ياسر أحمد شوحان
تمهيد
يُعرّف الأستاذ صباح شاكر العكام التطرف بأنه تجاوز الحد المعقول في مسألة من المسائل الفكرية سواء كانت دينية أو سياسية، وهو مرادف لمعنى التعصب أو التشدد، وهو أمر مذموم في العقل والشرع.
وبما أن التطرف يأخذ صاحبه إلى الانغلاق والتشدد، فهو أمر يجعل منه مؤمناً بذاته وكأنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، ويبدأ بتسويق أفكاره على أن رؤاه ومعتقداته هي الصائبة والصالحة لكل زمان ومكان، واعتبارها من الثوابت والحقائق التي لا ينازعه فيها أحد، ويجعل منه على يقين بأنّه على الحقيقة المطلقة، وكل من يخالفه هو بعيد جداً عن الصواب فيشنّ حرباً عدوانية عليه ليثبت أنّه على صواب.
وتكثر الآراء حول صفات المتطرف وعداؤه للحقائق، لكن ما سنذكره هنا باختصار أنّ المتطرف هو شخص أحمق فقد التوازن الفكري في معظم أموره، وكثير المخاصمة مع المخالف له بالرأي. وعادة ما يلحق بهذه الصفات أنه متشدد على نفسه، نزقاً متبعاً أهواءه، متعجلاً بإصدار القرار، مُغيّب العقل وكأنه في عالم آخر، فهو من صنع لنفسه عالماً خاصاً به.
تُوفر البيئة البعيدة عن الديمقراطية أو المجتمعات كثيرة الطوائف الدينية والقوميات المختلفة أو التي تعاني من صراعات طبقية ومذهبية والمجتمعات المتخلفة حضارياً بيئة مناسبة للتطرف، وقد تخلف هذه المجتمعات أفراداً ينتمون لفكر شاذ أو متحجر ناتج عن التثقيف المُركّز والتلقين الجامد البعيد عن إعمال العقل. وهنا تأخذ التنظيمات اتجاهات عدة فيؤدي التشدد إلى ظهور الأحزاب والطائفية وتصلب الأثنيات والقبليات.
كل هذا يقود حتماً إلى بروز الإرهاب بكل أشكاله والذي هو أحد أكثر الأشكال خطراً على الإنسانية، وقد يتساءل سائل؛ هل انحصر التطرف ببقعة جغرافية دون غيرها؟ وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الإرهاب قديم قدم التاريخ ولم ينحصر بفترة زمنية معينة فهو ظاهرة عالمية إن صح التعبير ينتشر في المجتمعات المتخلفة ذات الثقافات الشمولية وبإيديولوجية محدودة ذات شكل راديكالي تُجسد الاضطهاد ضد أصحاب الرأي الآخر في مسعى منه إلى نشر الأفكار المتطرفة، وحيث أن التطرف يعتبر مخالفته شكلاً من أشكال الخروج عن طاعته، فإنّه بذلك يعبّر عن ضعفه الفكري وعجزه لتقبل الآخر، ممّا يجعل منه شكلاً جامداً يقود إلى العنف مبتعداً عن العلم والعقل، ولهذا فقد حارب التطرف العلماء ومن وقفوا في وجهه متّخذين من العلوم الإنسانية حجة العقل في محاولة للتصدي للفكر المؤطّر والفكر الراديكالي.
ونستعرض هاهنا بعض الشخصيات العلمية العالمية التي أثرت التاريخ الإنساني بالعلوم والمعارف وممن خالفوا هذا الفكر المتطرف للحيلولة من انتشار الفكر المتحجر والحد منه بالطرق والنظريات العلمية بقوة الحجة وسلطة المعرفة.
1 ـ غاليليو غاليلي Galileo Galilei :
أحد أشهر علماء القرن السابع عشر الميلادي، برع في الفلك ونشر نظرية كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus حول أن الأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس وليست مركز الكون، وأثبت خطأ نظرية أرسطو.
غاليليو شخصية علمية عبقرية أجبرت الكنيسة على الاستمرار بالاعتذار منها بعد مضي أكثر من 400 سنة على وفاته، وُلد عام 1564 في مدينة بيزا الإيطالية، ودرس في دير اليسوعيين، كانت رغبة والده أن يصبح غاليليو طبيباً، وبعد سنتين من دراسة الطب ترك غاليليو الجامعة ليتفرغ لدراسة الرياضيات وعلوم الفيزياء، درس غاليليو مؤلفات جالينوس وبحوث إقليدس ونظريات أرخميدس، وتطرق في أبحاثه إلى نظريات أرخميدس بالجاذبية، كما دأب على دراسة مراكز الثقل، وفي عام 1589 أصبح رئيس قسم الرياضيات في جامعة بيزا، ومن ثم أستاذاً في جامعة بادوفا (البندقية)، ثم بدأ بإلقاء المحاضرات ضد فلسفة أرسطو وبطليموس، وصنع أول منظار في عام 1609 وقام بتطويره (المنظار ذو العدستين) ليخترع التيلسكوب، بعد ذلك عمل على دراسة الفضاء والنجوم والكواكب ووصف القمر وجباله والبقع الشمسية، وأجرام درب التبّانة وأقمار المشتري وزحل والزهرة والأرض ومعظم كواكب المجموعة الشمسية. أثارت أبحاثه ضجة كبيرة لما فيها مخالفة للفكر السائد في وقته. فمكر به علماء ومفكري عصره وأنه مناهض لتعاليم أرسطو، فكتب غاليليو رسائل عدة إلى الدوقة كريستينا يهاجهم فيها المبدأ السائد في العلوم ونقض نظرية أرسطو، وفنّد في الكتاب المقدس وانتقد التفسير الحرفي فيه كما خالف تفسير التوراة أيضاً، كما عمل على إثبات نظرياته حول المذنبات وقربها من الأرض وأخطاء أخرى حول اعتبارها عقاب إلهي. كل هذا جعل من الكنيسة تنظر إليه كمعارض لها يستوجب العقاب، وعلى الرغم من أن أبحاثه كانت تدعو الكنيسة للنقاش والبحث إلا أن الكنيسة لم تعد تلقي له بالاً على الرغم من موافقة روما على نشر أبحاثه. وبعدة نقاشات عديدة دامت لأربع سنوات، كانت نتيجة آخر الشكاوى عليه أن قام البابا بإصدار حكم السجن عليه لمخالفته الكنيسة وقوانين محاكم التفتيش، ونشر الأفكار الخاطئة واتهامه بالهرطقة، ثم خُفف الحكم للإقامة الجبرية، وأعلنت المحكمة بمنع كتبه من التداول.
ظل غاليليو أسير بيته ثم أُصيب بالعمى إلى أن توفي في عام 1642 ودفن في فلورنسا.
في عام 1741 قدّمت الكنيسة الاعتذار لغاليليو وطُبعت كتبه واعتباره من أهم علماء التاريخ، وفي عام 1992 أعلنت الكنيسة اعتذاراً رسمياً لغاليليو وتقرر عمل تمثال له في الفاتيكان.
أهم مؤلفاته:
ـ كتاب الرسول النجمي Starry Messenger
ـ كتاب الفاحص Saggiatore
ـ محاورات حول علمين جديدين Discussions about two new science
2 ـ أنطوان لافوازييه Antoine Laurent Lavoisier :
أحد أهم علماء القرن الثامن عشر الميلادي، ومن أبرز النبلاء الفرنسيين، اشتُهر لافوازييه بأنه عالم اقتصاد وعالم أحياء وكيمياء حيث يُعد أبو علم الكيمياء في العصر الحديث.
وُلد لافوازييه في عام 1743، وبدأ حياته محامياً لكنه ما لبث أن تحوّل إلى الابتكار، حيث عمل على اختراع نظام جديد يقوم على إنارة شوارع باريس، ويُعد أول من تعرف على المادة وصاغ قانون حفظ المواد، كما تعرّف على الأوكسجين وفنّد نظرية الفلوجستون phlogiston theory.
عمل لافوازييه بأكاديمية العلوم الملكية، كما عُيّن موظفاً في مصلحة جباية الضرائب، وقد تعددت أبحاث لافوازييه في الكيمياء فيما يتعلق بالهواء وأنه يساعد على الاحتراق، وقد ارتبط اسمه مع العديد من أسماء الكيميائيين في ذلك الوقت أمثال هنري كافنديش وجوزيف بريستلي. وتعتبر قوانين لافوازييه ذات دقة كبيرة وتتسم بالوضوح، حيث وضع قانون بقاء الكتلة، وقانون حفظ المادة (إن المادة لا تفنى ولا تُستحدث بل تتغير من شكل إلى آخر) وهذا القانون يُعد ضربة قاصمة للخرافات التي لفت علماء الكيمياء لآلاف السنين.
إلا أن أبحاثه كانت أكثر دقة، حيث أدخل مصطلحات كيميائية جديدة إلى هذا العلم حيث كان أول من أنتج الغاز المائي واخترع المغياز (جهاز لقياس كميات الغازات)، وقد أثبت أيضاً أن التنفس هي نتيجة عملية احتراق، وبناء على ذلك فإن جميع الكائنات الحية تستمد طاقتها من عملية احتراق المواد العضوية باستخدام الأوكسجين الذي تستنشقه.
عندما قامت الثورة الفرنسية حوكم 24 شخصاً من ضمنهم لافوازييه بتهمة ترطيب تبغ الجيش خلال عملهم في لجنة المعايير، فحكم عليهم بالإعدام بعد اتهامه بترطيب تبغ الجيش والتلاعب بالمعايير، إلا أنها كانت مجرد اتهامات كان لافوازييه بريئاً منها عام 1794م، وعندما طلب من القاضي تخفيف حكم الاعدام على لافوازييه لمكانته العلمية كان رد القاضي (إن الثورة لا تحتاج إلى عباقرة) وذلك بعد أن تقدمت زوجته بطلب للعفو عنه، فأُعدم لافوازييه بالمقصلة في الثامن من أيار عام 1794، وصودرت أمواله. يُجمع المفكرون أن إعدام لافوازييه هو وصمة عار في القضاء الفرنسي، واستخفافاً مشيناً بحق العبقرية والنبوغ. وعلى الرغم من إعادة الاعتبار للافوازييه بعد أشهر من قوط روبسبيار إلى أن الإنسانية خسرت عالماً قد لا يأتي أحد بمثل أبحاثه.
وقد قال أحد أصدقائه: “إن قطع رقبة لافوازييه لا يستغرق دقيقة واحدة، ولكن مائة سنة لا تكفي لتعويضنا بشخصية مثله”.
أهم مؤلفاته:
ـ مبادئ الكيمياء Principles of chemistry .
3 ـ جيوردانو برونو Giordano Bruno:
راهب وفيلسوف إيطالي، ولد في مدينة نولا بمملكة نابولي عام 1548، وسافر في سن الحادية عشرة، وفي سن الخامسة عشرة انضم إلى الدومينيكان أوردر، درس علم اللاهوت والفلسفةـ اعتنق نظرية كوبر نيكوس على الرغم من تحريمها من قبل رجال الدين المسيحي، بل ونشر أفكاره حول أن النظام الشمسي واحد من مجموعة هائلة من النُظُم الشمسية الأخرى في الكون، وقال: إنّ النظم الأخرى تشتمل على مجموعات شمسية أخرى قد تحمل على بعض كواكبها صور حياة يجهلها البشر. وابتداءً من أول القرن السابع عشر أنكر برونو العقائد الكاثوليكية والتي تتعلق بالثالوث وعقيدة الجحيم وعذرية مريم والاستحالة الجوهرية والكرستولوجيا، كما اعتقد برونو بلانهائية الكون مؤكداً على أن لكل إنسان حرية الرأي والفكر والتعبير وأن المعرفة ممكنة ولا نهائية أيضاً وهذا الذي دفع محاكم التفتيش لاعتباره مذنباً، فاتهمته الكنيسة بالهرطقة وتم نفيه، وعند عودته إلى روما حُكم عليه بالسجن لثمان سنوات، ثم قطعوا لسانه وأحرقوه بتهمة الكفر.
ولم تكتف الكنيسة الكاثوليكية المتطرفة في تلك الفترة بحرق بورنو فقط وإنما أحرقت توماس كرانمر (قائد عملية الإصلاح الإنجليزي في القرن السادس عشر)، وجان دارك (بطلة قومية فرنسية وقديسة في الكنيسة الرومانية في القرن الخامس عشر)، وويليام تيندال (باحث مصلح اجتماعي إنجليزي ومُترجم الإنجيل إلى اللغة الإنجليزية في القرن السادس عشر)، ويان هوس (فيلسوف ولاهوتي تشيكي ومُصلح كنسي في القرن الخامس عشر).
من مؤلفاته:
ـ A ceia da terça-feira de cinzas
4 ـ فولتير Voltaire:
اسمه الحقيقي François-Marie Arouet ، كاتب وفيلسوف فرنسي، ولد عام 1694 ، عاش خلال فترة عصر التنوير، وعُرف عنه دفاعه عن الحريات المدنية وحرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان، اشتُهر باسم فولتير وهم اسم استعاره في كتاباته وعُرف به، وكان كاتباً غزير الانتاج حيث كتب في الأدب والنقد والمسرحيات والمقالات والكثير من الأعمال التاريخية والعلمية وكذلك الخطابات والمنشورات (تزيد عن عشرين الف خطاب).
تلقى فولتير دراسته في مدارس اليسوعيين، وكان مُصراً على أن يصبح كاتباً على الرغم من دراسته للمحاماة، ثم ما لبث أن ترك المحاماة وعكف على كتابة المقالات التاريخية، ثم عمل لاحقاً
على الرغم من القوانين الصارمة التي كانت تلاحق الكُتّاب في تلك الفترة إلا أن فولتير برع في فن المجادلة والمناظرة، ومدافعاً عن الإصلاح الاجتماعي، كما انتقد المؤسسة الدينية بشكل كبير وقال في إحدى كتاباته: (إذا كان الله غير موجود، فسيكون من الضروري أن نختلق واحداً)، مما أدى لاعتباره أنه إنسان ملحد، غلا أن الأمر ليس كذلك فقد كان في حقيقة الأمر أنه يشترك في الأنشطة الدينية، وبالتالي فقد اعتبر نفسه مؤمناً بالربوبية، كما أنه لم يعتقد أن الإيمان المطلق بالله يحتاج إلى الاستناد على أي نص ديني محدد أو فردي أو على أي تعاليم تأتي عن طريق الوحي.
وقد انتقد فولتير الديانات كثيراً إلا أنه في خطابه الذي أرسله إلى البابا بنديكت الرابع عشر بتاريخ 17 آب/أغسطس 1745 كانت أكثر إيجابية تجاه الدين الإسلامي، حيث قال: (واضع شريعة المسلمين رجل رهيب ذو سطوة على أتباعه)، وقال أيضاً مخاطباً رجال الدين في اجتماع كنسي: (لقد قام الرسول بأعظم دور يمكن للإنسان أن يقوم به على لأرض، وإن اقل ما يُقال عن محمد أنه قد جاء بكتاب وجاهد، والإسلام لم يتغير قط أما أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة). كما انضم فولتير برفقة صديقه بنيامين فرانكلين إلى المنظمة الماسونية وذلك في عام 1778 ، إلا أن بعض الباحثين يعتقدون أن هذه الخطوة كانت بهدف التقرب من فرانكلين. وقد عبّر فولتير كثيراً عن إعجابه بالحضارات الشرقية مشيراً بالوقت نفسه إلى أن الأوربية أقل منها كحضارة ذكية، وأن اليهود شعب “جاهل وهمجي”.
استخدم فولتير أساليباً استفزازية في كتاباته المثيرة للسخرية، وقد أوقعته بمشكلة مع السلطات الفرنسية في عام 1716 فنفي من باريس لأنه انتقد الوصي على العرش الفرنسي، ثم سُجن في الباستيل لكتابته قصيدة فاضحة بأن الوصي على العرش كان على علاقة محرمة مع ابنته فسجن سنة ثم سُجن مرة أخرى في عام 1726 نتيجة خلافاته مع أحد الارستقراطيين، ثم نفى نفسه طواعية إلى إنكلترا لمدة ثلاث سنوات. وأصبح ثرياً جداً من خلال استغلاله لخلل في اليانصيب الفرنسي ليشكل ثروة طائلة مكّنته من شراء قرى زراعية وقصور.
انتقد مسؤولون في النظام الكنسي الكاثوليكي وأرادوا منه الاعتراف بأخطائه على فراش الموت إلا أنه رفض ذلك، ويذكر الباحثين أن فولتير على الرغم من ذلك مات مضطهداً فكرياً، أعزباً حزيناً قائلاً على فراش الموت بعد رفضه دعوات القديسين (دعوني أمت بسلام)، وبعد أن مات فولتير عام 1778 لم تقم له الطقوس المسيحية الكاثوليكية وإنما دُفن سراً من قبل أحد أصدقائه في إحدى الكنائس الكبيرة، إلا أن فرنسا اعتبرته بعد ذلك أحد المبشرين باندلاع الثورة الفرنسية، ثم تم تحنيط قبله ودماغه، وتم نقل رفاته إلى مقبرة العظماء “البانثيون الفرنسي”، إلّا أنّ أحدّ العاملين أثناء ترميم قبره قام بسرقة رفاته وإلقائها في القمامة.
أهم مؤلفاته:
ـ Annals of the Empire Charlemagne 742 A.D
ـ The Age of Louis XV
ـ The Age of Louis XIV
ـ رسائل فلسفية Philosophical messages
ـ زاديغ (صادق)
ـ المعجم الفلسفي Philosophical glossary
وإذا أردنا إحصاء العلماء الذين نال منهم التطرف، فقد لا يتسع المقال لإحصاء أسمائهم، فهناك أيضاً جان جاك روسو الذي ساعدت أفكاره على وفلسفته على قيام الثورة الفرنسية، وهو صاحب كتاب (إميل) الذي جاء فيه (اتبعوا مع النشء الطريقة العكسية، وهي أن يشعر النشء بأنه هو صاحب الاختيار فلا توجد استجابة وتكريس إلا بالشعور بأن المرء حراً فيما يتعلمه، هذا هو التكريس الحقيقي)، وقد انتشرت طريقة روسو في تربية النشء في مختلف الدول الأوربية، وبعد مرور عشرون يوماً على نشر كتابه هذا حكم عليه البرلمان بالحرق ففرّ إلى سويسرا ثم ذهب إلى إنكلترا، وعاد غلى فرنسا ليموت فيها.
وكذلك ابن المقفع المفكر الزرادشتي الذي اعتنق الإسلام وتعلم العربية، وترجم كليلة ودمنة، ووضع كتاب (الأمان)، وهو من قال في كتاب: (إذا أخلّ المنصور بشرط من شروط الأمان كانت نساؤه طوالق، وكان الناس في حل من بيعته)، مما أثار حنق المنصور العباسي الذي قتله ولم يتجاوز عمره ستة وثلاثون سنة. وغيره كأمثال الحلاج وأبي حيان التوحيدي. أما ابن رشد فكان فيلسوفاً وطبيباً وقاضي القضاة في قرطبة، ويعدّ من أفضل الفلاسفة التي أنتجتهم الحضارة العربية والإسلامية، اتُهم بالكفر والزندقة والخروج من الملة لانتقاده كتاب (تهافت الفلاسفة) للغزالي، فألف كتاب (تهافت التهافت) رداً عليه.
ـ خالد الأسعد:
مؤرخ وعالم آثار سوري، ولد في تدمر عام 1934، درس التاريخ في جامعة دمشق، عمل رئيساً لدائرة التنقيب والأبحاث في المديرية العامة للآثار والمتاحف، ثم مديراً لآثار تدمر وأميناً لمتحفها منذ عام 1963 وحتى عام 2003.
عمل الأسعد مديراً للعديد من البعثات الأثرية أهمها في الأسوار الدفاعية لمدينة تدمر ومدفن زبدعته وحمامات زنوبيا وهيكل الموتى والبخراء والحلابات والبازورية ومدفن بولحا ومدفن بريكي والسوق الأموية ودبسي الفرج وكهف الدوارة وقصر الحير وغيرها. ثمّ عمل مشاركاً في بعثات أثرية عالمية ساهمت أيضاً في التنقيب عن الآثار السورية. ثم عمل مستشاراً وطنياً في برنامج تطوير السياحة الثقافية وبرنامج تحديث الإدارة المحلية في عام 2008، كما شارك في مؤتمرات أثرية متعددة في البحرين ووارسو وواشنطن ولندن.
أتقن عالم الآثار خالد الأسعد اللغة التدمرية والآرامية قراءة وكتابة وهي من اللغات القديمة ومن العلماء القلائل الذين تعمقوا في هاتين اللغتين، عدا عن اللغة الإنكليزية. وارتبط بعلاقات علمية وصداقة وثيقة مع هنري سيريغ وروبير آمي وعدنان البني.
نال الأسعد وسام الاستحقاق برتبة فارس من رئيس الجمهورية الفرنسية ورئيس الجمهورية البولونية ورئيس جمهورية تونس.
ساهم الأسعد في جميع الدراسات المرتبطة بتأهيل الموقع وتقديمه للسياح بطريقة تتناسب مع أهميته وضرورة الحفاظ عليه للأجيال القادمة، وذلك حتى بلوغه سن التقاعد، حيث لم يبخل بعدها بتقديم الخبرة والمشورة، وإليه يعود الفضل في إعداد ملف تسجيل موقع تدمر الأثري على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو في شهر أيلول عام 1980.
بعد هذه المسيرة الحافلة، لا بد أن أقتبس من الصحافة الحرة ما أطلقت عليه “قاهر داعش” وهو لقبٌ يتجاوزُ الأُطر الإعلاميّة والرّمزية، ويعكس حقيقة ما حصل فهو لو أنه أراد الاستمرار على قيد الحياة، لما كان في حاجةٍ إلى أكثر من الرضوخ لطلب وحيدٍ حاوَل جلاّدوه المستحيلَ لإجباره على تنفيذه، لكنّه رفضَ، فقهر والمستحيلَ معاً. فمنذ اعتقاله، حقّقوا معه أيّاماً، قبل أن يُحيلوه إلى الاستتابة، وهي إجراء أشبه بدورة إعادة تأهيل ديني وفقَ منظور التنظيم المتطرّف، ويكفي رضوخُ الُمستتاب لها، وإعلانه التّوبة حتّى يُحقن دمُه، )بايِع تنجُ، وتَفُزْ(؛ هذا هو العرض الذي قدموهُ له.
ومن السّهل تصوّر إقدام كثيرٍ منّا على قبول عرضٍ من هذا النّوع بدافعٍ من حلاوة الرّوح، لكن البديهي أيضاً أنّ رجلاً من طراز خالد الأسعد ما كانَ له أن يفعلَها. لم يكن الرّجل عموداً من أعمدة تدمر، بل كان كلُّ واحدٍ من أعوامه الثلاثة والثمانين عموداً تدمريّا، ولو أنه بايعهم بما يمثله من رمزيّة ومرجعيّة، لمنحَهم ربما فرصة إحداث تحوّل اجتماعي في المدينة، لكنّه رفض ببساطة كما يفعلُ أي فارسٌ مثلُه، فأسقط شرعيتهم، وكما كان رفض التّدمريّ طبيعيّاً ومنسجماً مع ما جُبل عليه، وجاء ردّ الفعل منسجماً مع التطرف، فانتقم من قاهرِه بقطع رأسه بتاريخ الثامن عشر من آب عام 2015.
لقد تجرع الجميع المرارة الشديدة، ولم يكن بوسعهم فعل شيء حيال الجريمة النكراء، فأهالي تدمر أصيبوا بعد الحادثة بالذهول والخوف، والتزموا مساكنهم، أما من هم من الأقارب أو الأصدقاء وزملاء العمل فقد كانوا تحت المراقبة ولكن لم يكن بوسعهم عمل أي شيء، سوى أن البعض تمكن من اختطاف رأس الأسعد ودفنه على عجالة بعيداً عن الأنظار، واستطاعوا كذلك بعد ثلاثة أيام أن يسحبوا الجسد ويواروه الثرى بعيداً عن الأنظار.
أهم مؤلفاته:
المنشورات العلمية:
ـ مرحبا بكم في تدمر 1965.
ـ القبائل البدوية في منطقة تدمر، 1966.
ـ مدينة في الصحراء (انكليزي).
ـ تدمر أثريا تاريخيا سياحيا (عدة لغات).
ـ المدفن البيت رقم 36 (ألماني).
ـ المنحوتات التدمرية (فرنسي).
ـ النقوش التدمرية في متحف تدمر (انكليزي).
ـ مقالع الحجر في تدمر (ألماني)
ـ المنسوجات التدمرية (ألماني).
ـ النقوش والكتابات في تدمر (فرنسي) بالتعاون مع CNRS.
لقد كان التطرف ولا يزال عدواً للعلم والعلماء، لأنهم أصحاب التنوير والعلم والانفتاح، وضد الانغلاق والظلام الفكري، ولأن الإنسانية بطبيعتها تحارب التطرف والغلو في الفكر والمنهج والعلوم، وتدعو إلى الاعتدال والوسطية. ولهذا فقد كان العلماء على مدى التاريخ ضحية للجهل والتشدد، وما حدث في محاكم التفتيش مشابه تماماً لما حدث على يد الأنظمة الدينية المتطرفة، لأنها بهذه العقلية المتحجرة تعود لمئات وآلاف السنين من الهمجية والعنف وعداء الكلمة والمنطق.
المراجع:
ـ الكنيسة والعلم، جورج مينوا، ترجمة: موريس جلال، مراجعة: د. جمال شحيّد، دار الأهالي للنشر والتوزيع ـ المؤسسة العربية للتحديث الفكري ـ 2005
ـ تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ـ دار المحرر الأدبي للنشر والتوزيع.
ـ The Fontana history of chemistry
ـ كتاب جوتة والعالم العربي ـ كاترينا مومزن ـ ترجمة: د. عدنان عباس علي ـ مراجعة : د. عبد الغفار مكاوي ـ سلسلة عالم المعرفة ـ العدد 194 ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت.
ـ آراء متنوعة من الشابكة الإلكترونية.