ليلان جمال
انتشرت في بلاد الرافدين الجنوبية عقائدُ غنطوسية معمّدة ذاتُ جذور سومرية وفارسية، مارستِ الغسلَ أو التطهّر كوسيلة لإنقاذ المرضى، كما كان الزيت الذي عرف باسم (زيت الحياة) عاملاً هاماً في جميع الطقوس.
فإذا كانت بلادُ الرافدين قد أنتجت الممارسات الدينية في إطارها الطقسي، فإن بلادَ فارسَ هي التي أعطت معنىً تأملياً وفلسفياً لهذه الطقوس بالذات، وواضح هذا في حالة المندعيين أو (المندائيين) وهي طائفة معمودية صغيرة مازال مؤيدوها وأتباعها خاصة في جنوب العراق، قرب البطاح المليئة بالمستنقعات الواقعة حول شط العرب (1) والمنطقة الجنوبية من إيران، وهم طائفة من القبائل الآرامية (مندا) اسمها هذا مشتق من الكلمة الآرامية و تعني المعرفة ويسمى أصحابها بالصابئيين أو المندعيين (2).
وهم موحدون يؤمنون بوجود الله الخالق، ومتفقون على صلوات، ويغتسلون من الجنابة ومن الميت وتقديس قوانين الحياة والخصب، ورمز الحياة عندهم (الماء الحي) أو الماء الجاري وهو الاغتسال في الماء والطهارة من النجاسات في الماء والتعميد في الماء (3).
و لسنا هنا في معرض العقيدة المندائية، بقدر إشارتنا إلى كونها ديانة رافدية تكوّنت من مزيج انصهار العقائد التي تلاقحت مع اليهودية والمسيحية إلى أن استقرّ بهم المقامُ في بغداد ثم في جنوب الرافدين (4).
وأشهر أنبيائهم النبي يحيى، أو يوحنا المعمدان الذي كان مقره في جبال ميديا ثم في حرانَ بكردستان (5)
وعلى الرغم من أنه يتبادرُ إلى الذهن في أول وهلة ما يتعلق بالتعميد أنه طقسٌ مسيحي ويمارَس في الديانة الإيزيدية، إلا أنه يتوافق بشكل محكم مع الطقوس الفارسية وأفكارها الميثولوجية، كطقس التعميد بالنار أو الماء وعبور الجسر الذي يسمّى الصراط على الرغم من أن هذه الظاهرة لم تتعرض للبحث والدراسة والتحليل بشكل كاف، ولم يتم سبرها بشكل دقيق، إنما تشير بوضوح إلى بعض الآثار الفارسية كما هو الحال في طقس قدّاس الموتى (6).
لقد عمّتِ المؤثراتُ الزردشتية وبعضُ عقائدها آسيا الصغرى وسوريا ومصر, بل وصلا حتى حدود اليونان في الفترة الأخمينية، إلا أنه أصابها بعض الجزر في زمن الدولة الأشكانية، الأمر الذي هيّأ الظرفَ للمسيحية أن تطلَّ برأسها.
لكن سرعانَ ما برزتِ الزردشتيةُ مُجددة لذاتها ومنتشرة في عهد الدولة الساسانية بعهد شابور وبهرام الأول، وبرز هذا التجددُ بشكل جلي في تقديس الربان وميثرا وأناهيد، واستقبال إله جديد عُرف بالزروان أو الزروانية (7).
لقد دخلتِ الآلهةُ المذكورة الدينَ الزردشتي ولاقت التأييد في مناطق الرافدين العليا و ما وراء الهضبة الإيرانية.
لأنّ الطقوسَ الميثرائية كانت معروفةً سابقاً في هذه المناطق، بل مورست في بعض مناطق الجنوب من الرافدين مثل دورا وأوروك، كما مورست في مدينة الحضر التي عرفنا طقوسها من خلال التنقيبات والتي سيرد ذكرها لاحقاً.
و حسب الأستاذ الدكتور زكار فإنّ تبجيلَ وتقديس ميثرا شمل أرمينيا وبلاد فارس وكردستان، والإمبراطورية الميدية والتي كانت تُعتبر من المراكز الأساسية لعبادته، وتركزت فيها السلطة الدينية العليا، فهناك نعمَ ميثرا بمنزلة سامية في التفسير الزرواني، ولاقى قبولاً لدى طائفة الكهنوت المجوسية التي وجدت في الإله زروان إلهاً أكبر للزمان وممجداً جداً لتدخله في الشؤون البشرية، بل صار في الزردشتية المجددة أباً لأهورا مزدا الذي لا يكلّ من محاربة أهريمان في الصراع المحتدم بين الإلهين الأخيرين، وفي ساعة الحسم وقف ميثرا بينهما موقفَ الوسط القادر على الخير والشر، أما أناهيد فقد ظلت رمزاً للخصب والأمومة (8) وفي الوقت الذي كانت الزردشتية في أوج حالات هضمها واستيعابها للعقائد المحلية أو الإقليمية، وفي زمن الدولة الساسانية عام 224م ظهر ماني بمذهبه والذي عدّه بعضُ المؤرخين منشقاً من العقائد الفارسية أو الزردشتية، واُتّهم في وقته بالهرطقة وأتباعه بالزندقة وقتل عام 274م.
لكن رغم ذلك انتشرت المانويةُ في مناطقَ واسعة حول البحر الأبيض المتوسط (9) وعلى أية حال فوالد ماني أمير فرثي عاش بكردستانَ في مدينة همذان عاصمة الإمبراطورية الميدية ثم انتقل إلى الرافدين الجنوبية وسطَ طائفة غنطوسية معمدانية هي في الأغلب الطائفة المندعية أو المندائية، تلقى المؤثرات الهامة والحاسمة بالنسبة لمستقبله (10) لذا جاء دينه أو مذهبه مزيجاً توفيقياً من المسيحية والزرادشتية مع بعض المؤثرات الفلسفية الرافدية القديمة، متخذاً شكلاً جديداً أو إطاراً ظاهرياً يشابه العقيدة المعمدانية، وهكذا اعتادت كلٌّ من المسيحية والزردشتية على نوع ونكهة جديدة من التقوى الرافدية (11).
ومن أجل ذلك عُدَّ منشقاً من الزردشتية أو مهرطقاً بالنسبة للمسيحية (12)
لقد اعترفَ ماني بقيمة الديانات التي سبقته، لكنه اعتبرها مؤقتة وغيرَ كاملة، لذلك كان مشروعه يقوم على صياغة ديانة شمولية تحتوي جميع الأفكار والمعتقدات وتتجاوزها في تركيب جديد قادر على ضمّ الجميع إلى عقيدة موحدة، وبالتالي السعي إلى توحيد العالم بأسره تحت راية دينية واحدة (13).
لقد كتب ماني مؤلفاته بنفسه على عكس عيسى وبوذا وزردشت الذين دوِّنت تعاليمهم فيما بعد وبيد حلفائهم، حمل أتباعُ ماني هذه المؤلفات والتعاليم وبشّروا بها، وهم متأهبين للدخول في صراع مميت مع أكبر ديانتين شموليتين إحداهما شائخة ونعني بها الزردشتية التي كانت في سعي مستمرٍ لتجديد نفسها من خلال حركة إحياء شاملة، والأخرى هي المسيحيةُ التي كانت تشقُّ لنفسها طريقاً صاعداً بإصرارٍ نحو روما (14).
وقد تلقتِ المانويةُ من الزردشتية أولى ضرباتها القاسية، في البلاط الساساني زمن الملك بهرام خليفة شابور بتدبيرٍ من كهنة الزردشتيين “كرتير”، حوكم وقضي عليه كما نوهت، والضربة الثانية عندما اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية وأعلنها ديناً رسمياً للدولة، وما تبع ذلك من ملاحقة واضطهاد للمانويين على يد كل من الديانتين المذكورتين، أما الضربة الثالثة فجاءت من الديانة الشمولية الجديدة الإسلام خاصة في فترة الخلافة العباسية في بغداد الذين استأصلوا المانوية من إيران وعموم الشرق (15).
لسنا هنا بصدد سرد التاريخ السياسي الإسلامي في بلاد الرافدين، فهذا معروفٌ بشكل عام، لكنّ المهمَ بيانُ موقف الإسلام من هذه المعتقدات والأديان وأتباعها في بلاد الرافدين، وعلى أية حال فقد كان الإسلامُ هو دينُ الفاتحين الذين ساووا عملياً بين الأمم والنِحل، ولم يمارس الفاتحون أيّة عملية ضغطٍ على أصحاب الأديان السماوية لاعتناق الدين الإسلامي، ولم يسجل التاريخُ عنفاً ذا طابع منظم سوى ما ذُكر عن عمرَ بن الخطاب الذي أمر بهدم معابد النار أو بيوت العبادة الخاصة وإزالتها واستباحة سبي النساء وملاحقة معتنقي الأفستا ورقوقها وإتلافها لأنها تخالف ما جاء في كلام الله، وهي رواية تفتقر إلى التواتر بل بالعكس وجدنا بعض الحكام المسلمين كانوا ينشطون عمداً هداية غير المسلمين لأسباب مالية بحتة لأنّ إشهارَ الإسلام يُسقط الجزيةَ عن المسلم. (16).
إلا أن الإسلامَ كان صارماً في قمع الحركات المناهضة ذات الأبعاد الدينية – السياسية كحركات بابك الخرمي والمقنّع الخرساني الذي اّدعى الربوبية عن طريق التناسخ مّدعياً أن اللهَ تحوّل إلى صورة آدم ثم نوح ثم الأنبياء واحداً بعد الآخر وصولاً إلى أبي مسلم الخرساني، ومنه انتقلت إلى المقنع الخرساني والذي سُمي بالمقنع لوضعه قناعاً من الذهب على وجهه ( 17 ) كما كان الإسلام صارماً في معاملة المرتد أو ( التقيه ).
مثلما كانت الدولة الزردشتية صارمة في معاملة الزردشتي المتحول إلى الديانة المسيحية. فالمعتصم الخليفة العباسي مثلاً لم يتردد في إنزال عقوبة الحدّ الشرعي بقائد جيوشه محمد الافشين الأشروسي، عندما ثبت بالشهادة والإقرار أن الافشين كان يحتفظ بالافستا في منزله وأنّ اتباعه كان ينادونه ( بالبغبغاء ) وهو ما يخاطب به ملوك الفرس وكان سليلهم ( 18 ).
قيل كثيراً إن الإسلامَ ساوى بين الجميع في المعاملة أيام الغزو الذي اعتبروه بالفتح في العصور الأولى التي تلته، إلا أنه نظر إلى غير المسلمين من اليهود والنصارى والصابئة والأيزيديين والمجوس على اختلاف عقائدهم بأنهم مواطنون من الدرجة العاشرة من حيث الحقوق والواجبات، لقد فرض على هؤلاء شكلاً معيناً في حلاقة الرأس أي أن تجتزّ نواحيهم وأن يربطوا الزنار في وسطهم ليعرف زيهم من زي المسلمين ( 19 )، حيث فرضت عليهم ضريبة الجزية، كما حرموا من الكثير من الامتيازات التي تتعلق بالإدارة والجيش عدا حالات نادرة لا يمكن أن تعمَّم، لقد أخذت من جميع الأديان غير السماوية ومن الزردشتيين أيضاً.
فقد ورد عن ابن سلاّم على لسان عمر بن الخطاب ( ما أدري ما أصنع بالمجوس، ليسوا أهل كتاب ( 20 )
فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله يقول سنوا بهم أهل الكتاب ( 21 ) لا ندري درجة الدقة وصحة القول.
علماً أن الآية القرآنية تقول : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة، إن اللهَ على كل شيء شهيد ( 22 )، بمعنى أن الزردشتيين أهلُ كتاب، ولا ندري لماذا كان الخليفة متردداً بشأنهم، وربما لأسباب سياسية تتعلق بتثبيت أركان الدولة الإسلامية، علماً أن الخليفة عمر نفسه لم يأخذ الجزية التي حاول فرضها على بني تغلب الذين كانوا على دين النصرانية، واتفق معهم على أن يدفعوا العُشر مضاعفاً ( 23 ) كما مُنعت الصدقاتُ على كل هؤلاء من اليهود والنصارى وغيرهم ( 24 ) وكان هذا نوعاً من التضييق الاجتماعي الذي دفع بكل هؤلاء إلى الانغلاق والانعزال والانكفاء على بعضهم البعض في أحياء ومدن يمارسون طقوسهم ومحافظين على دينهم، كما اُعتبرت أراضيهم ومزارعهم والتي لم تفتح عنوة والتي بقيت في أيديهم، معرضة لدفع ضريبة الخراج وهذا حسب القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، فعله أو سنه عمر في أرض الأعاجم التي تركها في أيديهم ( 25 ).
على أية حال بقيت الكثير من المدن في بلاد الرافدين وبعض حواضرها على الديانات القديمة إثر صلحها مع الغزو العربي الإسلامي، ومع أمثال عياض بن غنم حسب البلاذري بقوله : ( فلما انصرف عياض بن غنم من خلاط وصار إلى الجزيرة بعث إلى شنكال ففتحها صلحاً وأسكنها قوماً من العرب ( 26 ) مما يعني أن أهل شنكال بقوا محافظين على عقائدهم السابقة، والأمر ذاته مع القائد الإسلامي في الموصل ونواحيها عتبة بن فرقد السلمي سنة / 20 / هجرية الذي غزا نينوى عنوة وخاصة القسم الشرقي، أما الجزء الغربي بقي على دينه لأنه تصالح وقبِل دفعَ الجزية كما سمح لمن لا يرضى بالرحيل أو الجلاء، كما سار إلى بقية المناطق الشمالية وصالح أهلها على الجزية مثل المرج وقراه و أرض باعذري مركز الإمارة الإيزيدية، وحبتون، و الحيانة وجميع معاقل الكرد حسب تعبير البلاذري ( 27 ) مما يعني أن خيارَ دفع الجزية دفعَ بأهالي بلاد الرافدين البقاءَ على عقائدهم القديمة من النصرانية أو اليهودية أو الزردشتية أو المثرائية أو حتى الإيزيدية التي هم من أقدم الأديان في ذلك الوقت، ولكن مع رسوخ الإسلام في معظم بلاد الرافدين في العصور التي تلت الفترة الراشدية.
وإثر التمتع بالامتيازات، خاصة بعد دخول السكان الإسلام، إضافة إلى أن الإسلام أصبح دينَ الدولة ومعاملة غير المسلمين معاملة مواطنين من الدرجة العاشرة، أصابت هذه الأديان والمعتقدات حالة من التراجع التي يمكن وصفها، الانتقال من حالة المد إلى حالة الجزر، بل استمرت حالة الجزر مع قوة وزخم الدين الجديد، ومبادئه وامتيازاته، فبقيت الأديان القديمة في حالة من الاستمرار في جزر منعزلة ومتناثرة في أحياء المدن أو في القرى البعيدة أو الجبلية محافظة على ما تبقى لها من دياناتها أو ذاتها في عموم شمال الرافدين كما هي الحالة عند النصارى أو اليهود أو المندائيين أو الإيزيديين معلنين أنهم غير بشريين من أجل البقاء وليعاملوا بشكل آخر في العصور التي تلت.
الهوامش والمصادر
- نغرين جيووايد – الأديان في الشرق ص 3
- الصابئة، عكلة الناشي طباعة بغداد 1983 ص 15
- غضبان الرومي الصابئة بين النهرين ص 25
- المرجع السابق نفسه ص 17
- نغرين جيووايد المرجع السابق ص 35
- الشهرستاني، مجلد الملل والنحل والجزء الأول للدكتور صلاح الدين الهواري طباعة بيروت 1998 ص 32
- نغرين جيووايد المرجع السابق ص 37
- المرجع السابق ص 115
- المرجع السابق ص 42
- المرجع السابق ص 45
- المرجع السابق نفسه ص 5
- الهرطقة: يعني الخروج على التعاليم المتبعة في الدين المسيحي
- كتاب دين الانسان للكاتب فراس سواح ص 13 صادر بدمشق عن دار علاء الدين.
- كتاب المصدر نفسه دين الإنسان ص 15-16
- المصدر نفسه دين الانسان ص 15
- نفس المصدر ص 19
- ابن خلقان وفيات الأعيان الجزء الثالث ص 23 طبعة بيروت 1998
- نفس المصدر ص 28
- الزنار خيط غليظ يشده غير المسلم فوق ثيابه
- ابن سلام كتاب الأحوال الجزء الأول ص 75 طباعة مصر 1958
- ابن سلام المرجع السابق الجزء الأول ص 45
- القرآن الكريم سورة الحج.
- ابن سلام نفس المصدر ص 39
- نفس المصدر الجزء 2 ص 82
- أبو يوسف كتاب الخراج ص 29 طباعة مصر المطبعة الأميرية
- البلاذري – فتوح البلدان القسم الثاني حققه عبد الله أنيس الطباع ص 24 طباعة بيروت 1957