رامان آزادمقالات

الصراعُ السنّيّ-الشيعيّ… الجذورُ والآفاقُ

رامان آزاد

رامان آزاد

التناقضُ المذهبيّ بالشرق ملفٌ شائكٌ جداً، ولا تتوفرُ مراجعٌ تاريخيّةٌ على درجة كافية من الموثوقيّة والموضوعيّة تؤكّد أنّ الحالةِ المذهبيّة كانت السببَ المباشرَ لوقوعِ الأحداثِ الجليلةِ، فبقيت حوادثُ التاريخ معلّقةً، مفتوحةً على التأويلِ واكتسبت صلاحيةً غير محدودةٍ لتكونَ سبباً أو محرّضاً لصراعاتٍ تاليةٍ على مرّ قرون طويلة حتى اليوم. ومازالت ميادينُ حربِ الجمل وصفين مفتوحةً وفي كلِّ مرحلةٍ عثمانٌ جديدٌ.

قرونٌ طويلةٌ مرّت والمجتمعاتُ الإسلاميّةُ تتبادلُ الشتمَ بتوصيفِ الروافضِ والنواصبِ. ويُقصدُ بالرافضةِ الشيعة، إشارةً لرفضِهم الخلفاءَ الراشدين الثلاثة قبل الإمام علي بن أبي طالب، والقادحين بعدالتهم ودينهم، فيما الشيعةُ الأوائل اكتفوا بتفضيلِ علي دونَ الانتقاصِ من بقية الصحابة. وأمّا “النواصب” فهم السنّةُ ممّن ناصبوا آل بيت الرسولِ العِداءَ، ورفضوا نصرتهم، ويرى قسمٌ من الشيعةِ أنّ السُّنّةَ امتدادٌ للأمويين، ممن قتلوا الحسين وآل البيت بكربلاء ويحمّلونهم مسؤوليّةَ دمائهم، فيما يبرر السنةُ الحربَ بالفتنةِ.

السلطةُ جوهرُ الخلافِ والعناوينُ دينيّةٌ

الصراعُ بين السنّةِ والشيعةِ خرجَ من كونه نزاعاً حول المبادئ الإسلاميّة العامة وصار نزاعاً على الرئاسةِ، فلم يكنِ الشيعةُ (روافض) أول أمرهم، وكذلك لم يكنِ السنّةُ (نواصب)، إنّما هو التطرف… فإذا أرادَ الشيعة وأهل السنة في هذا العصر أن يتوحّدا، فليرجعوا إلى شعارهم القديمِ الذي اتخذه زيدٌ بن علي وأبو حنيفة، أي شعارَ الثورةِ على الظلم في شتّى صورِه، ولا فرقَ في ذلك بين ظالمٍ شيعيّ أو ظالمٍ سُنيّ. والمشكلةُ أنّ الناسَ قد نسوا أنّ إمامَ السُّنةِ أبا حنيفة وإمام الشيعة موسى الكاظم قد ماتا في سجنِ الخلفاءِ العباسيين. ونسوا أنّ التشيّع كان ثورةً اجتماعيّةً في سبيلِ العدلِ والمساواةِ، وقد انشطر إلى شطرين مع الدولةِ العباسيّةِ، فأصبح هناك تشيّعٌ عباسيّ وتشيّعٌ علويّ، وحينما جاء الصفويّون خدّروا مذهبَ التشيّع وروّضوه فأزالوا عنه النزعةَ الثوريّة التي كانت لاصقة به، فكما هو واضح من صناعة تشيّع جديدٍ لخدمةِ الفرسِ مستغلين المذهبَ الشيعيّ للحفاظِ على هويتهم القوميّةِ الفارسيّةِ وأهدافهم السياسيّة في المنطقة(1).

المفارقةُ بتوصيفِ الحروبِ الإسلاميّة -الإسلاميّة وقد وقعت لدواعٍ سياسيّةٍ محضّةٍ بهدفِ الوصولِ للسلطةِ، وتمظهرت على شكلِ تناقضٍ مذهبيّ، وتبادلَ أطرافُ الصراع تُهمَ التكفيرِ والخروجِ عن الِملةِ، ورفعوا الشعاراتِ ذاتها واستندوا إلى الكتابِ والسنةِ إلا أنّهم اختلفوا بتأويلِ النصِّ وقراءةِ الحدثِ التاريخِيّ وطريقةِ تقييمِ شخصياته. والأغربُ إصرارُ البعضِ على توصيفِ التاريخ بالمجيدِ، وعلى إمكانيّةِ إعادةِ فصوله لإحياءِ نهجِ السلفِ الصالح، ولا مبالغة أنّ حروبَ اليوم هي على ذمةِ التاريخِ.

تعودُ جذورُ التناقضُ المذهبيّ إلى قرونٍ طويلة خلت، ويتمحورُ حول الخلافةِ، واتخذ ببدايته بُعداً قبليّاً عائليّاً في اجتماعِ سقيفةِ بني ساعدة، فطالبَ المهاجرون بالخلافةِ استناداً إلى العُصبةِ والنسبِ، فيما استندت مطالبةُ الأنصارِ من أهلِ المدينةِ إلى النُّصرةِ والسَّندِ، ومع اغتيالِ الخليفة عثمان انفجرَ الصراعُ السياسيّ واضحاً عبر احترابِ الصحابة في موقعةِ الجمل.

تمثلُ قضية الخلافة أو “الإمامة” جوهر الخلاف، وتتعدد النظريات حولها، فقد تسنّم الخلفاءُ الراشدون مقعدَ الخلافة بطرقٍ مختلفةٍ، فالخلافةُ الأولى كانت شورى، والثانية كانت تعييناً بوصية، والثالثة بانتقاءِ خليفةٍ من بين ستة تمّت تسميتهم بوصيةٍ، وكان مقتلُ الخليفةِ عثمان بن عفان مدخلاً مباشراً للصراعِ والفتنةِ، إذ أصبح قميصُه راية لحربِ علي بن أبي طالب بعد مبايعته خليفةً، في موقعة الجمل، ومن بعدها صفين مع من لاذ بمعسكر بمعاوية بن أبي سفيان أمير الشام المعزول والتي أسفرت عن التحكيم، فينشقَّ الخوارجُ فيحاربهم الخليفة في النهروانِ وتنتهي حياته بالاغتيالِ.

لم تكنِ العناوين المذهبيّة قد تبلورت في تلك المرحلة، ولا حتى طيلة حكم بني أمية الذي اعتمد أسلوبَ خلافةِ العهدِ وتوريث السلطةِ. بالمقابل تمّت ملاحقةُ أنصار علي وتصفية أهم أقطابه إذ أنّه شكّلوا حالة المعارضة للحكم القائم. ومن أهم الوقائع التي وقعت بهذا السياق موقعة كربلاء ومقتل الإمام الحسين بن علي عام 680م والتي شكّلت شرخاً متعدد المستويات مازالت آثاره باقية حتى اليوم.

تتجاوزُ موقعة كربلاء البعدَ العسكريّ لتكونَ أحدَ أهم حوادث التاريخِ الإسلاميّ والتي يختلف المسلمون حول تقييمها، وأضحت علامةً شيعيّةً فارقةً ومضمونَ الخطابِ العاطفيّ والحماسيّ والشحن المذهبيّ، رغم أنّ شخصيّة الإمام الحسين إسلاميّة جامعة وعاشت قبل مرحلة التمايز المذهبيّ. فالشيعة يرون قتلَ الحسين انقلاباً على الإسلام ومحاولة تضييع ميراثه الفكريّ، فيما يعتبرُ بعضُ مراجعِ السلفيّة الحسينَ شخصاً خارجاً على طاعة ولي أمر المسلمين يزيد بن معاوية وأنّه جلب على نفسه القتلَ، ولكنهم يلتمسون العذرَ لمعاوية بن أبي سفيان وكان أميراً معزولاً عندما حارب للخليفة الشرعيّ علي بن أبي طالب، ويبرّرون موقعة الجمل بالتأوّلِ والاجتهادِ. ولنكونَ بالمحصلةِ أمام صراعٍ سياسيّ محضٍّ يغطيه الاجتهاد.

كلّ المواقع والحروب التي شهدها التاريخُ الإسلاميّ لم تكن لسببٍ عقائديّ بل للوصول للسلطة أو الاحتفاظ بها. ولم يسلمِ البيتُ الأمويّ من الخلافات، فكانتِ الاغتيالاتُ السياسيّة وآخرها مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك، حتى حسم مروان بن محمد الخلافَ فكان آخر خليفةٍ أمويّ. وقاد تطلعُ عبدالله بن الزبير للخلافة بمكة للحربِ، فكانت معركةُ مرج راهط مع مروانُ بن الحكم عام 683م، ومعركة حروراء عام 686م بالعراق التي قادها أخوه مصعبُ بن الزبير لقتالِ المختار الثقفيّ الذي خرج يطلبُ ثأرَ الحسين، وانتهت بدخول الكوفة وتصفية المختار والآلاف من مقاتليه بعد منحهم الأمان. وتولّى أمير العراق الحجاج بن يوسف الثقفيّ مهمةَ إنهاءِ دولةِ الزبيريين وقتلِ عبد الله وصلبه 692م، وكذلك إخضاع العراقيين.

واقتتلت قبائل اليمنيّة والقيسيّة (المضريّة) عام 684. وأعلن زيد بن علي بن زين العابدين إمامته أيام الخليفة هشام بن عبد الملك فثار على الأمويين ليُقتل عام 740 ويدفنه أنصاره في ساقيةٍ ويُجرى الماء على قبره خوفاً من التمثيل به، ولكن القبر نُبش واُستخرج منه وقُطع رأسُه وصُلب ثم حُرّق بالنار(2). وفي خلافة مروان بن محمد ظهرت الانتفاضاتِ بالجملة باليمن والعراق ودمشق وحمص والكوفة فكانتِ المعاركُ مستمرّةً. واغتنم الضحاك بن قيس الشيبانيّ الخارجيّ انقسام الأمويين بعد مقتل الوليد بن يزيد عام 745م وأقبل إلى الكوفة وتوسّع إلى نصيبين ومعه ما يزيد على مائة ألف فسار إليه مروان بن محمد وقضى عليه عند ماردين. وقام أبو حمزة المختار بن عوف الأزديّ السلميّ البصريّ وهو من الأباضيّة بالحجاز وهزم الأمويين في مكة والمدينة وسار إلى الشام فبعث مروان بن محمد إليه جيشاً هزمه في وادي القرى عام 746م، وتمّت ملاحقةً حليفه عبد الله بن يحيى بن طالب حتى اليمن فقُتل.

استغل بنو العباس سياسةَ بني أمية ضد آل بيت علي وأنصاره وراحوا يؤلّبون الناسَ ضدهم ويحضّرون بسريّةٍ تامة للثورةِ بالأقاليم البعيدة، ويعود سرُّ نجاحِ الدعاية العَلويّة منذ بدايتها في خراسان للعلاقة الوثيقةِ بين الكوفة والبصرة وأهل خراسان، فمنذ مطلع القرن الثاني الهجريّ كان دعاةُ الشيعةِ يظهرون في خراسان بشكل منتظم حسب أوامر الكوفة ودون أن يُعرف لحسابِ من يعملون”(3) ولم يُظهِر العباسيون أنفسَهم طلاباً للسلطة، بل أشاعوا أنّهم إنّما نهضوا لنصرةِ أبناء فاطمة الزهراء والثأر لمظلوميّتهم واستثمروا حالة الاحتقان لدى الموالي وهم المسلمون من غير العرب حتى إذا قويت شوكتهم أعلنوا الثورة رافعين شعار “الرضا من آل محمد” وكانت المعركة الزاب المفصليّة وسقوط دولة أمية 750م. ومضى العباسيون يفتكون بآل أمية فتكاً ذريعاً يريدون استئصالهم من الأرض فنبشوا قبور موتاهم وأخرجت جثثهم وأحرقت. ويذكر ابن الأثير أنَّ عبد الله بن علي عم الخليفة السفاح وقائد قواته بالشام غدر بعددٍ كبيرٍ من الأسرةِ الأمويّة بمذبحة أبي فطرس إذ أمّنهم ودعاهم للطعام ثمّ قتلهم غيلة وأمر بالبسط ففُرشت على جثثهم فأكل عليها وهو يسمع أنينَ بعضهم.

كان العباسيون أمام اختبارِ الوفاءِ بعهودهم وشعاراتهم مع سقوط دولة بني أمية ولكنهم انقلبوا عليها، فاشتدتِ الخصومةِ بين فرعي بني هاشم وتنافسا في إثباتِ أيّهما أقربُ وأمسُّ صلةً بالنبي وأحقُّ بميراثه. فثار بالمدينةِ محمد بن عبد الله من أبناء الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية 763م بتفويض من يحيى بن زيد بن زين العابدين بن الحسين، إلا أنّ المنصور العباسيّ بعث إليه جيشاً بقيادة عيسى بن موسى فقتله واحتز رأسه. وخرج إبراهيم أخو محمد بن عبد الله بالبصرة فلقي المصير نفسه بمعركة قرب الكوفة. وثار الحسين بن علي (العابد) بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن ودعا للبيعة لنفسه خليفة عام 169هـ/ 786م فأرسل الخليفة موسى الهادي جيشاً فقاتلهم يوم التروية بموضع بمكة اسمه “فَخ” بالحجِّ. ويقول ياقوت الحموي بكتابه “معجم البلدان” عن الموقعة: “بقي قتلاهم ثلاثة أيّام حتّى أكلتهم السباع، ولهذا يُقال لم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجع من فخّ”(4). ورغم خسارة العلويين، إلا أنّ الهزيمة كانت سبباً غير مباشر بتأسيس أول دولة علويّة بالتاريخ الإسلاميّ، ذلك أن كلاً من الأخوين إدريس ويحيى، أبناء عبد الله بن الحسن، استطاعا الفرار من المعركة، فتوجّه يحيى إلى إيران، وإدريس توجه غرباً إلى المغرب، حيث استقر هناك وتحالف مع البربر وأقام دولة الأدراسة، وظلت قائمة لقرنين.

في بخارى ثار شريك المهريّ وكان من أنصار أهل البيت وقد نقم على سياسة أبي مسلم الخراسانيّ وإسرافه بسفك الدماء والتف حوله 30 ألف من بخارى وخوارزم وأخمدت الثورة بكثير من العنفِ والقسوةِ وأضرمت النار بالمدينة ثلاثة أيام وصُلب الأسرى على أبوابِ المدينةِ.

ما يؤكّد حالة الصراع السلطويّ أنّ العباسيين بعدما تمَّ لهم أمرُ الحكومةِ بدؤوا بتصفية قادة الثورة وانقلبوا على شعاراتِ نصرةِ شيعةِ أهل البيت وأقاموا حكمَ العائلةِ ووُزّعت المناصبُ والإماراتُ على أبناءِ العائلةِ. وجاء اغتيال أبي سلمة الخلال في سياق التنافسِ السياسيّ ومن بعده تخلّص المنصور من أبي مسلم الخراسانيّ إذ وجده منافساً، لتقومَ الثوراتُ بخراسان تطالبُ بدمه.

رغم تضييقِ العباسيين الخِناق على العلويين وسجنهم وقتلهم لم تنتهِ دعوتهم، وإنّما اعتمدوا التقية والسريّة في دعوتهم، وانقسموا إلى مذاهب أهمّها الزيديّة والإماميّة. ثم انضمّ عددٌ كبيرٌ من الزيديّة إلى الإماميّةِ من أنصارِ جعفر الصادق. وبعد وفاته انقسمت الإماميّة إلى قسمين بفعلِ اختلافِ الرأي حول تحديدِ الحقِّ الوراثيّ وهما: الاثنا عشريّة واعتقد أتباعها بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق وهو الإمام السابع حتى المهدي الإمام الثاني عشر المغيّب. والإسماعيليّة أو السبعيّة واعتقدوا بإمامةِ أكبر أولاده إسماعيل بن جعفر الصادق مع أنّه تُوفي في حياةِ أبيه فحوّل أتباعه الإمامة إلى ابنه محمد المستور وهو عندهم الإمام السابعيليّةيين  وشعار. وعلى يد عبيد الله المهدي الإسماعيليّ قامتِ الدولةُ الفاطميّة، فنافست العباسيين على لقب الخلافة والقرب من الرسول، وانتهت على يد صلاح الدين الأيوبيّ وليعيدَ مصر سنيّة على المذهب الشافعيّ. وكذلك يرجعُ القرامطة إلى الفرعِ الإسماعيليّ. ويعتبر ما حصل بين الفاطميين والقرامطة نوعاً من التنافس بين فرق الإسماعيليّة، والتي انقسمت إلى سبعيّة كالقرامطة والنزاريّة وهناك البهرة بالهند وهم أيضاً فرقة باطنيّة.

ولم يتمكنِ العلويون من إقامةِ إماراتٍ مستقلةٍ إلا بالمناطقِ البعيدةِ، فكانت دولة الأدارسة بالمغرب والتي اتفقت مع الأمويين بالأندلس ضدّ العباسيين، والدولة الرستمية الخارجيّة بالجزائر، والزيديّة باليمن والعلويّة بطبرستان. والواقع أنّ الدول التي قامت بعناوين التشيّع لم تكن كذلك تماماً وإنّما ادّعى حكامها ذلك.

لم يكن الشيعة موحّدين بالمرجعيّة السياسيّة رغم توافقهم حول اغتصاب العباسيين لحقهم الشرعيّ بالخلافة، وكانوا مصدر قلقٍ وخطرٍ على السلطةِ العباسيّة ومنافسين مباشرين. وتحوّلت الحالة الشيعيّة إلى معارضةٍ سياسيّةٍ ولم تقم لهم دولةٌ بالمعنى الدقيق للكلمةِ حتى كانت حكومةُ آل بويه ومن بعدهم دولة الصفويين.

شهد القرن 11 صراعاً بين السلاجقة المدافعين عن المذهب السنيّ والفاطميين المدافعين عن المذهب الشيعيّ-الإسماعيليّ. كما شكّلت الدولة الزنكيّة بالموصل وبلاد الشام حاضنة للمذهب السنيّ.

الثابت أنّ الحقبة العباسيّة هي التي ولّدت المذاهب السنيّة وشملت أتباع أبي حنيفة النعمان والشافعيّ ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل. وأما الوهابيّة فقد ظهرت متأخرة وذهبت إلى أقصى درجات التشدد اقتداءً بفكر محمد بن عبد الوهاب والذي اقتفى أثر ابن تيمية ويعتبره أتباعه مجدّدَ الإسلام.

كانت الدولة العباسيّة أكثر عرضة لتيارات الاختلاف السياسيّ داخل الحكومة المركزيّة وتمثلت بالاختلاف بين العرب السنة والفرس الشيعة، فقاتل عبدالله المأمون أخاه محمد الأمين وهما ولدا هارون الرشيد، كما ظهر المعتزلة في عهد المأمون والخلاف حول خلق القرآن، وبعدما تقارب المأمون مع الشيعة انقلب عليهم ليكسبَ أبناء عمومته ويواجه من خلالهم التهديدَ لحكمه.

جاءت سيطرة الترك على الدولة تعزيزاً للمذهب السنيّ، قبل أن يأتي البويهيون الفرس ويسيطروا عليها ليعودَ التشيّع فيقوى من جديد. وقامت في هذه الأثناء ثورة الزنج في سواد العراق والقرامطة الإسماعيليّة بالجزيرة العربيّة فقتلوا الحجاج في الكعبة وسرقوا الحجر الأسود، وأعاده الفاطميون.

وصل التوسّع الشيعيّ في تلك المرحلة أقصى اتساعه بسيطرة البويهيين على بغداد، فيما سيطر الفاطميون على الأراضي المقدّسة، والقرامطة على جزيرة العرب، لكن مجيءَ السلاجقة الأتراك من شرق الأناضول أنقذ سنيّة الدولة العباسيّة، فقد استنجد الخليفة العباسيّ القائم بأمر الله بالسلطان السلجوقيّ طغرلبك طالباً مساندته ضد البساسيري وهو أحد قادة البويهيين، وانتهز السلطان الفرصة وسار بجيوشه إلى بغداد ودخلها وهكذا دخل العراق ضمن دائرة النفوذ السلجوقيّ.(5)

خلال الاجتياح المغوليّ حمّل البعض الوزير الشيعيّ للخليفة العباسيّ ما حصل لبغداد وتقتيل أهلها بعد خيانته وتشجيعه للمغول لدخولها والعالم الشيعيّ أيضاً نصير الدين الطوسيّ الذي قدّم خدماته لهولاكو، وبعدما انتهى المماليك في مصر من المغول والصليبيين بدؤوا حملة تطهير ضد الدروز في الجليل والشيعة بجبل عامل وجبال الساحل السوريّ.

التهجيرُ القسريّ والهروبُ إلى إيران

إيران اليوم هي الثقل الأكبر ومعقل الشيعة الحصين، وليس صحيحاً أنَّها كانت سنيةَ المذهب بشكلٍ كاملٍ حتى القرن السادس عشر الميلاديّ، وهذا القول يتجاهلُ محطاتٍ تاريخيّةٍ فارقة، فقسمٌ كبيرٌ من الإيرانيّين كانوا يعتنقون المذهبَ الشيعيّ قبل تأسيس الدولة الصفوية. والأرجحُ أنّ العلاقاتِ بين الشيعة وإيران، لم تبدأ مباشرةً زمن الرسول ولا الخلفاء الراشدين، ولكن المخيلةَ الشيعيّة ربطَت نفسها ببلادِ فارس من خلال شخصيات محددة. سلمان الفارسيّ وشهربانو بنت يزدجرد كسرى فارس زوجة الإمام الحسين بن علي، وأم الإمام علي المُلقّب بالسجّاد وبزين العابدين.

من العوامل التي ساهمت بتشيّع إيرانَ، أنّها كانت ملاذاً ومستقراً وموطن الهجرةِ لشخصياتٍ عَلويّة مهمة، فتجمعتْ حولها حلقاتُ الشيعةِ وأنصار آل البيت. من هؤلاء، يحيى بن عبد الله الكامل، الذي هربَ إلى إيران بعد هزيمة العلويين بموقعةِ فخ، فاتجه لجبالِ الديلم شمالَ إيران، حيث حظي بالنصرةِ والتأييدِ من أهلها، ومكث هناك فترةً حتى أوقعَ به الخليفةُ العباسي هارون الرشيد، فتُوفي يحيى في سجنه، (6).

العديدُ من الجماعاتِ الشيعيّةِ المبكرة، التي كانت تعيشُ في العراق، وجدت نفسها معرضةً لضغوطاتٍ قويةٍ من قبل الحكوماتِ الأمويّة والعباسيّة، فشدّت رِحالها شرقاً ناحيةَ بلادِ فارس، واستقرت هناك، وأسست في إيران بعضَ الجيوبِ الشيعيّة التي ازدادت قوةً وانتشاراً مع الزمن.

بدأت موجاتِ الهجرة الشيعيّة إلى إيران، عقبَ مقتلِ الخليفة الرابع علي بن أبي طالب في 40هـ/ 661م، ووصول الأمويين للسلطة، حيث قام والي العراقِ زياد بن أبيه، بإجبارِ حوالي خمسين ألفاً من شيعة الكوفة والبصرة، على الانتقالِ لخراسان، في محاولةٍ منه لطمسِ الهويةِ العلويّة التي صبغتِ العراق. وتابع ابنه عبيد الله بن زياد والي الكوفة السياسة نفسها، وكذلك في عهدِ إمارةِ الحجاج بن يوسف الثقفيّ على العراق، حيث هرب الكثيرُ من الشيعة إلى إيران، فراراً من التعسفِ والاضطهادِ الأمويّ الذي مُورس ضدَّهم.(7).

ويذكرُ الباحثُ الإيرانيّ المعاصر رسول جعفريان، أنّ الكثيرَ من الشيعة الإماميّة اضطروا لترك العراق أيضاً، في عهد خلفاء بني العباس، واتجهوا إلى بلاد فارس وآسيا الوسطى، ونجحوا بتأسيس مجتمعاتٍ شيعيّةٍ إماميّة قوية في مدن مثل قم ونيسابور وسمرقند وطوس وبيهق(8).

واستقدم المأمون العباسيّ بداية القرن الثالث الهجريّ علي بن موسى الرضا، وهو الإمام الثامن عند الشيعة الاثني عشرية، كان قد انتقلَ إلى مرو بخراسان، وقلَّده منصبَ ولاية العهد، وتُوفي في طوس، المعروفةِ حالياً باسم مشهد عام 203هـ/ 818م، ومن شخصيات الشيعيّة التي انتقلت إل إيران السيدة فاطمة المعصومة، أخت الإمام الرضا.

بنو بويه في بغداد والتشيّع المعلَن

في الربع الأول من القرن الرابع الهجري، ظهرت أسرةُ بني بويه الشيعيّة غرب إيران، واستطاعت أن تمدَّ نفوذها بسرعة على العراق، وأن تنالَ اعتراف الخلافة العباسية بشرعيتها، وحظيَ الشيعة بحريةٍ واسعة في ممارسةِ شعائرهم الخاصة بهم، متحرّرين من القيودِ التي فرضها عليهم الأمويون والعباسيون من قبل. وأُعلن الوجودِ الرسميّ للشيعة في بلاد فارس، ومثَّلوا أقليّةً أرستقراطيّةً حاكمة، وكوّنوا أغلبياتٍ مجتمعية، ذاتِ ثقلٍ حضاريّ اقتصاديّ فكريّ، في بعضِ المدن الكبرى مثل الري وطوس وقم، وتجلّى ذلك بشكلٍ واضحٍ في انتشار مراسم زيارة الأضرحة والعتباتِ المقدّسة وظهورِ الحوزاتِ العلميّة، التي دُرِّست فيها العلومُ العقائديّةُ والفقهيّةُ الشيعيّة، دون خوفٍ أو تخفٍّ للمرة الأولى بتاريخ إيران.

وصل ‏أحمد بن بويه‏ المؤسّسُ الحقيقيّ للدولة البويهية (‏334 -447)‏ إلى بغداد، بعد أن كاتَبَه الخليفةً المستكفي، فدخلها بيسرٍ ودون مشقة وفُتحت له أبوابُ بغدادَ، ولُقّب “معز الدولة”.‏ وتقاسم البويهيون الفرسُ السلطةَ مع العباسيين، فصار لهم الحكمُ الفعليّ لدولةِ الخلافةِ واتخذوا لقبَ السلاطين، بينما اقتصر دورُ الخليفة على السلطةِ الاسميّة. وتوفّرتِ الرعايةُ لعلماءِ الشيعة، من أمثال محمد يعقوب الكليني الرازي صاحبِ كتاب “الكافي”، ابنُ بابويه القميّ المعروف بالصدوق صاحبُ كتاب “من لا يحضره الفقيه”، ومحمد بن جعفر الطوسيّ صاحبُ كتابي “الاستبصار” و”تهذيب الأحكام”، وهي كتبُ الحديثِ الأربعة، المعتمدة لدى الشيعة الإماميّة.

الإسماعيليّة والحشّاشون وتشيّع الدولة الإيليخانيّة

ما بعد العصر البويهيّ تعرّض الشيعة لضرباتٍ موجعةٍ، وتورد الرواياتِ التاريخيّة في المصادر المعتبرة، أنَّ المذهبَ الشيعيّ ظلَّ محتفظاً بوجودٍ قويّ ومؤثرٍ في بلاد فارس. وبحسب ما وردَ في المنتظم لابن الجوزيّ والكامل لابن الأثير والبداية والنهاية لابن كثير (وكلها من المصادر السنيّة)، فقد قادتِ السلطةٌ السلجوقيّةَ، التي تولت الحكم، حملاتِ اضطهادٍ منظمةً، ضدَّ الشيعةِ الإسماعيليّةِ بمدن الري ومرو وقزوين، وراح ضحيتها الآلاف من الإسماعيليّة، الذين تسمّيهم المصادرُ السنيّة، بالباطنيةِ، وحتى بالملاحدة.

شغل الحديثُ عن تكفير والنيل من عقائد الإسماعيليّة في إيران والقضاء عليهم حيّزاً كبيراً في كتب أهلِ السنة في القرن الخامس، ويقول نظام الملك الطوسيّ وزير السلاجقة: “ليس في العالم كله أفضل وأقوم من مذهبيّ أبي حنيفة والشافعي رحمة الله عليهما أما المذاهب الأخرى فبدعٌ وأهواءٌ وشبهاتٌ”(9). وفنّد أبو حامد الغزاليّ مزاعم الباطنيّة وذكر عشرة ألقاب لهم (الباطنيّة والقرامطة والقرمطيّة والخرميّة والخرمدينيّة والإسماعيليّة والبابايكيّة والمحمِّرة والتعليميّة) وقال عن عقائدهم أنّ “مساقها يقودُ إلى الانسلالِ من الدينِ كانسلالِ الشعرةِ من العجين”(10).

تجدرُ الإشارة إلى أنّ إيران في تلك الفترة قد شهدتْ تواجدَ عددٍ من كبارِ الدعاةِ الشيعة الإسماعيليين، من أمثال الرحّالة ناصر خسرو، وعبد الملك بن عطاش، وغيرهما ممن اضطلعوا بدورٍ مهمٍ بتنظيم المجتمعِ الشيعيّ في بلاد فارس، وربطه بالسلطة السياسيّةِ الفاطميّةِ القائمةِ بمصر وبلاد الشام. وأما أشهرُ دعاة الإسماعيليين، فكان الحسنُ بن الصباح الحميريّ، الذي أسّسَ لجماعتهِ مركزاً ومقراً في قلعة ألموت (عشّ النسر) الحصينةِ والواقعةِ بمنطقة بحر قزوين. وابن الصباح، الذي اشتهرت جماعتُه باسم الحشيشيّة، ومدَّ سلطانَه على عددٍ من القلاع المتناثرة في أنحاءِ إيران، وواجه الجيوشِ السلجوقيّة السنيّة، ما يدلُّ على أن الكثيرَ من النواحي والأقاليم الإيرانيّة، كانت تميلُ للإسماعيليّة.

تمكّن المغولُ من غزوِ مساحاتٍ شاسعةً من أقاليم الشرقِ الأدنى في القرنين السادس والسابع الهجريين، إلا أنَّ هزيمتَهم على يد المماليك في موقعتَي عين جالوت وحمص، وضعت حداً لفتوحاتهم التي لا تنتهي. وأقام المغولُ دولة الإيليخانيّة بالعراق وإيران، ومع الوقت تعرَّفَ أباطرتُهم على الإسلام، وأعلنَ غازان خان اعتناقَه الإسلامَ وفقَ المذهبِ السنيّ في694 هـ/ 1295م (11). فيما أعلن الإيليخان محمد خدابنده، عن تحوّلهِ إلى المذهب الشيعيّ الاثني عشريّ، وتبعَه في ذلك قسمٌ كبيرٌ من أهمِّ رجال الدولة. ولم يكتفِ خدابنده بإعلانِ التحولِ الاسميّ للتشيع، بل عزمَ على تحويل رعاياه جميعاً لاعتناقِ المذهب، وأعطى صلاحياتٍ واسعةً للعلامة ابن المطهر  الحلّي، الذي مارسَ جهوداً عظيمةً في نشر المذهب، وأعدَّ عدداً من العلماء الشيعة.

الصراعُ العثمانيّ الصفويّ والشحن المذهبيّ

بدأ الصراعُ الصفويّ-العثمانيّ مع مطلع القرن السادس عشر، واستمر لقرنين، واستثمر كلّ طرفٍ فيه ما أتيح له من عوامل سياسيّة ومذهبيّة، لتستمر الحساسيّة بين الطرفين حتى اليوم. وهناك تشابهٌ كبيرٌ بين سلوكِ الدولتين وتطلعات الدولتين العثمانيّة والصفويّة، فقد ظهرتا كقوتين محدودتي التأثير، وسط حالة من الفوضى والارتباك في أقاليم الأناضول وآسيا الصغرى والهضبة الإيرانيّة.

تأسستِ الدولةُ العثمانيّة على يد أرطغرل بن سليمان شاه، وكان زعيم قبيلة تركمانيّة نزحت من وسط آسيا. وأوجد لقبيلته موضع قدم في آسيا الصغرى، فيما حوّل ابنه عثمان حكمه إلى دولةٍ مستقرة، وتوسّع تدريجيّاً. وفي عهد خلفاء عثمان، توسّعت الدولة العثمانية أكثر، لكنّها سرعان ما انتكست مع مطلع القرن الخامس عشر، عندما هُزم السلطان العثمانيّ بايزيد الأول أمام القائد المغوليّ تيمورلنك، في معركة أنقرة، فتشتت جموع العثمانيين وتمزقت أملاكهم الواسعة. واستعاد خلفاء بايزيد القوة، وانتزعوا مدينة القسطنطينية الحصينة، معقل الإمبراطورية البيزنطيّة عام 1453، ودشّن السلطان محمد الفاتح بذلك مرحلة جديدة ومهمة من تاريخ الأتراك، ووطّد خلفاؤه من بعده نفوذهم في مساحات شاسعة من آسيا وأوروبا وإفريقيا.

ظهرتِ الدولةُ الصفويّةُ على مسرح الأحداث السياسيّة بالهضبة الإيرانيّة مع مطلع القرن السادس عشر. وأخذ الصفويون اسمهم من الشيخ صفي الدين إسحق الأردبيليّ المتوفي عام 1334، وهو شيخ صوفيّ تركمانيّ الأصل، تبعه عددٌ كبيرٌ من المريدين(12). وبعد وفاة صفي الدين، خلفه ابنه صدر الدين موسى بقيادة الطريقة، وفي عهد حفيده المعروف بالسلطان جنيد، كان التحوّل من الطريقة الصفويّة إلى تبني القوة العسكريّة، وبعد انسحاب جيوش تيمورلنك استفاد الصفويون من الفوضى التي سادت بمنطقتي الهضبة الإيرانيّة والأناضول واقتسام الأقاليم بين ورثةِ القائد المغوليّ. ويذكر جعفر المهاجر أنّه مع مطلع القرن السادس عشر، انتصر إسماعيل، حفيد السلطان جنيد، على مملكة آق قويونلو التركمانيّة (الخروف الأبيض)، والتي امتدت بين إيران وآسيا الوسطى وأذربيجان، وأسس دولةً جديدةً، جعل تبريز عاصمتها(13).

اتخذ إسماعيل لنفسه لقب الشاه، ووسّع ملكه ونفوذه، وحذا خلفاؤه حذوه، فامتدت الدولة الصفويّة من جبال تورا بورا بأفغانستان، إلى شرق الأناضول، مروراً بأذربيجان وأرمينيا والهضبة الإيرانيّة. وأعلن الشاه إسماعيل الأول، عن تشيّع دولتِه، فقد “صمم إسماعيل الصفويّ على فرض المذهب الشيعيّ رسميّاً للدولة في إيران وقضى بالقوة المسلحة على معارضيه واستطاع الصفويون أن يجمعوا حولهم أعداداً غفيرةً من الأتباع والمريدين”، (14).

يرى الدكتور علي الوردي أنّ “الشاه إسماعيل أساء إلى التشيّع من حيث أراد نفعه، أو لعله أساء إلى التشيّع ونفعه في آن واحد، فهو من ناحية قد زاد تعداد الشيعة، إذ أدخل فيهم الكثير من الإيرانيّين، ولكن من ناحية أُخرى أدخل التشيّع في أمور أضرت به وشوّهت سمعته، أضف إلى ذلك أنه جعل التشيّع مذهبا حكوميّاً، وهذا أضعف فيه نزعته الشعبيّة القديمة”(15).

يقول المفكر الإيرانيّ علي شريعتي “الدولة الصفويّة قامت على مزيج من القومية الفارسيّة والمذهب الشيعيّ، حيث تولدت آنذاك تيارات تدعو لإحياء التراث الوطنيّ والاعتزاز بالهوية الإيرانيّة، وتفضيل العجم على العرب”(16).

كلّ تلكَ الأفعالِ، التي مُورِست على مدارِ قرنين، تضافرت وانسجمت مع مختلفِ المؤثرات التاريخيّة، فتمّ تأكيدُ وترسيخُ الصبغةِ الشيعيّةِ بإيران، ولتبقى حتى اليوم.

بين الحرب والدبلوماسيّة

يعدُّ الصراع الصفويّ-العثمانيّ أطول وأهم الصدامات بمنطقة آسيا الصغرى والعراق على مدار القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، ونجمت عنه تأثيراتٌ لا تزال تلقي بظلالها على جغرافية وديمغرافية المنطقة حتى اليوم. ويقسم الصراع بين الدولتين لأربع مراحل مفصليّة، لكلّ مرحلة سمات ومعالم تميّزها.

تبدأ المرحلة الأولى مع ظهور الصفويين على الساحة السياسيّة دولةً مستقلةً، وضمَّ الشاه إسماعيل الأول بعضَ المناطق المتاخمة لشرق الإمبراطورية العثمانيّة. وآثر السلطان العثمانيّ العجوز بايزيد الثاني الحلّ الدبلوماسيّ، فبعث رسائل الهادئة إلى إسماعيل.(17).

المرحلة الثانية بدأت عام 1512، باعتلاء سليم بن بايزيد الثاني العرش بعدما أزاح أباه بمساعدة قوات الإنكشاريّة، وكان السلطان سليم الأول يؤمن بالاحتكام إلى السيف وحتميّة توجيه ردٍّ عنيفٍ للجار الصفويّ. وجمع السلطان سليم عام 1514 جيشاً ضخماً، قوامه 120 ألف مقاتل، مزوّد بالمدفعيّةِ، واخترق الأناضول ووصل صحراء جالديران، وقابل غريمه الصفويّ العنيد الذي حشد 60 ألف مقاتل. وانتصر العثمانيون، ودخلوا تبريز عاصمة الصفويين، فيما انسحب الشاه المصاب إلى أذربيجان.(18)

ترتبت على انتصار جالديران نتائج مهمة، فقد سيطر العثمانيون على العراق وبعض المدن الواقعة غربي إيران، وفُتح الباب أمام سليم لقتال المماليك والانتصار عليهم، ليصبح بذلك الزعيم السياسيّ الأول في العالم السنّي. ورغم مساعي الشاه إسماعيل الأول العديدة لعقد تحالف مع البرتغال والبندقية وإسبانيا، ضد العثمانيين، إلا أنّ كلّ محاولاته باءت بالفشل الذريع، وتُوفي دون أن ينتقم لهزيمته.(19).

المرحلة الثالثة من الصراع بدأت مع وصول السلطان العثمانيّ سليمان القانونيّ والشاه الصفويّ طهماسب، إلى الحكم. وكان الصفويون قد تجاوزوا هزيمة جالديران المؤلمة، واستعادوا كامل سيطرتهم على إيران والعراق، مستغلين حالة الانشغال العثمانيّ بحرب البلقان، فوقّع القانونيّ اتفاقاً مع آل هابسبورغ، حكام النمسا عام 1533، ليستكمل الحرب على الجبهة الإيرانيّة.

قاد السلطان سليمان ثلاث حملات كبرى مظفرة ضد الصفويين، في أعوام 1534، 1548، و1555. ولم يتمكن العثمانيّون من تثبيتِ وجودهم في الأراضي الصفويّة، واتبع طهماسب أسلوبَ التراجعِ الحذر وانتظار انسحاب العثمانيين إلى بلادهم، ومن ثم يعود إلى أراضيه، ويقضي على الحاميات العثمانيّة المتواجدة بها.(20)

وبفشل الصدام العسكريّ في تحقيق أيّة نتائج حقيقيّة، اتخذ الصراعُ شكلاً جديداً، بمحاولة العاهلين استغلال الخلافات الأسريّة القائمة، فدعم سليمان عام 1546 القاص ميرزا في ثورته ضد أخيه طهماسب، ورد الشاه الصفويّ عام 1558 بدعم الأمير بايزيد في خلافه ضدّ أبيه سليمان القانونيّ. ولكن تلك المحاولات لم تغيّر موازين القوى في المعادلة السياسيّة الصعبة، فاضطر الطرفان إلى عقد هدنة أماسيا عام 1555، وشمل الاتفاق بنوداً تتعلق بالشؤون التجاريّة، وتأمين طريق الحج للإيرانيّين.(21)

المرحلةُ الرابعة من الصراعِ بدأت برحيلِ طهماسب والقانونيّ، واعتلاء حكّامٍ ضِعافٍ العرش في الدولتين. وسادت حالة من الارتباك في البيتين الصفويّ والعثمانيّ، ووسط تلك الأوضاع المضطربة تمكّن الشاه عباس الأول من الانتصار على العثمانيين في عدة معارك، ووقّع معهم معاهدة زهاب التي ختمت الصراع المسلّح بين الدولتين ورسّمت الحدود بين إيران والعراق وتركيا، وأصبحت مرجعاً مهماً للفصل بتحديد مناطق سيادة الدولتين.

الصراعُ الصفويّ-العثمانيّ كان صراعاً استكمل أركانه وتضافرت في صنعه عوامل الجغرافيا والسياسة والاقتصاد، ولكن وجهه المذهبيّ كان الأكثر بروزاً وشهرة.(22)

الفتوى الدينيّة أجّجتِ الصراعَ العثمانيّ الصفويّ

لم يقتصرِ التناقض المذهبيّ على الفترة المبكرة من الصراع بين الصفويين والعثمانيين، فاستمر علامةً مميزة له على طول الخط، والسبب في ذلك، فقد “حاولت الدولتان إبقاء هذا الاختلاف على أشده ليمكنهم تحريك عامة النّاس ضد الطرف الآخر ودحره”. وبذلك يمكن فهم الأجواء المشحونة التي خرجت فيها الفتاوي الدمويّة الداعية للقضاء المبرم على الطرف الآخر. (23).

ففي عام 1541، كتب حسين بن عبد الله الشرواني وهو رجل دين عثمانيّ، رسالة بعنوان “الأحكام الدينيّة في تكفير القزلباش”، أفتى فيها بجواز قتل الشيعة وتكفيرهم. ومما ورد فيها: “مَن قتل واحداً من هذه الطائفة الملعونة، فكأنما قتل وغزا سبعين نفراً من أهل الحرب بل أكثر”. وفي زمن السلطان مراد الثالث، أفتى الشيح نوح الحنفيّ بوجوب “قتل هؤلاء الأشرار الكفار (يقصد الشيعة) تابوا أو لم يتوبوا”.

وفي عصر السلطان مراد، عندما غزا العثمانيون العراق، أصدر المفتي العثمانيّ نوح أفندي فتوى بوجوبِ محاربةِ الشيعة وقتلهم، وسلب أموالهم، وأسر عوائلهم.

ساهمتِ الفتاوي في تضييقِ الخناق على شيعة الدولة الصفويّة، واستهدافِ الشيعة المقيمين داخل حدود الدولة العثمانيّة، فقُتل العديد من علمائهم، من أمثال نور الله التستري، وزين الدين بن علي الجبعي العامليّ، المُلقّب بالشهيد الثاني، عدا إرهاب جماعات الشيعة المقيمة في لبنان والقطيف والأناضول. وِكانتِ العثمانيّةُ متشددةً لجهةِ الانتماءِ الدينيّ المذهبيّ السنيّ الحنفيّ ولذلك ابتدأ سليم الأول احتلال سوريا بعد معركة مرج دابق بمذبحةٍ كبرى بحلب فذبح عشرات آلاف العلويين فيها وأقام من رؤوس القتلى تلالاً ومن نجا منهم هرب إلى جبال اللاذقية.

في المقابل، ردَّ الصفويون باستهداف رموزِ السنةِ وعلمائها، فقتلوا سيف الدين التفتازاني، شيخ الإسلام بمدينة هراة، وتعظيم قبر أبي لؤلؤة المجوسيّ، قاتِل عمر بن الخطاب، وأهانوا ضريح هارون الرشيد بطوس (مشهد). وفي عام 1503، وعقب دخولهم بغداد، نبش الصفويون قبور كل من عبد القادر الجيلاني وأبو حنيفة النعمان، وبنوا مقاماً ضخماً للإمام موسى الكاظم.(24)

من أهم الخطواتِ التي قام بها الصفويون، أنّهم استقدموا العديدَ من علماء الشيعةِ العربِ من لبنان والقطيف والعراق والبحرين، وأعطوهم صلاحياتٍ واسعةٍ لنشرِ التشيُّع الإمامي. كما استحدثوا بعضَ مظاهرِ التشيّع مثل إضافة عبارة “علي ولي الله” في الآذان، ودعوا أنصارَهم للمجاهرةِ بسبِّ ولعنِ رموزِ المذهب السنّيّ في الشوارع والميادين العامة ومَن يتردد في القيام به كان يعرّض نفسه للعقوبة والقتل. ويقول شريعتي: “بيد أن مشكلة الصفويّة كانت تكمن في هي بالذات إلى عناصر التأليب وتأجيج المشاعر والنعرات الطائفيّة والمذهبيّة على خلاف بقية الأنظمة وهياكل الحكم لم تكن الصفويّة تقتنع وتكتفي بدور الدين والمذهب في تبرير الوضع القائم وإضفاء القدسيّة على ما هو كائن وموجود بل كانت تطمح إلى ما هو أبعد من ذلك في استخدام المذهب كقوة تحريكيّة وآلة انتقام من المذهب السنيّ الحاكم في الدولة العثمانيّة ومن هنا وجدت الصفوية نفسها مضطرة للحفاظ على التشيع بشكله العلويّ الأصيل وتسليط الضوء على أكثر منعطفاته وقضاياه خطورة وحساسيّة بدلاً من الانشغال بالقضايا الجزئيّة أو المنعطفات غير الحادة”.(25)

ويذكر عبد الله أفندي في كتابه “رياض العلماء”، أنّ العديد من علماء الشيعة ردّوا على فتاوي الشرواني ونوح الحنفيّ، حتى أنّ الشيخ علي الكمرهاي ردَّ على الفتوى الأولى في مجلدين كاملين.

وفي العصر الصفويّ أيضاً، ظهرت المدونات الحديثيّة الشيعيّة الكبرى، التي وردت فيها فتاوي تكفير السنةِ، ومنها موسوعة بحار الأنوار لمحمد باقر المجلسيّ، وفيها عدّة مواضع أفتى فيها مؤلفها بما يزيدُ من حدّةِ التناحرِ المذهبيّ، ومن ذلك قوله بتكفيرِ أبي بكر وعمر وبأنّ “كلَّ مَن يحبهم كافر، وكل مَن يشكًّ في كفرهم فلعنة الله ورسوله عليه وعلى كلّ مَن يعتبرهم مسلمين، وعلى كلّ مَن لا يكفّ عن لعنهم”.

إيران من قوة إسلاميّة إلى قوّة شيعيّة

في إيران كانتِ الآمالُ معلقةً على ثورةٍ تطوي صفحة حكم الشاه، وتتجاوز الانهيار الاقتصاديّ والظلم الذي مارسه جهاز السافاك الدمويّ، الذي كتم أنفاس ملايين الإيرانيّين داخل البلاد وخارجها. وأعلن الخمينيّ عن أولى تباشير الدولة الإيرانيّة الجديدة ونهاية نظام الشاه رضا بهلوي. إلا أنّ انطلاق هذه الدولة لم يكن شأناً داخليّاً إيرانيّاً، بل إعلاناً عن ثورة دينيّة استثنائيّة بمنطقة الشرق الأوسط. وسرعان ما تكشفت جملة حقائق وانقلبت النبرة بعد سنوات من خطابات المنفى الباريسيّ تفنّد رغبة المرشدين الدينيّين بالحكم. وفي غضون أسابيع قليلة حُسمت طبيعة نظام الحكم، وبعد آمال واسعة بحكم مدنيّ، آلت الأمور إلى ما خطط له الخميني بإرساء حكم ثيوقراطيّ، يدفع كلّ من يخرج عن أطره ثمناً غالياً.

قبل انتصار الثورة الإسلامية، لم تكن القضية المذهبيّة حسّاسة. ولكن بعد انتصارها سعت إيران إلى مد الثورة وتصديرها، فشعرت دول الخليج بمنافسة إسلاميّة من نوع آخر، وأنّ الثوريّة الشيعيّة تشكّل خطراً على استقرار أنظمتها السياسيّة. وبذلك أجّج نجاح ثورة الخمينيّ الصراعَ بالمنطقة، فشنّ العراق مدعوماً من أغلب الدول العربيّة حرباً ضد إيران استمرّت ثماني سنوات وسمّي حينها العراق بحارس البوابة الشرقيّة.

انتقلت إيران من الشعاراتِ الإسلاميّة الجامعة إلى المذهبيّة الشيعيّة، وطرحت شعارات إسلامية عامة موجّهة إلى العالم الإسلاميّ سنةً وشيعةً و”قبل تحوّل إيران إلى قوّة شيعيّة كان الإخوان المسلمون يعتبرون طهران عاصمتهم وبقيت علاقاتهم ممتازة بإيران لفترة طويلة”. وتبنّت إيران استراتيجية بالمنطقة تتضمن دعم المجموعات الشيعيّة وربطها بها، وراحت تمدُّ نفوذها تدريجيّاً على هذا الأساس باستثناء تجربة حركة حماس في غزّة. لقد أغراها نجاحُ استثمارها في حزب الله اللبناني باعتماد هذا الأسلوب. وتحوّلت إيران كما أرادها الإمام الخميني، إلى ملعبٍ لمرجعيات دينيّة لها السيادة على طبقة سياسيّة تحدّدُ تحرّكاتها ومجالاتِ تدخّلها مسبقاً.

التوجّه المذهبيّ كان واضحاً بالانقلاب على القوى الليبيراليّة التي ساندت الثورة وساهمت بإسقاط حكومة شابور بختيار، فالخميني حذّر بالبداية من أنّ معارضة مهدي بازركان ترقى لعصيان الله، ولكن المجلس الثوريّ بقيادةِ الخمينيّ مارس الوصاية على الحكومة الجديدة وفقد بازركان السيطرة على زمام الأمور وأُجبر على الاستقالة. ثم كان الصدام مع حزب الجبهة الوطنيّة الحاضن لإرث محمد مصدق، البطل القوميّ بنظر الإيرانيّين لصدامه مع الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي، وردَّ الخمينيّ على عارضت الجبهة بالتهديد وتطبيق “حكم الردة” على قياداتها.

ومنح دستور 1979، الخمينيّ صلاحياتٍ واسعةً مع إقرارٍ ضمنيّ بقيادته مدى الحياة بصفته مرشد الثورة. وسبق الدستور حملة اعتقالات لعناصر الأحزاب العلمانيّة وإغلاق صحف، ورفض الخمينيّ عبر خطبه الديمقراطيّة طبيعةً لنظامِ الحكمِ.

وكان الصدام في ربيع 1980، مع اندلاع ما سمّاه مريدو الخمينيّ الثورة الثقافيّة فأغلقت كبرى الجامعات لطرد معارضي النظام الدينيّ منها. وحُسمتِ الثورة منذ الأشهر الأولى لصالح حكم دينيّ. حتى أنّ ملهمها، علي شريعتي، الذي اغتيل قبل اندلاعها بات ينظر إليه كعدو لها لميله للعلمانيّة والانفتاح، فالثورة حُسمت لصالح قم على حساب طهران تأكيداً لسيطرة الملالي.

أدواتُ التمددِ وتحديات تصدير الثورة

سعت إيران لتصديرِ تجربتها الثوريّة إلى المحيط الإقليميّ وتغلغلت عبر أدوات في دول عربيّة عدة ولعبت دوراً مثيراً للجدل، واعتمدت بدايةً على آليات مذهبيّة، ما أجّج التوترَ مع دولِ الجوارِ السنيّة وبخاصةٍ السعوديّة التي تتزعم محور الإسلام السنيّ. وساعد انكفاءُ الدورِ العربيّ والخلافاتِ الحادّةِ بين الحكوماتِ العربيّةِ على تقدّمِ دورِ إيران، فرفعت شعار المقاومة ودعم المستضعفين واضطلعت بدور مركزيّ فيما يسمّى محور الممانعة، تأسيساً على موقفِ سوريا إزاءَ الحربِ العراقيّة الإيرانيّة.

استخدمت إيران عدة آليات لتمديدِ نفوذِها بالمنطقة، أبرزها رفعُ راية نصرةِ المكوّن الشيعيّ الذي عانى من التضييق في الدولِ العربيّة كالعراقِ في ظلِّ نظامِ صدام حسين. وتكرر الأمرُ ذاته في بلدان الخليج، وتركز السعودية منذ عقودٍ على تحجيم أيّ نموٍ محتملٍ للمكوّنِ الشيعيّ، فتردُّ طهران بدعمِ الحِراكِ الشيعيّ بالخليج، سواء المسلح كحزب الله بالحجاز، أو المجموعات الدينيّة، خصوصاً في البحرين حيث الأغلبيّة الشيعيّة مقابل الأقليّة السنيّة الحاكمةِ، وحتى المناطق البعيدة جغرافيّاً كالحوثيين باليمن.

تقمصت طهران دورَ حاملِ لواءِ “مقاومة إسرائيل” وسيلةً لتوسيعِ شعبيّتها بالمنطقةِ العربيّة، ليس على مستوى الشعاراتِ التي ترفعها، بل كذلك على مستوى المواجهة العسكريّة عن طريق حزب الله. ولم تكتفِ طهران بذلك، فقد فهمت مبكراً انتشار لغة السلاح في المنطقة، ودعمت بذلك جماعات مسلّحة في أكثر من بلد، ما مكّنها من لعب دور أكبر في المجال السياسيّ.

كان من دوافع طرح وبلورة استراتيجية “تصدير الثورة الإسلاميّة” السعي الإيرانيّ لتحقيق “المشروع الاستراتيجيّ الإسلاميّ الوحدويّ” بوسائل عديدة محمية دستوريّاً، وتحت عنوان “دعم حركات التحرر”. مضت طهران حتى 1986 تستضيف التنظيمات الإسلاميّة، وتقدّمُ الدعم اللوجستيّ والإعلاميّ والمعنويّ لها، وواصلت عقد المؤتمرات العالميّة لأئمةِ الجمعةِ وأسابيع الوحدةِ الإسلاميّةِ، والاحتفالات السنويّة بيوم القدسِ ومؤسستي الشهيد والمستضعفين، ومنظمةِ العلماء المجاهدين، كآليات لتعبئة رجال دين وكتاب ومفكرين وقياديين إسلاميين من أنحاء العالم الإسلاميّ، لتلقينهم عقائديّاً والتأثير عليهم فكريّاً، بما يتفق مع أفكار الثورة الإيرانيّة.

لكنَّ تصديرَ الثورةِ يخضعُ لنقاشٍ جادٍ داخل إيران مع ظهورِ تياراتٍ أكثر انفتاحاً، والحاجة إلى تحالفات خارجيّة واعتماد سياسة واقعيّة والتخفيف من الملفات الدينيّة الحسّاسة، لتجنبِ الصدامِ والانتقاداتِ الموجّهةِ لها والخروج من إطارِ المقاطعةِ وتأثيرِ العقوباتِ. وكانتِ المذهبيّةُ أكبر العوائقِ، فمن غير الممكنِ أن تجتازَ الأفكارُ الحدودِ وتلقى القبولَ ما لم تلتزم الوسطيّة والاعتدال، وقد أيقظ التشددُ كوامنَ هاجعة، وحرّض عوامل الرفض.

في 1/2/2019 وبمناسبة الذكرى الـ40 للثورة الإسلامية قال نائب رئيس البرلمان الإيرانيّ علي مطهري: “إنّ سياسة نشر المذهب الشيعيّ التي تتبعها بلاده بالمنطقة، أثّرت على سياستها الخارجيّة. وأنّ النهج السياسيّ الإيرانيّ يتضمن مشاكل كبيرة سواء داخليّاً أو خارجيّاً. وأوضح مطهري، أنّ سياسة توسيع النفوذ بالمنطقة، عبر التشيع، ليست بالنهج السليم. واتباع طهران لهذه السياسة، أدى إلى تقرّب دول مثل المملكة السعودية، والإمارات من إسرائيل. ويجب علينا إعادة النظر في سياستنا الخارجية، وتقوية علاقاتنا مع باقي الدول العربية والإسلامية.

فُرِضَ على إيران تبنّي سياسةِ واقعيّة مع الجوار هو الانكماشُ الاقتصاديّ نتيجةَ العقوباتِ المفروضةِ وأنّها بحاجةِ لسياسةِ أكثر مرونة لتمرير مشروعها النوويّ، كما أنّ التنوعَ العرقيّ والدينيّ بإيران يجعلها أكثر عرضة لعوامل التأثير الخارجيّ، وتشهدُ شوارع المدن الإيرانيّة من وقتٍ لآخر تظاهراتِ رفضٍ لسياسات الحكومة الاقتصاديّة، فضلاً عن التكلفةِ الباهظةِ لسياسةِ التدخّلِ الخارجيّ على المستوى الإقليميّ.

رغم أنّ إيران تعتبرُ نفسها بعد الثورةِ نموذجاً لاعتباراتٍ كثيرةٍ، من خصوصيّةِ ثورتها ومواقفها الخارجيّة وعلى نموِ قدراتها العسكريّة والتصنيعِ العسكريّ وبرنامجها النوويّ، وهي مفرداتٌ تحاولُ من خلالها تقديم صورة التفوقِ والنجاحِ. إلا أنّ تجربةَ التدخلِ الخارجيّ وإسقاط واشنطن لحكومةِ مصدق الوطنيّة ورفض الإملاءات الخارجيّة مازالت حاضرة في الذاكرةِ الإيرانيّة، ولعلها حاولتِ الاتكاءَ على تحالفها مع روسيا والانفتاح على الصين والدول الأوروبيّة واستيعاب السياسة التركيّةِ لمواجهةِ تداعياتِ الحصارِ الاقتصاديّ.

مستقبلُ العلاقاتِ الإيرانيّة-التركيّة تعاونٌ أم صراعٌ؟

إيران وتركيا دولتان متجاورتان، للجغرافيا كلمتها في ترتيبِ العلاقةَ بينهما على مرَّ التاريخِ، وتؤثّرُ التكويناتُ العرقيّةُ على تقاليدِ السكانِ وعاداتهم في البلدين، ويتبادلان تأثيرَ اختلافِ المذاهبِ الدينيّةِ في البلدين. وتتميّز العلاقات التركيّة-الإيرانيّة بأنّها ليست صراعاً حدوديّاً أو جغرافيّاً.

تُعتبر الدولتان قوتين سياسيّتين وازنتين، ولكلّ منهما مشروعٌ إقليميٌّ طموحٌ، مضمونه التمدّدُ وفرضُ المكانةِ بالمنطقةِ سعياً لدورٍ مؤثرٍ بالسياسةِ العالميّةِ، ويُتوقعُ استمرارُ التنافسِ بينهما في كثيرٍ من الملفاتِ والقضايا نتيجةَ لتضاربِ المصالحِ، ولكن مع استبعادِ احتمالِ الصراعِ المسلّحِ. ويعتمدُ المشروعين التركيّ والإيرانيّ على معطياتِ التاريخِ ومقوماتِ الجغرافيا السياسيّة والمضمون المذهبيّ.

موقعُ تركيا يمنحها أهميّة على الخارطةِ الجيوسياسيّة؛ فهي دولةُ آسيويّةٌ وأوروبيّةٌ، قريبةٌ من القارةِ الأفريقيّةِ، ولذلك تحرّكت تركيا تاريخيّاً على أساسِ أنّها دولةٌ مركزيّةٌ محوريّة، وليست مجردَ جسرٍ أو دولةٍ عاديةٍ تقعُ على الحدِّ الفاصلِ بين العالمِ الإسلاميّ والغربيّ.

بالمقابل فإنّ موقعُ إيران يشكّل حلقةُ وصلٍ بين مناطق إنتاج الطاقة (الخليج ووسطُ آسيا)، وهذا عدا الأهميّة بسببِ احتياطيّ الثرواتِ (النفط والغاز) والتنوع العرقيّ والمذهبيّ.

من الواضح حالة التنافس الإيرانيّ-التركيّ، ولعلَّ إيران سبقت تركيا بالتمدّدِ لأسبابٍ منها: انكفاءُ الدورِ التركيّ قبل وصولِ حزب العدالة والتنمية للحكمِ، واستراتيجيّة إيران الهادئة بالتغلغل بالمنطقةِ عبر وكلائها وحلفائها السياسيّين بالعراق ولبنان وسوريا اليمن، وعدم وجودِ قيادة إقليميّة مؤثّرة. ولكن تركيا اليوم تتبنّى مشروعاً سياسيّاً ينطوي على التقدّمِ بالمنطقةِ وتغييرِ بالسلوكِ الخارجيّ، والتوجّه إلى بناءِ تحالفٍ إقليميّ جديدٍ يصفه البعضُ بالمحورِ السنيّ المقابل لإيران، وهو الدور الاستراتيجيّ الموكَل لأنقرة وعلى أساسه تُحتملُ العربدةُ التركيّة بالمنطقة.

رغم حالةِ الاحتقانِ الإقليميّ المتبادل والتنافر، لم تتجه العلاقاتُ الإيرانيّة-التركيّة باتجاه الصدام بعد التدخل المباشر في سوريا، كما هي الحال مع السعوديّة، إثر قيادتها لتحالفِ عاصفةِ الحزمِ باليمن، والذي يهدفُ لتقويضِ الدورِ الإيرانيّ الإقليميّ، الأمرُ الذي يحظى بتأييدِ تركيا، ويفسّرُ ذلك بتوافقاتِ الضرورةِ والتعاونِ الاقتصاديّ في مجالِ الطاقة، فالسوقُ التركيّ تعتمدُ على مصادرِ الطاقةِ الطبيعيّةِ الإيرانيّةِ، وهي متنفسُ الاقتصادُ الإيرانيّ الذي فُرضت عليه العقوباتُ، إضافة للتداخلِ الكبيرِ بين البلدين في عدّةِ مجالات، وبصورةٍ أساسيّةٍ فيما يتعلق بالتكوينِ الثقافيّ، كما تلعب موسكو دوراً مهماً بالتنسيق بينهما عبر منصة أستانه.

وإذ ليس من خيار بديل إلا التصعيد، فالبلدان يتجنبان ذلك، ولذلك سيتم استيعاب التنافس ضمن إطار التعاون، ولا يُتوقع ضمن المدى المنظور تحوّل العلاقة إلى صدام، ولو نشأ تحالف إقليميّ (سُنيّ) جديد تكون تركيا عضواً فيه.

الثورة الإيرانيّة والإخوان.. الحماس والفتور

شكّل انتصار الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة علامة بارزة لإعادة المشروع الإسلاميّ السياسيّ للواجهة من جديد. وكانت حدثاً استحضر معه التاريخ الإسلاميّ بتفاصيله الفقهيّة والاجتماعيّة، وجرَّ معه مشروع الإسلام السياسيّ الذي تأسست معالمه بتأسيس الإخوان المسلمين عام 1929، رداً على إعلان أتاتورك انتهاء الخلافة الإسلاميّة عام 1924.

شكّلت الثورة علامة بارزة في علاقة الإخوان المسلمين بالدولة الدينيّة، حليفة الأمس وصديقة النضال بمشروع الدولة الإسلاميّة، فاندفع تنظيم الإخوان المسلمين يؤيّد الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، وتمجيد قائدها الخمينيّ عبر التصريحات، وزيارة وفد الإخوان لإيران؛ لمباركة الثورة وتوثيق العلاقة مع قياداتها. وترأس الوفد عبد الرحمن خليفة، المراقب العام للإخوان بالأردن، وكان وقتها نائب المرشد العام.

كتبت مجلة الإخوان “الدعوة”، في صفحتها الأولى بعد شهر واحد من انتصار الثورة، عنواناً بارزاً “الخميني بين آمال المسلمين ومؤامرات الصليبيّة والشيوعيّة” وعكست الأخبار والتصريحات تأييد أفرع الإخوان للثورة الإسلاميّة بالدول العربيّة وخرجت مظاهرات التأييد، وسافر الدكتور حسن الترابي، مراقب الإخوان بالسودان سابقاً، إلى إيران والتقى بالخميني معلناً تأييده. وفي تونس كتب راشد الغنوشي في مجلة الحركة الإسلامية (المعرفة): إنّ الاتجاه الإسلاميّ الحديث “تبلور وأخذ شكلاً واضحاً على يد الإمام البنا والمودودي وقطب والخميني، ممثلي أهم الاتجاهات الإسلاميّة في الحركة الإسلاميّة المعاصرة” وقال: “سوف تكون الثورة الإيرانية نموذجا يهتدي به كل الأحرار في العالمين الإسلامي والنامي، وتصبح إيران قلعة للحرية ومركز الإشعاع الرسالي في العالم”.

كان التلاقي طبيعيّاً ومتوقعاً في ظل تشابه الأهداف وتطابقها بين الحركتين، وأما الاختلاف فسيتم تجاوزه بالعقلانيّة البراغماتيّة. فالدولة الفتية بحاجة لتأييد التنظيمات والأفراد خارج إيران لها، لتثبيت الاعتراف الشعبيّ لها ولمشروعها، وستزيد حاجتها للتأييد مع إعلان الخطوط العامة للدولة الإسلاميّة، وفق الدستور الإيرانيّ وليكونَ التوافقُ جسر العبور لتصدير الثورة الإسلاميّة. وستجد الحركاتُ الإسلاميّةُ الأخرى، ومن بينها تنظيم الإخوان الدولة الإسلاميّة الحليف التاريخيّ والداعم في صراعها مع الأنظمة الحاكمة في بلادهم. وبذلك تأسست جماعة الدعوة والإصلاح في إيران، والتي تمثل الإخوان المسلمين في إيران.

بقيت رغبة الإخوان المسلمين بالتقارب مع إيران مضطربة، فقد رحّبت بالثورة الإيرانيّة وسقوط الشاه، ولكنها شكّكت بالمنطلق الفكريّ للنظام في إيران. وتخوّفت من ارتباطات إيران مع الأقليات الشيعيّة والمجموعات السنيّة المتشددة، فالتيار السلفيّ كان له حضوره بالمشهد السياسيّ.

دعا الخميني لوحدة المسلمين، بالتوازي مع دعم جماعات شيعيّة في لبنان والعراق وأفغانستان والبحرين وباكستان. ولذلك لم يمنع إعجاب الجماعات السنيّة كالإخوان المسلمين وحماس بنجاح الخمينيّ، من رفضِ زعامته، في تأكيدٍ على الشكوكِ الطائفيّةِ.

يعود الفتور الذي أصاب العلاقة، لعدة عوامل متعددة، منها النزعة الشيعيّة الواضحة بالدستور الإيرانيّ، والحرب العراقية- الإيرانيّة، وموقف إيران من حرب حليفها السوريّ على إخوان سوريا، والبُعد السلفيّ الذي تبلور خلال سبعينيات القرن الماضي، وأثناء هجرة الإخوان للسعوديّة، وتحالفهم علناً مع النظام العراقيّ، العدو المشترك لإيران وسوريا، فقد وفّر نظام صدام حسين معسكرات تدريب لإخوان سوريا، ومنحهم غطاءً سياسيّاً، وأصدر جوازات سفر عراقية لهم، وقبلهم بالجامعات وخصص مزايا لأكثر من ألف عضو من إخوان سوريا.

يؤكد عبدالمنعم أبو الفتوح طبيعة تلك المرحلة والعوامل المؤثرة والأجواء التي عاشتها الحركة الإسلاميّة إبان الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة فيقول: “لكن كونها ثورة شيعيّة كان سبباً في الحدِّ من الانفتاح عليها، والتفكير في الاقتراب منها، والتأثر المباشر بها، كانت السلفيّة الوهابيّة حاضرة بقوة في تكويننا الفكريّ وقتها، فأقامت حاجزاً بيننا وبين هذه الثورة، وهو الحاجز الذي صار جداراً شاهقاً بسبب ما أحدثته هذه الثورة من خوف وهلع لدى الأنظمة العربيّة الحاكمة، التي فعلت الكثير للتخويف منها، خشية أن تقوم الدولة “الشيعيّة” الجديدة بتصدير الثورة إليها. وعلى الرغم من تأثرنا بالفكر السلفيّ ووقوعنا في دائرة الدعاية الرسمية المضادة، فقد استقبلنا الثورة الإسلامية في إيران بحماس شديد، واعتبرناها نصراً للمشروع الإسلاميّ، وأعلنا رفضنا للموقف الرسميّ المناهض لها.(26).

إيران والسعودية صراعٌ استراتيجيّ برداءٍ طائفيّ

لا يخفى التوتّر السنّي الشيعيّ بالدولِ العربيّة المتنوّعة طائفيّاً. وأضحى واضحاً بخروج توحّش الطائفيّة إلى العلن واستهدافها لمكونات المنطقة وتبنيها لإدارةِ التوحّش وعقيدة التكفير من خلال تنظيمات جهاديّة بأسماء مختلفة.

وإذ ليس بالإمكان اختزال الحرب ببعدٍ واحدٍ، إلا أنّ البعد المذهبيّ هو أحد العوامل المحرّضة للصراعات الدائرة بالشرق الأوسط. ويتوافق خط الصراع أو التنافس مع خط القسمة المذهبيّة داخل المجتمع في كلّ الدول غير المستقرّة. فالصراع الإيرانيّ السعوديّ لم يحوّل الحساسيّة السنّية الشيعيّة إلى مشكلة دينيّة واجتماعيّة وسياسيّة وحسب، بل إلى حروب أهليّة. وتماهتِ التوترات المذهبيّة مع الصراع الجيوبوليتيكيّ بين الدولتين، وارتبطت بمصالح دول من حيث النفوذ الخارجيّ وبمصائر دول من حيث النفوذ الداخليّ”. والمسألة ليست صراعاً فقهيّاً عمره 1400 سنة كما يعتقد البعض، بل هي أكثر تعقيداً. وثمّة محاولات لإسقاط الماضي على الحاضر وإخضاعه لخرافاتٍ يتمُّ فرضها على الوضع الحالي”. فالمذهبيّة أداةٌ تُستخدمُ في الصراع الاستراتيجيّ بين إيران والسعوديّة وليست سببها.

منذ انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، تحسّست السعوديّة من الوضع الجديد الذي أسفر عن تنافسٍ على زعامة العالم الإسلاميّ. لذلك بادرت دول الخليج لدعم صدام حسين في حربه ضد إيران على أساس أنّه يخوض حرب السنّة ضد إيران الشيعيّة، وأخذ الصراعُ ظاهراً مذهبيّاً. أي المواجهة بين المدّ السنّي التقليديّ والمدّ الشيعيّ الثوريّ. والنقطة الفاصلة في مَذْهَبةِ صراع الدولتين، كانت بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003. فقد وقعت بغداد تحت حكم حركات شيعيّة، وهذا ما لم يحدث منذ ما قبل السلطنة العثمانيّة. ما أدّى إلى تغيّر التوازنات بالمنطقة العربيّة، وتسرّب القلق إلى دول الخليج”، خاصةً أنّ الإسلام السياسيّ الشيعيّ سيطر على العراق وأنشأ تحالفاً وثيقاً مع سوريا وتحوّل شيعة لبنان إلى لاعب أساسيّ.

بعد سقوط نظام صدّام حسين ارتبكت السعوديّة، وقررت الردّ بدعم التيارات السلفيّة أينما كان. ولعلها لعبت دوراً أمنيّاً في مرحلة الحرب الأهليّة العراقية التي بدأت عام 2006. إذ أرادت مواجهة النفوذ الشيعيّ بالمنطقة، فحرّرت الجهاديّة من القفص، فأربك الردّ السعوديّ إيران التي أرادتها لعبةً إسلاميّة (سنّي-شيعيّ) تكون فيها الوهابيّة أقليّة. وبالمقابل لم تخفِ السعوديّة دعمها للتيارات الدينيّة السلفيّة حول العالم، بل فاخرت به، ولكن لا توجد أدلة على دعمها للسلفيّة الجهاديّة التي تتصدّر المشهد الميدانيّ. وأما تحوّل بعض السلفيّات إلى جهاديّة، فيُبرّرُ بتطوّر الفكر الجهاديّ نفسه.

ولا يحتاج الاحتقان المذهبيّ تحريضاً سعوديّاً فهو موجودٌ سلفاً، وقد وصف الرئيس المصريّ الأسبق حسني مبارك الشيعة العراقيين “بغير الوطنيين” وحذّر ملك الأردن عبد الله الثاني من “الهلال الشيعيّ”. فالأدوات التي تستخدمها السعوديّة في الصراع تختلف عن الأدوات الإيرانيّة. فالسعودية تدعمُ الحكوماتِ وتحاولُ تغييرَ الاتجاهاتِ السياسيّة لبعضها، ولا تدعمُ حزباً معيّناً بل تياراتٍ واضحةً. فيما تستثمر إيران في البيئاتِ الشيعيّة، ولعبت إيران على هذه النقطة وعلى مظلوميّة الشيعة لتجييشهم واستثمار ذلك في بُنى عسكريّة. ولا يُتوقع أن يهدأ الصراعَ السنّيّ الشيعيّ مالم تنوصل إيران والسعوديّة إلى ترسيم لجغرافيا نفوذ كلّ منهما.

وتتضح مواقف البلدين في سياق ما يُسمّى بالربيع العربيّ فالسعودية شعرت بالخطر من زيادة نفوذ إيران بالعراق وسوريا ولبنان واليمن، وتُعتبر سوريا الحلبة الرئيسيّة، حيث تدعم إيران النظام القائم، فيما تؤيّد السعودية بشكل أو بآخر المعارضة المسلحة. ولا يبدو أنّ هناك حلاً في الأفق لهذا الصراع الذي أصبح ضمن صراع عالميّ أكبر بين ورثة المعسكر الشرقيّ والمعسكر الغربيّ.

ورداً على تصريحات مندوب النظام السعوديّ باللجنة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة في 18/11/2017 قال مستشار إيران في منظمة الأمم المتحدة محمد حسني نجاد بيركوهي: إنّه “لا يمكن تجاهل الخطر المسموم المتمثل بالأيديولوجيا التكفيريّة النابعة من السعوديّة”. وأضاف: إنّ “الأيديولوجيا التكفيريّة التي نشأت في السعوديّة تحاول القضاء على كلّ الأيديولوجيات الأخرى وأنّ الحكومة السعوديّة والمؤسسات العاملة تحت عنوان مؤسسات خيريّة والمنظمات المدعومة من قبل السعوديّة ما زالت داعمة لهذا السم القاتل الذي يوفّر المعدات والبرمجيات للإرهابِ والتطرفِ”.

مناطقُ التمدّدِ الإيرانيّ

مدّت إيران نفوذها في عدد من مناطق النزاع بالعالم العربيّ، في ستغلةًالسنيّ في694 هـ/ 1295م.ظروف الحروب الأهليّة والأزمات الداخليّة. وبدأت أولاً من لبنان، فقامت خلال الحرب الأهليّة بدعم التنظيمات الشيعيّة، خاصة حركة أمل، وأنشأت حزب الله، ما مكّنها من استمرار الوجود إيران فيما بعد الحرب. وتكرّر المشهد ذاته في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، حيث استفادت إيران من الحضور القوي للمكوّن الشيعيّ لدعم أحزاب وحركات أضحت اليوم رئيسيّة بالمشهد العراقيّ. والأمر ذاته جرى في اليمن، حيث تتهم إيران على نطاق واسع بدعم الحركة الحوثيّة، رغم نفي طهران لذلك.

التدخل العسكريّ بالميدان السوريّ هو دورٍ إيرانيّ بالسنوات الأخيرة، فتغيير النظام في سوريا يعني انكفاء إيران إقليمياً، ولذلك لا يقوم الرابط بين طهران ودمشق على المذهبيّة الدينيّة، بل يتجاوزه لتحالفٍ مع روسيا، ثم تفاهماتٍ واسعةٍ لاستيعابِ تركيا.

في النموذج البحرينيّ وفي ظل النزاع الذي يحيطها، تحضُرُ إيران بتأثيرات ثورتها الخمينيّة، والسعوديّة بمدّها السلفيّ الوهّابي، والعراق بحروبه الطائفيّة، وحتى الهند وباكستان أيضاً. وكلها ممثّلة بالتركيبة السكانيّة البحرينية. فالمسرح البحرينيّ غنيٌ بمفرداته المذهبيّة وتداخل المشكلة المذهبيّة بالعواملِ الإقليميّة والخارجيّة.

وفضلاً عن تبنّي سياسة تصدير الثورة فالتدخّلُ الإيرانيّ بدولِ الجوارِ يأتي في إطار توجّسِ إيران من المخاطر والتهديدات الأمريكيّة والإسرائيليّة، وتبرر تدخلاتها الإقليميّة بمسوغات دفاعيّة ووقائيّة. وجاء التحوّل في التدخّل الإيرانيّ بالمنطقة نتيجة الاحتلال الأمريكيّ للعراق، حيث كانت إيران المستفيد الأكبر. فالولايات المتحدة دمّرتِ العراقَ ما فتح المجالَ لتدخلِها، ومن خلال البوابة العراقيّة تواصل النفوذُ الإيرانيّ إلى سوريا وترسّخ وتعزّز في لبنان عبر حزب الله.

صراعٌ سياسيّ وجدلٌ عقائديّ

رغم أنّ أصلَ الخلافِ، ومن ثم الصراعِ كان سياسيّاً في صدرِ الإسلام، ولكنّه خلقتِ البيئةَ لظهورِ مذاهبَ عقائديّة، يُبرر بها الصدامُ الإسلاميّ، وهي حروبٌ ظاهرها الدين والمذهب وباطنها السياسة والمصالح.

فقد هجعَ النزاعُ السنّيُ الشيعيُّ للكمون لعقودٍ في مستوى الحياة العامة، وكأنّه آلَ للنسيانِ، فاقتصرتِ المضامينُ الثقافيّةُ على الأطرِ الضيّقة، وانحسرتِ النزاعاتُ بشكلٍ ملحوظ، ومع التحريضِ انفلتَ التاريخُ من عِقاله فلا يمين أو يسار، ولا تطرّف أو اعتدال، ولا موالاة للغرب ومعارضة له، فكلّ تلك التصانيف الحداثيّة وشبه الحداثيّة، الاستراتيجية الطابع وشبه الاستراتيجية، تختفي لصالحِ التاريخ في اللحظات الحاسمة ويبقى العنوان الأساس السنّة والشيعة.

الحالة المذهبيّة كحالة سكونيّة ثابتة غير متغيرة، فيما الحديثُ الأهم في ملفِ الصراعِ السنّيّ الشيعيّ هو حالاتُ التبشير المذهبيّ الممنهجِ أو المخطط لها، لتكونَ القضيةَ الأكثر تفجّراً، وتُرفدَ المكتبةَ الإسلاميّة بعشراتِ الكتب والأدبيات ويزخرُ الإعلامُ بالخطابِ التحريضيّ والخوضِ في القضايا الشائكة فيما الدعوات للحوارِ شكليّة ولمجرّدِ الدعايةِ الإعلاميّة.

ما يتمّ تداوله في الساحةِ الفكريّة يصبُّ في ميدانِ الجدلِ العقائديّ، ولم تُتناولُ القضيةُ بمسؤوليّة في اتساعها الذي يتجاوزُ الحدودَ رغم أهميتها. ولتتحوّل دولٌ إلى ميادين حربٍ دمويّة عناوينها طائفيّة بامتياز، والمطلوب إعادة نظرٍ إجماليّة في التاريخِ والتوقّفِ عن الصراعِ على ذمته.

اختلافاتٌ ضمن المذهبِ الواحدِ في سوريا

في الوقتِ الذي يسترعي الصدامُ المذهبيّ السنيّ-الشيعيّ الاهتمامَ، وتحوّلت سوريا إلى عقدةِ المنشارِ، فإنّ ثمّة صراعاً آخر بالمنطقة بين أبناء المذهب الواحد (سنيّ-سنيّ) لا يحظى بالانتباه، فالمحورُ السنيّ يغلبُ عليه التشتتُ والتنافسُ، وحتى الاحتراب الداخليّ، بعدما أضحت سوريا ميدان تصفيةِ الحسابات، فحرب الوكالة هي إحدى تجلياتِ النزاعِ السنيّ نفسه الذي تختلف مرجعياته السياسيّة. ومن حقائق التاريخ أنَّ الانتماءَ للمذهبِ السنيّ لم يمنعِ الصراعَ على السلطةِ بين السنة أنفسهم.

كانت معطيات المرحلة التي سبقتِ التدخلَ الروسيّ تؤكّد أنّ النظام في سوريا دخل مرحلةً حرجةً جداً، وإذا كان الدعمُ الخارجيّ قد غيّر معطيات الميدان، إلا أنّ جانباً مهماً من التغيير يعودُ للتنافسِ بين أطرافِ المعارضة نفسها فانقسمت على المستويين العسكريّ والسياسيّ. ولكن هذه المعارضة ظلت رهينة الشعارات المذهبيّة ولم تتفهم تغير المزاج الدوليّ، وتحوّلت إلى أداة بيد الدول الإقليميّة وخاصة تركيا تنفذ إرادتها. ولم يتوقف الخلاف عند الانقسام بل تعداه إلى اقتتال داخليّ عكس تصفية حسابات بين الداعمين المختلفين.

أكّد الصراعُ في سوريا أنّ التناقضاتِ ضمن المذهبِ الواحدِ أعمقُ من التناقضِ الطائفيّ المفترض، ولئن دفع السوريون من دمائهم ثمنَ تلك التناقضاتِ فذلك بسبب تحوّلِ سوريا لساحةٍ مفتوحة لتدخّل اللاعبين الإقليميين الكبار، ومن السطحيّةِ الاعتقادُ أنَّ وحدةِ المذهبِ تذيبُ الخلافَ حول المصالح السياسيّة. وما حصل لم يكن الخيارَ الوحيدَ المتاح، وكان بوسع الدول المتنافسة على تركة إيران في سوريا الموازنة بين أولوية الانتهاء من النفوذ الإيرانيّ ووراثته تالياً، إلا أنّ قصر النظر السياسيّ، هو ما سيخفض مكاسب الجميع.

ليس من المتوقع مع هذا الحجم من التدخل الخارجيّ أن تخرج أيّ من الأطراف الإقليميّة بكلِّ شعاراتها المذهبيّة منتصراً في الحرب السوريّة، بل الإبقاء على حالةِ التنافسِ، فمن غير المسموح تظهير طرفٍ قوي بالمنطقة، بل الـأكيد على العجز الإقليميّ والحاجة لدور دوليّ يضبط التوازن، هذا الدور تلعبه موسكو وواشنطن، ولذلك تُنتظر صيغة توافقٍ روسيّ –أمريكيّ لحلّ الأزمة.

تظهير الشيعة يعني المصادقة على الدور الإيرانيّ، وتقدم الوهابيّة يعني أرجحيّة للسعودية، فيما تصبح سوريا منحة مجانية لتركيا مع فوزِ الإخوان المسلمين.

كان انقلابُ عبد الفتاحِ السيسي بمصر سببَ تأزّمِ العلاقاتِ الخليجيّة، وتراجعِ علاقةِ السعوديّة بتركيا والتي كانت بالأساس مضطربةً، إلا أنّهما اتفقا على حسابِ سوريا. فتركيا كانت أكثر قدرةً على التدخل في سوريا بسببِ القُربِ الجغرافيّ من الشمال فيما تولّتِ السعودية دورَ التمويلِ والدعمِ واقتصر تدخلها عبر الأردن، إلا أنّ دمشق استعادت السيطرةَ على معبرِ نصيب مع الأردن بعد توافقٍ دوليّ، وهذا عدا الدور الأمريكيّ ووجوده في التنف بعمق الباديةِ.  ولعلّ النكاية السياسيّة كانتِ السببَ المباشرَ للتواجدِ العسكريّ التركيّ في قطر على خلفيّةِ الأزمةِ الخليجيّة، وتُبدي قطر وتركيا مزيداً من التقاربِ والتوافق في ليبيا أيضاً. وفيما تتفقُ الإماراتُ مع السعودية في إطارِ عاصفة الحزم إلا أنهّا انفردت بمبادرةِ فتحِ سفارتِها بدمشق. ومذهبيّاً ُتنفتحُ دولُ الخليج السُّنيّة على واشنطن، لتلعبَ على هذا الوتر عبر شيطنة إيران، وتُعقدُ صفقاتُ السلاحِ الضخمة.

بالمحصلة لا مصلحة للسوريين بالانضواء تحت عناوين مذهبيّة، ليكونوا أدوات تصفيةِ الخلافاتِ العالقة بملفاتِ خلافيّة على أرضهم بمزاعمِ الاعتدالِ والتطرّفِ الإسلاميين. والحِلفُ السنيّ الذي تداولوه لن يخدمَ الحلَّ السياسيّ في سوريا، وأيُّ عنوانٍ مذهبيّ ينطوي على اجتزاءِ حقائقِ التاريخِ والجغرافيا وتدويرِ أسباب الأزمة.

لا يكفي الخلافُ الدينيّ والمذهبيّ سبباً لتفسيرِ الأزماتِ التي تعيشُها مجتمعاتُ المنطقة، فلا التحالفُ الذي يدعمُ النظامَ السوريّ ولا الذي يعارضه يجمعه عامل التوافق الدينيّ والمذهبيّ، ولا تراعي الاختلافات خطوطِ التقسيم السياسيّ القائمة أو تلك يتمُّ العملُ على إضافتها، والصحيحُ أنّ العناصرَ المذهبيّة كانت أدوات الصراعِ وضحاياه.

يمكن استيعابُ كلّ الاختلافات باعتبارها مصادر للغنى الثقافيّ وعلى أنّها خصوصيّة ثقافيّة فكريّة تندرجُ في إطار حريّةِ المعتقدِ مالم تؤدِ للصراعِ المسلح وإلغاء الآخر. من هذه الزاوية ينظر إلى خطورة الدور التركيّ وتطييف الأزمة السوريّة، وتقاعس الجهد الدوليّ والتورط الإقليميّ وتقاطعات خطوط الغاز والمصالح الاقتصاديّة وتناقضها لتُستكملَ لوحةُ الحربِ السوريّة على حسابِ ألمِ السوريين ومعاناتِهم، وليبقى الحلُّ الديمقراطيُّ السبيلَ الأوحد لتجاوزِ عقد الماضي وعوائق الحاضر ويفتح آفاق الحوار ويضمن العيش المشترك.

المراجع:

1ــ وعاظ السلاطين- علي الورديّ.

2ــ الكامل في التاريخ -ابن الأثير

3ــ تاريخ الدولة العباسيّة- نبيلة حسن محمد.

4ــ معجم البلدان – ياقوت الحمويّ.

5ــ تاريخ الزنكيين في العراق وبلاد الشام- د. محمد سهيل قطّوش

6ــ “مقاتل الطالبيين – أبو الفرج الأصفهانيّ

7ــ تاريخ الرسل والملوك -ابنُ جرير الطبري.

8ــ الحياة الفكريّة والسياسيّة لأئمة آل البيت- رسول جعفريان.

9ــ سير الملوك أو سياست نامه – نظام الملك الطوسيّ وزير السلاجقة.

10ــ فضائح الباطنيّة –أبو حامد الغزاليّ.

11ــ تاريخ المغول العظام والإيليخانيين -محمد سهيل طقوش

12ــ تاريخ إيران بعد الإسلام -عباس إقبال أشتياني

13ــ الهجرة العامليّة إلى إيران في العصر الصفويّ- جعفر المهاجر.

14ــ تاريخ العرب من بداية الحروب الصليبيّة إلى نهاية الدولة العثمانيّة- عيسى الحسن.

15ــ وعاظ السلاطين -علي الوردي.

16ــ التشيّع العلويّ والتشيع الصفويّ -علي شريعتي

17ــ نشوء وسقوط الدولة الصفويّة – كمال السيد.

18ــ تاريخ إيران بعد الإسلام -عباس إقبال.

19ــ تاريخ الدولة الصفويّة في إيران- محمد سهيل طقوش.

20ــ تاريخ إيران بعد الإسلام -عباس إقبال.

21ــ تاريخ الدولة الصفويّة في إيران – محمد سهيل طقوش.

22ــ الفقيه والسلطان – المؤرخ اللبنانيّ وجيه كوثراني.

23ــ المشهد الثقافيّ الشيعيّ في العصر الصفويّ -علي أكبر ذاكريّ.

24ــ تاريخ إيران بعد الإسلام -عباس إقبال.

25ــ التشيّع العلويّ والتشيع الصفويّ -علي شريعتي.

26ــ شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر- عبدالمنعم أبو الفتوح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى