د. محمد نورالدين
باحث في الشأن التركي
استاذ التاريخ واللغة التركية بالجامعة اللبنانية
تمهيد
سيتمّ الحديث في هذا المبحث عن الميثاق الملّي واتفاقية لوزان في 24 تموز 1923 ورسم الحدود وما هو البند الأوّل، وكيف تمّت مسألة التمييز بين الهويات، وإنكار التعددية القومية داخل حدود الميثاق الملّي، عبر مطالب وهي كالتالي:
المطلب الأوّل: من الميثاق الملّي إلى لوزان
كيف صار التركيز على الأقلّيّات ذات الخصوصيّة الدينيّة، وعدم الاعتراف بوجود أقليات ذات هويّات عرقية، وكيف نجح مصطفى كمال في هذا في لوزان؟ وكيف تمّ نقل وتهجير المواطنين من أصل كردي، وكيف استطاع أن يرسّخ هذه النظريّة التي مفادها؛ “هناك عرق واحد يحدّد هوية تركيا، ويرسم حاضرها ومستقبلها هو العرق التركي.” وما الهدف من هذا الإنكار؟ وما هو تتريك الاقتصاد؟
المطلب الثاني: الطرح القومي – الإسلامي
(العثمانيّة الجديدة) ما هو الهدف من هذا الطرح؟ ومن أوّل من استخدم مصطلح العثمانية الجديدة في تلك الفترة من المسؤولين؟ وكيف تستفيد العثمانية الجديدة من المحيط الإقليمي لتركيا المضطرب؟
المطلب الثالث: العثمانية الجديدة والشرق الأوسط الكبير
كيف تقاطعت العثمانية الجديدة مع المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير؟ كيف أصبح أردوغان الرئيس الشريك في قيادة مشروع الشرق الأوسط الكبير؟ ما هو شعار” العمق الاستراتيجي” الذي وضعه أحمد داوود أوغلو عنواناً لكتابه الأشهر؟
المطلب الرابع: العثمانية الجديدة والربيع العربي
لماذا اعتبر ما سمّي بالربيع العربي الفرصةَ الأكبر والأهمّ أمام حزب العدالة والتنمية لتطبيق مشروعه العثماني؟ كيف ولماذا تعاون حزب العدالة والتنمية مع جماعات الإخوان المسلمين في الدول العربية؟ ما هما شِقّا العثمانية الجديدة؟
المطلب الخامس: أدوات العثمانية الجديدة
لماذا تعذّرت السلمية في تطبيق مشروع العثمانية الجديدة؟ والتجاء تركيا إلى التنظيمات المسلحة؟
ما هي العقيدة الأمنية الجديدة للعثمانية الجديدة في محاربة ما تسميه بالإرهاب في معاقله قبل أن تصل إلى تركيا؟
المطلب السادس والأخير: من العثمانية الموسعة الى العثمانية المصغرة: (الميثاق الملّي)
ما هي إشارات أردوغان المتكرّرة إلى حدود “الميثاق الملّي” وربط التواجد “الإرهابي الكردي” بالمناطق التي كانت ضمن الميثاق الملّي عام 1920 أي في شمال سوريا وشمال العراق؟ ما هي التغييرات في البنى الديموغرافية والمالية والتعليمية والدينية والإدارية والأمنية والعسكرية في المناطق التي احتلتها تركيا في سوريا؟ وكيف صارت تنسجم مع توجهات الحكومة التركية؟ كيف صار السعي إلى تطبيق “العثمانية الجديدة” تلقائيّاً الاصطدام بالقوى المتضرّرة من إحياء هذا المشروع؛ وفي مقدمها السعودية وإيران؟ وكيف بدأ أردوغان صراعه مع الوهابية التي وصفها أردوغان مرة” بأنها “إيديولوجيا متطرفة لا تنتمي إلى الإسلام”؟
الاستناج النهائي:
كيف لجأ أردوغان إلى (العثمانية المصغّرة) بعد فشل (العثمانية الموسعة)؟ وما هي حدودها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث
في 28 كانون الثاني 1920 أقرّ مجلس (المبعوثان) العثماني ما عرف باسم خريطة “الميثاق الملّي”. وهي تعكس نظرة النخبة التركية حينها إلى الحدود الجغرافية للدولة الجديدة بعد انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
وفي معاهدة لوزان في 24 تموز 1923 ثُبتت الحدود الجغرافية لتركيا التي كانت قد رسمتها اتفاقيات مختلفة سابقة مع سوريا والقوقاز واليونان وبلغاريا بين 1920 و 1923.
استغرق رسم الحدود الجديدة للدولة الجديدة حوالي عشرين عاما من العام 1920 إلى العام 1939 عندما سلخ لواء الاسكندرون عن سوريا وضُم إلى تركيا. لكن الفرق شاسع وكبير بين رسم الحدود الجغرافية لتركيا وبين رسم حدودها الإيديولوجية.
في البند الأول من بنود الميثاق الملي الستّة ورد ما يلي:
1- إنّ المناطق ذات الأغلبية العربية، والتي كانت تحت حكم الاحتلال المعادي قبل الهدنة في 30 تشرين الأول 1918، يتقرر مصيرها وفقاً لاستفتاء يجري فيها. وكل الأراضي التي تسكنها، داخل خط الهدنة المذكور وخارجه، غالبية عثمانية- إسلامية مرتبطة فيما بينها بوحدة دينية وعرقية وممتلئة بمشاعر التضحية والاحترام المتبادل، فهي – ولأيّ سبب كلّ – لا تتجزأ.
في هذا البند تمييز واضح بين الأراضي التي تسكنها غالبية عربية، وبين تلك التي تسكنها جماعات من أصول وغالبية إسلامية عثمانية. أمّا القول بغالبية من أصول اسلامية عثمانية فهي تعني في التمييز السابق أنها من أصول تركية.
من هنا تبدأ مسألة التمييز بين الهويات، وإنكار التعددية القومية داخل حدود الميثاق الملّي. ولمّا كانت حدود الميثاق الملّي وفق الخرائط التي اعتمدت حينها تضمّ كل ولاية الموصل أي محافظتي الموصل وكردستان العراق الحاليتين إضافة إلى الشريط الحدودي السوري مع تركيا، فهذا يعني أنّ النخبة التركية حينها كانت تتجاهل الهويات القومية لغالبية القاطنين في شمال العراق وشمال سوريا وأكبرها تلك التي تنتمي إلى العرق الكردي.
لقد اختلف مصطفى كمال مع السلطان العثماني حول قضايا كثيرة، لكنّ الميثاق الملّي رسم حدوده في اجتماع البرلمان في العاصمة إسطنبول، وكانت مركز السلطان، ووفقاً عليه من جانب البرلمان المتبقي من العهد العثماني، وبحضور مصطفى كمال، والبعض قال: إنّ خريطة الميثاق الملّي وضعها نفسه.
من الميثاق الملّي إلى لوزان
في معاهدة لوزان في 24 تموز 1923 كان التمييز الأكبر ضدّ الأكراد وكلّ القوميّات غير التركية. اعترفت لوزان بالأقلّيّات ذات الخصوصيّة الدينيّة. في تركيا هناك مسلمون وغير مسلمين لكن الاعتراف بوجود أقليات ذات هوية عرقية فهو ما نجح مصطفى كمال في ألا يشار إليه في معاهدة لوزان. فهناك عرق واحد يحدّد هوية تركيا، ويرسم حاضرها ومستقبلها هو العرق التركي.
كان الهدف من هذا الإنكار خلق مجتمع وهوية متجانسين. ولأجل هذا كانت اتفاقية تبادل السكان مع اليونان في لوزان في مطلع العام 1923، بحيث يترك يونانيو تركيا، وهم مواطنون أتراك، تركيا ويذهبون إلى اليونان، ويترك مسلمو أو أتراك اليونان أو تراقيا اليونان ويعودوا إلى تركيا. ولولا ذلك، وباعتراف أحد وزراء حزب العدالة والتنمية في بداية القرن الواحد والعشرين، لما أمكن خلق مجتمع متماسك في تلك الفترة.
في 30 آب 1930 كان رئيس الحكومة التركية مصطفى إينونو يقول في افتتاح خط لسكة الحديد في سيواس: “إنّ للشعب التركي وحدِه أن يحدد مطالبه وليس أيّة مجموعة قومية أخرى”. وبعد ذلك في خريف العام نفسه كان وزير تركي يقول: “إن أيّ عرق ليس نقيا بما فيه الكفاية لا يحق له سوى أن يخدم التركي”. وفي وقت لاحق في 1937 كان قائد قمع انتفاضة ديرسيم محافظ ديرسيم عبدالله ألب دوغان يقرّر إطلاق صفة أتراك الجبال على الأكراد.
وقد رافقت هذا المواقف والتصريحات، عمليات لتغيير البنى العرقية على الأرض بنقل وتهجير المواطنين من أصل كردي من أماكن سكناهم إلى مناطق أخرى من تركيا وإسكان مواطنين من العرق التركي مكانهم وفقاً لقوانين أقرّتها الحكومة والبرلمان، فضلاً عن عمليات القمع الدمويّ لانتفاضات الأكراد على امتداد العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين.
كان هدف الهوية المنسجمة في صلب حراك النخب التركية. مثالاً بارزاً آخر هو العمل على تتريك الاقتصاد من خلال انتزاع أكبر عدد من المكاسب التي كانت بحوزة غير المسلمين من مسيحيين ويهود من خلال فرض “ضريبة الثروات” في العام 1942 بنسبة وصلت إلى 80% من حجم الثروات التي طالت غالبية التجار اليهود والمسيحيين (نسبتهم 87% من الذين استهدفتهم الضريبة) الذي باعوا أملاكهم ودفعوا أموالهم لتسديد الضريبة، ثمّ مغادرة البلاد، ومن لم يستطع كانت معسكرات الاعتقال في انتظاره. وكذلك الأمر مع أحداث 6 و 7 أيلول 1955 في شارع الاستقلال بإسطنبول التي استهدفت تهجير الأرمن واليونانيين واليهود.
الطرح القومي – الإسلامي
عندما نذكر “العثمانية” كتوجّه وعقيدة، بشقّيها القومي والديني. وهذا ما ترجمه نظام انقلاب 12 أيلول العسكري عام 1980 الذي شرّع ما سمّي بالطرح القومي- الديني الإسلامي لمواجهة النزعات القومية الكردية والشيوعية واليسارية. وقد كان ذلك أساساً قويّاً لظهور مصطلح “العثمانية الجديدة ” للمرة الأولى في التاريخ التركي الحديث مع تورغوت أوزال، الابن المدلّل لانقلاب 12 أيلول رغم سعيه الدائم للتمايز عنه، الذي كان أوّل من حاول تطبيق هذه العثمانية من خلال رغبته في احتلال شمال العراق وضمّه إلى تركيا أثناء حرب الخليج الثانية عام 1990. والمفارقة أنّ الهدف الأهمّ كان محاولة ضمّ أكراد العراق إلى الدولة التركية بصيغة فدرالية بهدف إبقاء الأكراد كلهم في تركيا والعراق تحت رقابة الدولة المركزية التركية.
انتشر نقاش واسع في تركيا في مطلع التسعينيات حول ضرورة أن تنتهج تركيا سياسات خارجية جديدة تنسجم مع تفكّك الاتحاد السوفياتي، والآفاق التي خلّقها سقوط الشيوعية. حيث انكشف عالم تركي جديد، وهو ما دفع أوزال إلى إطلاق شعار من “الأدرياتيك إلى سور الصين” الذي جاء في سياق نقاشات العثمانية الجديدة. لكنّ المفارقة أنّ أوّل من استخدم مصطلح العثمانية الجديدة في تلك الفترة من المسؤولين كان النائب عن حزب الرفاه؛ عبدالله غول، الذي أصبح عام 2007 رئيساً للجمهورية، ومن أهمّ مؤسّسي حزب العدالة والتنمية قبل ذلك في العام 2001. قال غول في العام 1992 : “أرى أنّ هذه النقاشات حول مفاهيم مثل الجمهورية الثانية أو العثمانية الجديدة صحّيّة جدّاً. وأنظر إلى المستقبل بأمل كبير”. ومع أنّ الزعيم الإسلامي الأبرز ورئيس الحكومة السابق نجم الدين أربكان لم يكن من أنصار العثمانية الجديدة، لكنّه كان يواظب على إحياء الموروث العثماني انطلاقا من كونه سلاحاً في وجه المؤسسة العسكرية والعلمانيين، وليس بهدف العمل لمثل هذا المشروع، ومن ذلك إحياؤه السنويّ لذكرى فتح إسطنبول عام 1453.
بدوره كان أحمد داوود أوغلو، في سنواته الأكاديمية، في الثمانينيات والتسعينيات، وقبل أيّ دور سياسي لاحق، يشير بوضوح إلى العثمانية الجديدة كنهج. ففي الأول من كانون الأول 1996 اعتبر داوود أوغلو في مقالة له في صحيفة يني شفق أنه ” في أساس المشكلات الأهمّ في السياسة الخارجية التركية هو الفشل في الانسجام مع الإرث العثماني من أجل تشكيل أرضية سياسية خارجية ملائمة لرسم سياسات جديدة”.
بقدر ما كان المحيط الإقليمي لتركيا يضطرب بقدر ما كانت تتحرك النزعة العثمانية. هكذا كان بعد حرب الخليج الثانية في التسعينيّات، لا سيّما في العراق، وكذلك بعد أحداث 11 أيلول 2001 وغزو أفغانستان، ثمّ غزو العراق، وكذلك بعد انفجار ما سمّي بالربيع العربي. اضطراب المحيط وتفكّكه كان شرطاً لانبعاث العثمانية، ومحاولة تطبيقها. وهي قاعدة أساسيّة في التاريخ في عمليات تغيير الوقائع والخرائط.
ندم أوزال على عدم المشاركة في حرب تحرير الكويت لمعارضة الجيش ورئيس وزرائه. وكذلك ندم رجب طيب أردوغان؛ رئيس حزب العدالة والتنمية، ولم يكن قد أصبح بعد نائباً ولا رئيس حكومة، لعدم موافقة البرلمان التركي على مذكرة الأول من آذار 2003 لمعارضة الجيش كما العلمانيين، فضلاً عن تمرّد العشرات من نواب العدالة والتنمية على أردوغان، ورئيس الحكومة عبدالله غول. لكنّ التطلع إلى عثمانية جديدة لم يتوقف خصوصاً أنّ ظروف تطبيقها أصبح أكثر مؤاتاة مع وصول حزب يعتنقها ويتبنّاها إلى السلطة وبيده أخذ المبادرة.
العثمانية الجديدة والشرق الأوسط الكبير
تقاطعت العثمانية الجديدة مع المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير. بل كان منظّروها يرَون أنها يمكن أن تكون طليعة الشرق الأوسط الكبير؛ الذي يعني ضرب الدول والقوى المعادية للسياسات الغربية، وتفجير البنى الاجتماعية وربما الجغرافية للمنطقة لضمان الهيمنة الغربية والإسرائيلية عليها. هكذا أعلن أردوغان بالصوت والصورة في العام 2005 أنّه سيكون الرئيس الشريك في قيادة مشروع الشرق الأوسط الكبير. وإذا كان التحرك التركي العملي في إطار هذا المشروع قد تأخر إلى حين تشكّل ظروف مؤاتية فإن السجالات الفكرية والإيديولوجيا قد بلغت ذروتها مع ازدياد النفوذ الإيراني والشيعي في العراق حيث امتلأت الصحف التركية بعد غزو العراق ولسنوات بسجالات تستحضر من جديد النزاع الصفوي- العثماني.
إنّ شعار” العمق الاستراتيجي” الذي وضعه أحمد داوود أوغلو عنواناً لكتابه الأشهر لم يكن سوى استعادةً للروابط التاريخية والثقافية بين تركيا والمستعمرات التي كانت تخضع للسيطرة العثمانية. وغالباً ما كان يتحدث المسؤولون الأتراك – لا سيما داوود أوغلو – عن “مسؤوليات تاريخية” تجاه المجتمعات التي كانت سابقاً تحت السيطرة العثمانية. ويمكن العودة هنا إلى حوارنا مع داوود أوغلو ككبير مستشاري أردوغان، وغول في السياسة الخارجية في خريف العام 2004 في بيروت، ونشرناه في فصلية “شؤون الأوسط” في العام 2005.
توالت الإشارات العثمانية للمسؤولين الأتراك في 22 آب 2003 وفي حوار مع ديريا سازاك في موقع “انترنت خبر” يقول وزير خارجية تركيا حينها؛ عبدالله غول في معرض سؤال عن العراق: “تركيا ليس لها مطامع في أي أرض.” لكن هنا يجب القيام بتحليل عميق. فعندما تقول: لن أتدخّل في شأن العراق فإنك ستدفع الثمن مع الإرهاب. ومن زاوية استراتيجية فإنّ خنق تركيا داخل الأناضول وحبسها هناك غير وارد. فحدود تركيا الكامنة ليست الحدود الرسمية. فتأثير تركيا ومصالحها يتخطّى حدودها”. سُئل: هل هذه عثمانية جديدة؟ فاستأنف قائلاً:” كيفما تصفها صفها فالبلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى مناطق تعنينا عن كثب. فتركيا لا يمكن أن تحبس داخل الأناضول. طبعاً ليس هذا مغامرة. نحن نأخذ دروساً من التاريخ. لكي تكون بسعادة ورفاهية داخل حدودك يجب أن تهتم بما وراء الحدود. فاستقرار العراق مصلحة لتركيا. تركيا ستأخذ ضمن نظام قانوني حقها من نفط العراق. وستكون لتركيا كلمة في إعادة بناء العراق”.
وفي 8 شباط 2007 وفي تلميح لعودة الموصل لتركيا، تحدث وزير الخارجية غول في ندوة في واشنطن قائلا: ” إننا في العام 1926 عندما أعطينا الموصل، إنما لعراق موحد أعطيناها. ونريد اليوم أن نرى أمامنا عراقاً موحّداً”.
في 24 تشرين الثاني 2009 يردّ أحمد داوود أوغلو (وكان أصبح وزيراً للخارجية في أيار 2009) في مؤتمر لنواب حزب العدالة والتنمية على منتقدي سياسات تركيا فيقول: ” نحن لنا إرث باقٍ من العهد العثماني. يقولون عثمانية جديدة. نعم نحن عثمانيون جدد. نحن يتحتّم علينا الاهتمام بدول منطقتنا، كما الاهتمام بدول شمال أفريقيا”.
وكانت ذروة مواقف داوود أوغلو، تصريحه لصحيفة واشنطن بوست في مطلع كانون الأول من العام 2010 في حوار مع الكاتب جاكسون دايهل وإشارته إلى “العثمانية الجديدة” بقوله: ” كما هي إنكلترا زعيمة لكومنولث إنكليزي من مستعمراتها السابقة، فلماذا لا تقيم تركيا من جديد زعامة في الأراضي العثمانية السابقة في البلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى”.
العثمانية الجديدة والربيع العربي
شكّل ما سُمّي بالربيع العربي الفرصةَ الأكبر والأهمّ أمام حزب العدالة والتنمية لتطبيق مشروعه العثماني. فالمنطقة اضطربت ودخلت في حروب أهلية وتحارب السكان على أسس عرقية ودينية ومذهبية، وليس أفضل من هذا الخلل الكبير للتسلّل والتغلغل بكل الوسائل في المجال الحيوي للعثمانية الجديدة. خصوصاً أنّ أصحاب المشروع العثماني كانوا في البداية في انسجام مع المشروع الأميركي والغربي الهادف لتفتيت المنطقة جغرافيّاً واجتماعيّاً وتلقائيّاً ضمان أمن إسرائيل.
انخرطت تركيا بصورة مباشرة في الأحداث في تونس ومصر وليبيا وسوريا والعراق واليمن. ويمكن هنا التوضيح أنّ تعاون حزب العدالة والتنمية مع جماعات الإخوان المسلمين في الدول العربية لإحلال وقائع سياسية جديدة، لا يعني أنّ العثمانية الجديدة هي مشروع إخواني صرف. فالعثمانية الجديدة أكبر وأوسع من المشروع الإخواني وترتبط بإحياء عثمانية ذات شقّين: (إيديولوجي ديني، وقومي تركي.) وحزب العدالة والتنمية حليف إيديولوجي حاسم للإخوان المسلمين، لكنه يستفيد من – حتى لا نقول يستخدم – جماعاتِ الإخوان المسلمين لتحقيق عثمانية قومية- دينية.
رأى رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان أنّ “سوريا ليست مسألة خارجية بل نراها مسألة داخلية تركية، ولن نبقى متفرّجين على ما يجري هناك[1]“. وفي 27 نيسان 2012 يعلن أحمد داوود أوغلو في خطاب أمام البرلمان عن الهدف المركزي لتركيا:”سنقود كتركيا موجة التغيير في الشرق الأوسط، وتركيا صاحبة فكر جديد يحدد مستقبل الشرق الأوسط. وستكون تركيا طليعة هذا النظام ورائدته والناطقة باسمه. إنّ ما نريده لتركيا من طموحات هو ما نريده للشرق الأوسط”.
ولم يكن الشرق الأوسط الجديد الذي تريده تركيا سوى العثمانية الجديدة التي جاهرَ بها أردوغان بعد ذلك بشهرين ونيف فقط في 15 تموز 2012 ردّاً على منتقدِي تدخّل تركيا في الشأن السوري قائلاً: “يسألوننا عن أسباب انشغالنا بسوريا. الجواب بسيط للغاية؛ لأننا بلد تأسس على بقية الدولة العلية العثمانية. نحن أحفاد السلاجقة. نحن أحفاد العثمانيين. نحن على امتداد التاريخ أحفاد أجدادنا الذين ناضلوا… إنّ حزب العدالة والتنمية هو حزب يحمل في جذوره العميقة روح السلاجقة والعثمانيين[2]“. ولم يتردّد أردوغان مرة في القول: “إنّ الشعب السوري أمانة أجدادنا في أعناقنا[3]“. وفي نهاية تشرين الثاني 2012 كان أردوغان يقول: “إنّنا سنصل إلى كل نقطة وصل إليها أجدادنا على ظهور الخيل وسنهتم بها”.
أدوات العثمانية الجديدة
اتّبعت تركيا كل الوسائل الممكنة لتمكين القوى المؤيدة لها للوصول إلى السلطة. فحيث أمكن لها مساعدتهم سلميّاً كان ذلك، كما في مصر وتونس. وحيث تعذّرت السلمية التجأت تركيا إلى تنظيمات مسلحة متطرفة في العقيدة مثل “داعش” و”النصرة” ومسلّحِي الأويغور والشيشان. وعملت الحكومة التركية على محاولات شقّ صفوف الجيوش الوطنية في سوريا وفي العراق وفي ليبيا. ثمّ اتبعت سياسات التدخل المباشر كما في العراق في معسكر بعشيقة وغيره، أو في سوريا عبر احتلال مثلث جرابلس- أعزاز – الباب في عملية درع الفرات، ثم احتلال عفرين فاحتلال تل أبيض حتّى رأس العين في عمليّة نبع السلام، إضافة إلى حماية التنظيمات المسلّحة الموالية لها في إدلب أطول وقت ممكن.
وعملت تركيا على تشكيل عقيدة أمنية جديدة وهي محاربة ما تسميه بالإرهاب في معاقله قبل أن يصل إلى تركيا، وذلك عبر إقامة قواعد عسكرية متناثرة في قلب المنطقة العربية (كما في أذربيجان وكوسوفا، إلى الوجود العسكري التركي الدائم في قبرص). فكانت مراكزها العسكرية في العراق، وكانت القاعدة العسكرية في قطر وقبلها في الصومال، واليوم تجري خططاً لتحويل جزيرة سواكن السودانية إلى قاعدة أمنية لتركيا تحت واجهة الترميم الثقافي لحاضرة عثمانية سابقة، في خطوات تعكس تهديداً للأمن القومي السعودي والمصري في إطار الصراع بين تركيا (وقطر) وكل من مثلث السعودية – مصر- الإمارت.
إن التغلغل في المنطقة المجاورة مباشرة للحدود التركية، سواء في سوريا أو العراق، انطلق من مبدأ أنّ “الإرهاب الانفصالي” الكردي في سوريا يشكّل خطراً على الأمن القومي التركي خصوصاً أنّ حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سوريا ينتمي عقائديا للخط العقائدي نفسه لحزب العمال الكردستاني، ومؤيّد له، وإنّ حزب العمال الكردستاني متمركز في مناطق سنجار العراقية المحاذية لتركيا.
ربما يكون هذا جدّيّاً بالنسبة لتركيا. لكن هؤلاء “الإرهابيين” هم أنفسهم لم يكونوا كذلك عندما اجتمعت تركيا مع زعيمهم (صالح مسلم) في أنقرة في بداية الحرب على سوريا، وهم الذين اتفقت معهم عبر زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا عبدالله أوجالان على خطوات جدّيّة لحلّ المشكلة الكردية في تركيا، فكان اتفاق “دولما باهتشه” (في اسطنبول) العلني في 28 شباط من العام 2015 الذي رفض أردوغان الاعتراف به بعد ذلك بأقل من شهرين.
من العثمانية الموسعة الى العثمانية المصغرة: (الميثاق الملّي)
منذ خريف العام 2016 بدأ أردوغان يكرّر الإشارة إلى حدود “الميثاق الملّي” وربط التواجد “الإرهابي الكردي” بالمناطق التي كانت ضمن الميثاق الملّي عام 1920 أي في شمال سوريا وشمال العراق. تحدث أثناء معركة تحرير الموصل عن أنّ “الموصل كانت لنا”. وفي 11 كانون الثاني 2018 قال أردوغان: “إنّ شمال سوريا كانت ضمن حدود الميثاق الملّي، ولن نسمح بقيامة كيان إرهابي هناك”. وفي 24 كانون الثاني 2018 قال: “لا تنسَوا حساسيتنا تجاه حدود الميثاق الملي. حدود الميثاق هي حيث يوجد الآن الإرهاب في شمال سوريا وشمال العراق”. أمّا الإعلام الموالي لأردوغان فكان يتحدث عن إحلال “درع تركي” بدلاً ممّا وصفه بـ “الكوريدور الكردي” في شمالي سوريا والعراق.
وفي السابع من كانون الثاني 2019 تحدّث وزير الداخلية التركي سليمان صويلو في مقابلة تلفزيونية مع محطة “خبر تورك” عن منطقة الميثاق الملّي في معرض حديثه عن اللاجئين السوريين في تركيا وعن الأزمة السورية عموما. قال صويلو حرفيا:” إن 62% من اللاجئين السوريين في تركيا جاؤوا من أراضي حدود الميثاق الملي. وفي معركة “تشاناق قلعه” (خلال الحرب العالمية الأولى) سقط 1102 شهيدا من سوريا. ومنذ العام 2011 قدّمت تلك الأراضي من أجل بلادهم 71 ألفا و923 شهيدا. ولا يمكن بعد هذا أن نقول ما الذي يفعلونه هنا(في تركيا)؟”.
وترافقت كل هذه التصريحات مع تغييرات في البنى الديموغرافية والمالية والتعليمية والدينية والإدارية والأمنية والعسكرية في المناطق التي احتلتها تركيا في سوريا، بما ينسجم مع توجهات الحكومة التركية.
إنّ العودة إلى حدود الميثاق الملّي مباشرة، أو غير مباشرة كانت تقتضي ليس فقط إسقاط النظام السوري، بل كذلك إضعاف الدولة المركزية في سوريا (كما في العراق), وربما إسقاطها. لذا تعمل الدولة التركية على منع عودة الدولة السورية إلى مناطق الاحتلال التركي وفي إدلب أيضا. ففي 16 أيلول 2018 كان أردوغان يتحدث إلى الصحافيين الأتراك في طريق عودته من باكو عاصمة أذربيجان: ” نحن لا نعترف بالنظام السوري، ونحن لا نعترف بالدولة السورية. إذا كانت بعض القوى (يقصد بها إيران وروسيا) تقول: إنها في سوريا بناء لدعوة النظام، فنحن هناك بناء لدعوة الشعب السوري. في إدلب لا يحمل الناس الأعلام الروسية ولا الأميركية بل التركية[4]“. وكرّر أردوغان عدم الاعتراف بالدولة السورية كدولة، بعد عودته من قمة “سوتشي” الرابعة في 15 شباط 2019 والتي جمعته مع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والإيراني الشيخ حسن روحاني. وغالباً ما يكرّر المسؤولون الأتراك أنّهم سيسلّمون لاحقاً المناطق التي يسيطرون عليها في سوريا إلى “أهلها المحليين” خارج أيّ توجه لتسليمها إلى الدولة السورية الشرعية.
إلى ذلك فإنّ السعي لتطبيق”العثمانية الجديدة” كان يعني تلقائيّاً الاصطدام بالقوى المتضرّرة من إحياء هذا المشروع، وفي مقدمها السعودية وإيران. فالسعودية بما هي، قبل التأسيس، مساحة إيديولوجية وهّابية، كانت في تنافس وصدام مع تركيا العثمانية سابقاً، ومع وصول حزب العدالة والتنمية حاليا. وكان الصراع بين الوهابية التي وصفها أردوغان مرة (24 كانون الأول 2017) بأنها “إيديولوجيا متطرفة لا تنتمي إلى الإسلام”، وبين توجّهات حزب العدالة والتنمية المتقاطعة مع فكر الإخوان المسلمين، قد توسّع وتفاقم مع وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر وتونس والمغرب وغير ذلك، ثمّ دور السعودية في الاطاحة بحكم الرئيس المصري الإخواني؛ محمد مرسي. وفي حزيران 2017 كان إغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر أحد مطالب السعودية والإمارات ومصر والبحرين لفكّ الحصار عن قطر.
وإلى السعودية ومصر، كانت إيران أيضا من الدول التي تستهدفها العثمانية الجديدة. وقد عبّر أردوغان عن ذلك بوضوح في أكثر من مناسبة مستحضرا القاموس التاريخي باتّهامه إيران بممارسة سياسات “توسعية فارسية”. من ذلك تصريح له في 13 تشرين الثاني 2016 عندما حذّر من “التوسع الفارسي في العراق والتي (إيران) تدعم الميليشيات المسلحة بالمال والسلاح”. وفي 19 نيسان 2017 قال أردوغان في مقابلة تلفزيونية: “إنّ إيران تنتهج سياسة انتشار وتوسّع فارسية في المنطقة. تريد أن تتغلغل في سوريا والعراق واليمن ولبنان من أجل تشكيل قوة فارسية في هذه الدول”. وفي 17 حزيران 2017 قال أردوغان: “أنا أرى أنّ النشاط الإيراني هو توسّع فارسي وليس صراعا عرقيا ودينيا. وأؤكّد شخصيا أنني أعارض مثل هذه التوسعات الإيرانية”.
***
مما تقدم نعتقد أنّ “العثمانية الجديدة” مشروع جدّي وحقيقي ترفده التصريحات والمواقف والممارسات. وبعدما فشلت “العثمانية الموسعة” على مستوى المنطقة العربية انتقل الخطاب التركي إلى مستوى أدنى من التطلعات في نطاق “عثمانية مصغرة” حدودها حدود “الميثاق الملي” لعام 1920. وهذا واضح من خلال حركة سلطة حزب العدالة والتنمية السياسية والعسكرية والاجتماعية في سوريا تحديدا (والعراق إلى حد ما) في السنتين الأخيرتين في إطار تفاهمات أستانا التي أتاحت لتركيا احتلال المنطقة من جرابلس إلى عفرين وصولا إلى إدلب واجتياح شمال شرق الفرات بعملية “نبع السلام” وصولاً إلى منطقة سنجار داخل العراق عند المثلث التركي – السوري- العراقي.
[1] صحيفة ميللييات 8 آب 2011
[2] صحيفة ميللييت 16 تموز 2012
[3] صحيفة السفير 9 تشرين الأول 2012
[4] صحف الاثنين 17 أيلول 2018