلى التمرد على العثمانيين لولا التقاطع بين مصلحته أن يصبح ملكاً على الشرق الأوسط والأهداف الاستراتيجية للإنكليز. فعندما تمرّد آل سعود عليه وجردوه من الحكم كان الخلاف ليس دينياً ولا قومياً، بل كان حول من يستحوذ على السلطة.
لقد أدرك الإنكليز سيكولوجية العرب المسلمين, فعرفوا أن تمرّد العرب على السلطان العثماني غير ممكن إلا بالاعتماد على عاملين: الأول تمزيق الرابط الديني بينهم وبين العثمانيين بدفعهم نحو التوجه القومي, واعتمدوا في هذا الأمر على المثقفين ولا سيما المثقفين المسيحيين, والثاني ترغيبهم بالسلطة والنفوذ والمال بعيداً عن وصاية السلطان العثماني الذي كان يغيّر حكام الأقاليم متى أراد. خلال التحالف العربي الإنكليزي ضد العثمانيين كان العرب المسلمون يركزون أحياناً على المفهوم القومي أكثر من الإسلامي ليس من منطلق وعي قومي حديث، وإنما لطمأنة الإنكليز والفرنسيين تجاه المسيحيين في سوريا ولبنان وفلسطين.
كانت المكونات العرقية والطائفية الأخرى في سوريا غير مهتمة بهذه المسألة مثل العرب السنة والمسيحيين, فبالنسبة للعلويين والدروز لا يختلف الحكم السني العربي عن الحكم السني العثماني, وهذا ما ظهر واضحاً خلال الاحتلال الفرنسي لسوريا ومطالبتهم بما يشبه الفيدرالية خشيةً على مستقبلهم عند اقتراب استقلال سوريا, وبات معلوماً لديهم أن الحكم سيكون للعرب السنة. أما الكرد فقد كانوا بعيدين عن هذه المسألة, فهم أولاً بعيدين عن المدن السورية الكبرى التي يقود وجهاؤها السياسة مثل دمشق وحلب وحمص, وثانياً هم سكان الأرياف التي يسود فيها الجهل السياسي والثقافي, وثالثاً كان انفصال سوريا عن الدولة العثمانية ضربة قصمت ظهرهم, فقد انفصلوا عن بني جلدتهم الذين هم في الطرف الثاني من الحدود السورية – التركية. بقي الكرد لغاية الخمسينيات من القرن الماضي مرتبطين بالمدن الكردية التي بقيت ضمن الدولة التركية مثل نصيبين وأورفا وسروج وعنتاب أكثر من ارتباطهم بحلب ودمشق وحمص, وربما كان هذا التقسيم للكرد بين سوريا وتركيا أحد الأسباب الخفية لمقاومة الكرد المبكرة للاحتلال الفرنسي في مناطقهم في عفرين وكوباني والجزيرة وبعض المناطق في محافظة إدلب, فآخر منطقة احتلها الفرنسيون كانت عفرين نتيجة شدة المقاومة, وقد استغل الأتراك هذه المقاومة في فرض أجندتهم على الفرنسيين، وذلك بدعمهم لحركة المُريدين في عفرين.
نعرف جيداً أنّ الدولة العثمانية لم تقم على أساس المواطنة, وكان رعايا الدولة العثمانية مرتبطين بالهوية الدينية وليس بالهوية الوطنية كما قال القنصل الفرنسي (ورد ذلك سابقاً), فمفهوم الوطن والوطنية وُلد مع مجيء الانتداب الفرنسي. وحين خرج الفرنسيون من سوريا وحكمتها البرجوازية السورية الوليدة، كان الفرنسيون قد خلفوا وراءهم مفهوم الوطنية للسوريين, ولعل البرهان الأكبر على هشاشة المفهوم الوطني لدى السوريين، عندما قام شكري القوتلي والنخبة السورية الحاكمة عام 1958 بتقديم سوريا طوعاً لعبد الناصر في الوقت الذي لم يكن عبد الناصر قد خرج بعد من مفهوم مصريته (مصر أم الدنيا) إلى مفهوم القومية العربية المشرقية.
عندما قام حزب البعث بانقلابه واغتصابه السلطة عام 1963 لم يكن لديه مفهوم وطني سوري, فقد دعا البعثيون إلى مفهوم الوطن العربي الكبير, وحسب مفهومهم هذا لم تكن سوريا سوى قطر في هذا الوطن الكبير, و يدلّ هذا المنحى البعثي إلى عدم وجود فكرة الوطنية السورية عند المؤسسين لهذا الحزب, فقد كانت القيادة القومية لحزب البعث والتي تدير شؤون الحزب على صعيد الوطن العربي أهم بكثير من القيادة القطرية التي تهتم بشؤون سوريا (القطر السوري حسب تسميتهم). ومن هذا المنطلق اعتبر حزب البعث أن القضية الفلسطينية هي قضيته المركزية وليست القضية الوطنية السورية.
عندما نتمعّن في كتابات المنظّرين البعثيين، وخصوصاً في كتابات ميشيل عفلق وفي المنطلقات النظرية لحزب البعث التي أُقرِّت بعد الانقلاب الداخلي عام 1966 نجد أن هذه الكتابات تنطلق من خلفية الإمبراطورية العربية الإسلامية التاريخية, فقد كان البعثيون يحلمون بإحياء هذه الإمبراطورية تحت لواء الفكر القومي العربي, وهذا ما كان يقصده عفلق بتسمية البعث (من الانبعاث العربي الإسلامي). لم يأتِ زكي الأرسوزي وميشيل عفلق بفكر جديد؛ لقد بدّلوا الهوية الدينية الإسلامية بالهوية القومية مع الاحتفاظ بالقدسية وإسقاطها على القومية هذه المرة (أمة عربية واحدة .. ذات رسالة خالدة). لا يختلف هذا المفهوم عن مفهوم الحركة الصهيونية للأمة اليهودية ولا عن المفهوم النازي “ألمانيا فوق الجميع”.
لا مكان في الفكر البعثي لخصوصية القوميات الأخرى في الجغرافية التي سموها “الوطن العربي”، ناهيك في سوريا, فقد وضع البعثيون أمام هذه القوميات أحد خيارين؛ إما الانصهار الطوعي في الأمة العربية “المقدسة”، وإما الرحيل عن هذا الوطن “العربي”.(21) وبما أنهم لم يكونوا قادرين على ترحيل الكرد لأسباب عديدة، منها أن الكرد يشكلون أكثر من 12% من سكان سوريا، كما أن ترحيل هكذا عدد سيثير الرأي العام العالمي الذي لا يستطيعون مواجهته, زد على ذلك أنه لا توجد دولة إقليمية ستستقبل هذا العدد الضخم من الكرد, وبالتالي أصبح الصهر القسري في العروبة هو السياسة المعتمدة, وهذا ما نظّر له محمد طالب هلال بوضوح.(22)
طيلة حكم حزب البعث في سوريا وحتى الآن كانت كلمة الوطنية تعني العروبة, فلأية قومية كنت تنتمي ستبقى هويتك هي العربية, ولهذا الهدف أصرّ حزب البعث على أن يطلق كلمة “عربي” على كل شيء في سوريا, فحتّى قرارات المحاكم السورية تبدأ باسم “الشعب العربي السوري” وليس باسم “الشعب السوري”. ولعله من باب الانتهازية والتملق لسلطة البعث أن بعض النخب الأرمنية كان يصرّح بأننا “أرمن عرب”.
وهكذا بدأ التشدد القومي ضد كرد سوريا وإظهارهم أمام الشعب العربي وبقية مكونات الشعب السوري على أنهم أعداء الأمة العربية في سوريا والعراق، ويسعَون إلى الانفصال في الوقت الذي لم يتبلور الفكر القومي الكردي لدى عامة الكرد في سوريا في بدايات حكم حزب البعث. إذْ منعت سلطة البعث في هذه العقود جميع الكتب التي تتحدث عن تاريخ الكرد, كما حذفت فقرات كاملة في الكتب المترجمة للعربية والتي تطبع في دمشق إذا كانت تشير وإن بإشارة عابرة إلى الكرد في سوريا, ومنعت المجلات التي تصدر في الدول العربية من الدخول إلى سوريا إذا كانت هناك ثمة مقالات تتحدث عن الكرد.**
لم تؤسس الدولة السورية منذ الاستقلال وحتى اليوم مفهوماً وطنياً يشمل جميع مكونات الشعب السوري, كما لم تظهر أيّ ملامح لوطنية سورية جديدة خلال الأزمة السورية الراهنة بعد اندلاع الثورة تشمل كل مكونات هذا الشعب, فلا النظام أعاد النظر في مفهومه “الوطني والقومي” السابقين، ولا المعارضة السورية صاغت وطنية تشمل كل مكونات سوريا القومية والدينية والمذهبية, وبالتالي فبمجرد انهيار سلطة الاستبداد في منطقة ما من جغرافية سوريا تشظّى السوريون إلى مكوناتهم القومية والدينية والمذهبية, زد على ذلك أن الكتائب الإسلامية الجهادية نسفت مفهوم الوطنية من جذورها وأعادت الناس إلى مفهوم الخليفة والرعية.
المراجع
1- بلاد الشام في مطلع القرن العشرين. وجيه كوثراني. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات. الطبعة الثالثة. بيروت 2013. الصفحة 35.
2- المصدر السابق. هامش الصفحة 36.
3- المصدر السابق. الصفحة 37.
4- نشوء القومية العربية. زين نور الدين زين. دار النهار للنشر. الطبعة الرابعة. بيروت 1986. صفحة 20. وهو كتاب مترجم عن اللغة الانكليزية طبع عام 1958.
5- المصدر السابق الصفحة 22.
6- المصدر السابق. الصفحة 27.
7- المصدر السابق. الصفحة 29.
8- المصدر السابق. الصفحة 30.
9- المصدر السابق. الصفحة 31.
10- المصدر السابق الصفحة 40.
11- ممكن العودة إلى كتاب “المسيحيون العرب وفكرة القومية العربية في بلاد
الشام ومصر 1840-1918″ للدكتورة فدوى أحمد محمود نصيرات. مركز
دراسات الوحدة العربية. بيروت 2009. وخاصة الصفحات من 11 إلى 40.
12- – نشوء القومية العربية. زين نور الدين زين. دار النهار للنشر. الطبعة الرابعة. بيروت 1986. صفحة 42. وهو كتاب مترجم عن اللغة الانكليزية طبع عام 1958.
13- المصدر السابق. الصفحة 43.
14- موقع الحوار المتمدن الالكتروني تاريخ 15/6/2005
15- الدولة السورية. كتاب صدر بمناسبة استقلال سوريا عام 1947. الصفحة 18-19.
16- المصدر السابق. الصفحة 18.
17- المصدر السابق. الصفحة 23.
18- المصدر السابق. الصفحة 52.
19- المصدر السابق صفحة 68.
20- (المصدر السابق صفحة 84.
21- ممكن العودة إلى كتاب في “سبيل البعث” لميشيل عفلق، وللمؤتمرات القومية لحزب البعث. وخاصة للمنطلقات النظرية.
22- راجع دراسة لضابط الأمن السِّياسي السوري الملازم أوَّل محمَّد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية بالحسكة ” دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الاجتماعية، السياسية”.
* نماذج من الانتفاضات التركية ضد العثمانيين: انتفاضات: عبدالرحمن بابان في سليمانية1806.محمد باشا رواندوزي 1810 .إسماعيل باشا بهديناني 1835 بدرخان باشا 1848 أزدين شير 1853. انتفاضة ديرسم 1877- 1878 .ابناء بدرخان باشا1877- 1889 .شيخ عبيدالله النهري 1880 حركة بدليس 1913 .ثورة شيخ محمود الحفيد 1919 .حركة سمكو آغا 1922 .ثورة شيخ سعيد 1925 . ثورة إحسان نوري باشا في جبال آكري 1927- 1931.ثورة علي رضا في ديرسم 1937 .ثورة بارزان 1943. جمهورية مهاباد 1946 .ثورة أيلول المجيدة 1961.ثورة كردستان إيران 1979 . حركة حزب العمال الكردستاني ب ك ك 1984.
ملاحظة: هذه الدراسة هي فصل من كتاب.