ياسر شوحان
تعتبر الممتلكات الثقافية جزءاً من ذاكرة الأمة وتاريخها الثقافي، وتعد سلامتها مؤشراً لقدرتها على الاستمرارية والتواصل بين مختلف الأجيال، كما يمثل الاعتداء عليها جريمة في حق الإنسانية وانتزاعاً للهوية التاريخية للشعب الذي يمتلكها، بل ويتعدى الأمر في بعض الأحيان الاعتداء على خصوصية شعب ما إلى الاعتداء على الميراث الإنساني بشكل عام، فكثير من المواقع التاريخية والأثرية تتعدى أهميتها البعد المحلي حيث اعتُبر العديد منها جزءاً من الميراث الإنساني.
الاعتداء على المواقع الأثرية جريمة حرب:
لقد اعتبر مجلس الأمن تدمير التراث الثقافي جريمة حرب، إذ أصدر المجلس قراراً خاصاً بهذا (القرار رقم 2347) بعد أن تعرضت مواقع أثرية للنهب والتدمير من قبل الجماعات الإسلامية المتطرفة (تنظيم داعش) المتضمن إدانة المجلس لتدمير وتهريب الممتلكات الثقافية من المواقع الأثرية خلال النزاعات المسلحة وبخاصة من قبل الجماعات الإرهابية، ومن الجدير بالذكر أن هذا القرار لم يستهدف داعش والقاعدة أو الجماعات الإرهابية أو الإسلامية المتطرفة بل جميع الأطراف المشاركة في الأعمال القتالية حتى وإن كانت دول مستقلة، ولا ينحصر في الإرهابيين فقط، وعدم ترك المسؤولين عن هذه التجاوزات طليقين، بل دعوة من القرار على محاكمة المسؤولين.
ومما لا شك فيه أن اعتبار تدمير التراث الثقافي جريمة حرب يعكس في الوقت نفسه أهمية التراث الثقافي من أجل السلام والأمن، كما أن هذا التدمير أصبح وسيلة من وسائل الحرب التي تسعى إلى تدمير المجتمعات على المدى البعيد، وكل ذلك في استراتيجية متطرفة في التطهير الثقافي، ولهذا السبب فإن حماية التراث الثقافي لا تُعد مسألة ثقافية، بل هي ضرورة أمنية وجزءٌلا يتجزأ من ضرورة حماية الحياة البشرية والدفاع عنها في كل مكان.
ورغم كل ما حصل من تدمير للمواقع الأثرية ونهب محتوياتها إلا أن المجتمع الدولي يقف عاجزاً أمام هذه التعديات في عدم محاسبته للفاعلين، وكأنه شريك في الجرائم الإنسانية التي تقع على الإرث الحضاري، وكأنه أيضاً يوجه رسالة تفيد بأن تراث هذا الشعب على المحك.
الاعتداء على الآثار اعتداء على الذاكرة الإنسانية:
مما لا شك فيه أن الأعمال الإرهابية لا تحاول فقط تقويض المجتمعات والدول والبنية الديموغرافية، بل تسعى أيضاً للقضاء على ما شيدته الأمم والحضارات، وليس من الغريب المطالبة بحماية التراث الثقافي ومكافحة سرقة الممتلكات الثقافية والاتجار بها في زمن يتعرض فيه البشر لأخطار شتى جرّاء الحروب والنزاعات المسلحة المشتعلة في المنطقة، ولكن الممتلكات الثقافية لبلد ما ليست مجرد أحجار تُعرض في المتاحف ولا سلعة يتم تداولها في الأسواق العالمية، إنما هي تجسيد لتاريخه وهوية شعبه وثقافته وفقدانها بسبب السرقة والاتجار غير المشروع بها من الممكن أن يؤدي إلى تفكك المجتمعات أو عدم قدرتها على التطور والتعافي بعد الحروب، إنها باختصار ذاكرتنا وجذورنا.
لقد جرى إبرام اتفاقيات جنيف من أجل إضفاء الطابع الإنساني على السلوك غير الإنساني أثناء سير العمليات العسكرية بين الأطراف المتنازعة وتعزيزاً لمبادئ الإنسانية الراسخة في ضمير ووجدان البشر. وحماية الممتلكات الثقافية لا تنشد هدفاً مختلفاً عن ذلك أو أقل منه، فالممتلكات الثقافية تمثل جزءاً لا يتجزأ من الوجود البشري ومن الإنسان، لذلك تعد حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة حماية للبشر، وجزءاً تكميلياً لنظام الحماية الذي تأسست بموجبه اتفاقيات جنيف، في منظومة القانون الدولي الإنساني. إذ جاء في ديباجة اتفاقية لاهاي لعام 1954: “أن الأضرار التي تلحق بالممتلكات الثقافية التي يملكها أي شعب تمس التراث الثقافي الذي تملكه الإنسانية جمعاء، فكل شعب يساهم بنصيبه في الثقافة العالمية”. كما ورد أيضاً في المادة الأولى من اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح حيث نصت على: “الممتلكات الثقافية أو الثابتة ذات الأهمية الكبرى لتراث الشعوب الثقافي كالمباني المعمارية أو الفنية منها أو التاريخية، الدينية منها أو الدنيوية والأماكن الأثرية ومجموعات المباني التي تكتسب في تجمعها قيمة تاريخية أو فنية”.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن من خرق هذه المواثيق الدولية هي إما أفراد على صفة لصوص آثار أو تجمعات وتنظيمات خارجة على القانون أو متطرفة كالتنظيمات الإرهابية أو الإسلامية المتطرفة كداعش وغيرها، ويحدث كثيراً في العالم أجمع تعديات من قبل لصوص الآثار على المواقع التاريخية والأثرية، وقد يكون هذا التعدي من قبل الجماعات وارد في النزاعات المسلحة كونه لا يردعهم قانون أو ميثاق، لكن أن يكون هذا التعدي من قبل دولة كتركيا فهذا خرق صارخ وضرب بالمعاهدات الدولية عرض الحائط وخروج عليها، وفي الوقت نفسه يكون هذا التجاوز أكبر عندما نعلم أن هذه الدولة هي أحد الموقعين على البروتوكولات والمواثيق أو المعاهدات التي تتعهد بحماية الممتلكات الأثرية.
وإن كان هناك ذرائع واهية في عملية التعدي على المواقع الآثرية مثل داعش التي تتذرع بأن هذه الآثار هي عبارة عن تماثيل عائدة لفترات ما قبل الإسلام وأنها كانت تُعبد من دون الله وأنه من الواجب تحطيمها عملاً بما أوصى به الدين الحنيف على حد قولهم. فإن هذه الآثار ليست إلا بقايا تاريخية وأثرية في زمن رسوخ الأديان، فهنا من الواجب الحفاظ عليها لتكون أمثولة تاريخية ومنعكس فكري، وهنا أيضاً يتشابه أسلوب تعامل القوات التركية مع الآثار، وإلا لم هذا الاستهداف السافر بحق هذه الأوابد؟ إنه على الرغم من الاستهداف العنصري للقضاء على الآثار، فإنها أيضاً تسير على خطى التطرف الديني في التوجه والتدمير. وبناء على ذلك فإن المادة السادسة من بروتوكول لاهاي الثاني لعام 1999 قرر بأنه لا يجوز التذرع بالضرورة العسكرية القهرية للتخلي عن الالتزامات التي تقررها اتفاقية لاهاي لعام 1954، من أجل توجيه العمل العدائي ضد الممتلكات الثقافية، ما دامت تلك الممتلكات حُولت من وظيفتها إلى هدف عسكري، ولا يوجد بديل عملي لتحقيق ميزة عسكرية مماثلة للميزة التي يتيحها توجيه عمل عدائي ضد ذلك الهدف .
المواثيق الدولية في حماية الممتلكات الثقافية:
وكما عانى الإنسان الكثير من ويلات الحروب فقد عانت أيضاً الآثار وكل ما يخص التراث الإنساني الذي يُعد ذاكرة المكان وتاريخه الثقافي، وهنا يعمد المستعمر على الاعتداء على آثار الخصم من أجل طمس معالم حضارتهم وخصوصاً بعد تفاقم الحروب وما تخلفه من اعتداءات على المواقع الأثرية، إذ تشكل ظاهرة التعدي على المواقع الأثرية جريمة بحق الإنسانية، ولهذا فقد عمد المجتمع الدولي لوضع آليات تهدف إلى ضمان حماية الآثار والمواقع الأثرية عن طريق اتفاقيات دولية.
إن الحماية التقليدية للقانون الدولي الإنساني لم يعد كما كان عليه في القرن العشرين مقتصراً على حماية المدنيين، بل امتد ليكفل أيضاً حماية دولية للآثار وذلك ضمن مجموعة من الاتفاقيات أهمها ميثاق واشنطن 1935 واتفاقيات لاهاي 1954.
وفي عام 1964 صدر ميثاق البندقية “فينيسيا”، إذ يعتبر من أهم الوثائق المتعلقة بالحفاظ على المواقع الأثرية والنُصب التاريخية وترميمها، وكان من أهم نتائج هذا المؤتمر أنه اعتبر التراث شاهداً حياً على التقاليد الحضارية للشعوب، وإرثاً مشتركاً للإنسانية جمعاء، تلتزم متضامنة بالحفاظ عليه وصيانته وتبليغه بكامل عناصره وأصالته للأجيال المقبلة.
كما سعى مؤتمر “الحفاظ على التراث الثقافي المهدد بالخطر” والذي عُقد في الإمارات العربية المتحدة في عام 2016 مؤخراً لإنشاء صندوق دولي لحماية التراث الثقافي في مناطق الصراع قيمته / 100 / مئة مليون دولار . لكن ما هي جدوى في إنشاء هذا الصندوق وإجراءات الصيانة والحماية في زمن الصراع وفي وقت لم تضع الحرب أوزارها بعد ؟!. إذ أن من المفترض هو محاسبة الفاعلين بدايةً وإيقاف عملية التعدي وإبعاد أطراف الصراع عن المناطق التاريخية والمدنية، ثم يتلو ذلك أعمال الحماية فيها وإلزام الطرف المتعدي على عدم استمرار انتهاكاته .
آثارنا بين الدعشنة والتتريك:
إن أردنا حصر المواقع الأثرية التي تم تدميرها أو تخريبها أو نهبها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فالحديث يطول كثيراً وتُسكب العبرات خلاله، لكن أبرز ما قام به التنظيم في سوريا والعراق والذي يُعد صفعة لكل المواثيق الدولية التي لا يُأبه بها أصلاً هو تدمير موقع ماري الأثري في دير الزور وتفجير معبد بل في تدمر وهدم الأضرحة والمقامات الدينية في الرقة. هذا في سوريا أما في العراق فقد عمد إلى تدمير وحرق مكتبة الموصل وتفجير مئذنة الحدباء في العراق وجامع النوري والكنيسة الخضراء ومسجد النبي يونس ناهيك عن التنقيب السري (الذي أصبح علنياً) عن الآثار في سوريا والعراق وبيعها للمافيات والمتاجرة بها في الخارج . وما سيطرة القوات التركية على عفرين وتدمير قسم من آثارها إلا عمل مشابه لأعمال التنظيمات الإرهابية كداعش مثلاً في ممارساتها التعسفية في تخريب الآثار ونهبها، إذ لا تختلف سلوكيات القوات التركية كثيراً عن تصرفات الجماعات المعادية للإرث الحضاري بفكرها الهدّام .
ومما هو معلوم أن تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في اعتداءاته على المواقع الأثرية اتخذ طريقاً محدداً لتهريب المسروقات الأثرية بتهريبها نحو تركيا (على علم ودراية النظام التركي) ودول البلقان في أوربا الشرقية ومنها إلى أوروبا الغربية، كما استطاع التنظيم أيضاً أن يجعل من أوروبا الغربية وتركيا أكبر سوق تجاري للآثار المنهوبة من الشرق الأوسط. وعليه فإن سيناريو الإبادة التاريخية في تدمير المواقع الأثرية والمباني التاريخية والأماكن الدينية العريقة في سوريا أو العراق على أيدي عناصر تنظيم داعش يتكرر مرة أخرى في تدمير هذه المواقع الحضارية في منطقة عفرين على أيدي القوات التركية.
وقد نص قانون “الآثار القديمة” العثماني عام 1884 أنه: (لا يحق للأفراد أو الجماعات تدمير الآثار القديمة تحت أراضي الغير أو أراضيهم أو أمكنتهم ونقلها)، ومع ذلك فلا جدوى لهذه القوانين دون تنفيذها، إذ أن عبد الحميد الثاني 1876 ـ 1909 آخر سلطان عثماني قد عدّ الآثار القديمة عديمة النفع ما لم تكن من الفضة أو الذهب والرغبة الغربية بها حماقة يتعين استغلالها، إذ علّق في إحدى المرات قائلاً: (انظروا إلى هؤلاء الحمقى أُطيِّب خاطرهم بحجارة محطمة) . ونتيجة لذلك لم تكن معظم اللقى محمية على نحو مناسب، ففي إحدى الحالات أعدّ أمناء المتحف البريطاني ترخيصاً لـ (تشارلز فيلوز) من موقع ما، وفي الوقت الذي تروي فيه المؤرخة (جينيفر شو) أنه في غياب أية آلية لوضع حد ما، اتخذ فيلوز من هذا الأمر رخصة للتنقيب عن معبد برمته وترحيله إلى المتحف البريطاني. ومن هنا نكتشف هذا الطموح الهدّام للعبث بالتاريخ ومحاولات محو الهوية وإلغاء الآخر.
سياسة الإبادة التاريخية والجغرافية في الشمال السوري”عفرين نموذجاً”:
إن الاعتداءات التركية الأخيرة لا تدل إلا على وجود خطة ممنهجة للقضاء على التراث وكل مقومات الحضارة في الشمال السوري والوصول إلى محو الهوية والذاكرة، وما يدل على ذلك هو أن القصف الذي وقع على عفرين كان قصفاً جوياً وبرياً في مناطق تخلو من الأهداف العسكرية، ومن هنا نكتشف ما تصبو إليه هذه القوات من أجل تدمير البنى الأثرية وتغييب التاريخ مدفوعين باعتبارات عنصرية شتى .
وتعد منطقة شمال سوريا في المنطقة الممتدة ما بين جبل الشيخ بركات جنوباً وحتى الحدود السورية التركية شمالاً (منطقة عفرين) أكثر المناطق السورية غنىً بالمواقع الأثرية، إذ تحوي / 65 / خمسة وستين موقعاً أثرياً تعود لفترات تاريخية مختلفة و / 25 / خمسة وعشرين مزاراً دينياً وذلك حسب ما هو مسجّل ضمن لوائح الآثار السورية، لكن الأجمل ليس العدد فحسب بل التنوع التاريخي فيها، إذ يبدأ التاريخ فيها منذ حوالي مليون عام مع بداية ظهور إنسان الهوموأركتوس، كما لم ينقطع الاستيطان في هذه المنطقة حتى الآن، مما خلق تنوعاً تاريخياً ومزيجاً ثقافياً تعاقب عليها معظم الحضارات التي استوطنت المنطقة والتي تمتاز بالأصالة، وهذه المواقع الأثرية تتوزع على النواحي التالية: (جنديرس ـ معبطلي ـ راجو ـ عفرين ـ شران ـ شيخ الحديد) . لكن الجدير بالذكر أن هذا العدد من المواقع الأثرية هو العدد الأولي حسب الإحصائيات الخاصة بمصلحة الآثار السورية، إذ أن هناك العشرات من المواقع الأثرية لم يتم تسجيلها أو التنقيب فيها أو إدراجها على قائمة الآثار السورية.
كما أن هناك تعديات على مواقع أثرية تتمثل بالسرقة وتخريب محتويات الموقع الذي تزامن مع القصف التركي له، فيما بقي موقع كهف الديدرية بحالة جيدة كونه لا يتألف من بنى معمارية وانحصرت السرقات في الكهف فقط في الحديد والخشب الذي كان عبارة عن حماية لبوابة الكهف ومكان التنقيب .
وإن أردنا استعراض ما قامت به القوات التركية في الشمال السوري فإنه لا يتسع المجال هنا لرصد سياساتها التعسفية في المنطقة ولكن سنركز على بعض ما قامت به:
أ ـ سياسة التتريك الجغرافية وتشويه الأصول:
يطلق مفهوم التتريك على عملية تحويل أشخاص ومناطق جغرافية من ثقافتها الأصلية إلى التركية بطريقة قسرية أو بالإكراه أو الإجبار والقهر غالباً.
إن الحلم التركي في اتباع منهجها من أجل محو الهوية وانتزاع تاريخ المنطقة في الشمال السوري قد أصبح حقيقة في منطقة عفرين وما يجاورها، لكنه يبقى حلماً. وسيبقى الواقع واقعاً تاريخياً مهما حاولوا تشويه الحقائق. إذ قام النظام التركي الهادف إلى الإلغائية بتغيير أسماء المناطق للتركية، إذ أصبحت جرابلس تدعى بكركميش، وتحولت مدينة الراعي إلى”جوبان باي” وأضحت قرية جب الدك “قنقوي” كما قامت بتغيير اسم مسجد الكرد إلى”مسجد الأتراك” على الرغم من أن جميع السجلات التاريخية تُشير إلى أن اسم المسجد الرسمي والتاريخي هو”جامع الكرد” ولم تكتفي السلطة العسكرية بالتغيير ليرافقها أيضاً الإعلام بإطلاق اسم “بايربوجاق” على جبل التركمان في ريف اللاذقية. بالإضافة إلى الكثير الكثير من المواقع والبلدات التي تم تغيير أسمائها .
ب ـ حدث في عين دارة:
يتألف هذا الموقع الأثري الهام من جزءين: الأول يعود بتاريخه إلى العصر الحجري الحديث (النيوليت) أي ما بين نهاية الألف التاسع وحتى بداية الألف الثامن قبل الميلاد، حيث أظهرت التنقيبات الأثرية فيه عن وجود مستوطنة زراعية عثر فيها على العديد من الأدوات الحجرية الصوانية التي كان يستخدمها الإنسان القديم، في حين أن الجزء الثاني هو المعروف بتل عين دارة والذي تزيد مساحته عن (7.5) كم2، يتربع عليه معبده المعروف في أقصى شمال التل، والذي كُرِّس لعبادة الربة عشتار ورب الجبل أو إله الطقس في آن واحد.
وعلى الرغم من أن معبد عين دارة بعيد نسبياً عن الاشتباكات العسكرية إلا أن الهدف هو محاولات لطمس التاريخ والمعالم والهوية، وحيث أنه لم يتم الانتهاء من أعمال التنقيب الأثري بشكل كامل في الموقع، ولولا ما حصل من تدمير وغياب للسويات الأثرية الهامة فيه لاتضح لنا في المستقبل سويات أثرية قد تكون أكثر أهمية في تأريخ المعبد وكشف طبقاته.
وعلى ما يبدو أن ثقافة التخريب أو الدمار مرتبطة بأعداء الحضارة الإنسانية، إذ أن قصف وتدمير هذا المعبد ما هو إلا محاولات لطمس معالم الوجود الإنساني وإلغاء التاريخ في هذا المكان، لكن ما حصل هو انتهاك واعتداء ليس فقط على موقع أثري وإنما هو اعتداء على كل المواثيق الدولية والإنسانية التي تحظر قصف المواقع الأثرية في حالات النزاع، هذه الضربات التركية التي طالت الموقع الأثري قامت فعلياً بتدمير أكثر من (50) % منه، ولم يتبقى منه قائماً إلا الشيء القليل، كما لم تَسلم قطعة واحدة من التزيينات الجدارية أثناء القصف، علماً أن هذا الموقع مع العشرات من المواقع الأثرية القريبة منه قد اعتمدتها منظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم) ضمن المواقع الأثرية المهددة بالخطر، ويذكرنا تدمير معبد عين دارة بتدمير تنظيم داعش لمعبد بل في تدمر في شهر آب من العام 2015، إذ أن معبد عين دارة لا يقل أهمية عن معبد بل، ليس هذا فحسب بل أنه أقدم من معبد بل أيضاً. ويتميز هذا المعبد بمنحوتاته النادرة من الحجر البازلتي والذي تم اكتشافه عام 1982، كما يعد تل عين دارة ذو المساحة البالغة / 50 / خمسين هيكتاراً أحد أهم مدن مملكة بيت آغوشي الآرامية، وقد يكون عاصمتها. كما لا يعبر هذا الهجوم الغاشم على التراث السوري إلا عن مدى الحقد والكراهية تجاه الهوية السورية عامة ومنطقة عفرين خاصة وما هو إلا تعدي على ماضي الشعب السوري العريق فيها.
ج ـ ماذا حصل في براد:
ومرة أخرى يطال التدمير التركي الممنهج الإرث المسيحي المشرقي في براد، بل هو لا يمكن أن يكون إلا إرهاب دولة تجاه إرث مسيحي فريد في الشمال السوري. إذ أن تدمير ضريح القديس مارون في قرية براد التي تعد موقعاً أثرياً مسيحياً له قيمته التاريخية والدينية والذي يعد محجّاً لأكثر من ستة ملايين مسيحي ماروني من كل بقاع العالم. ففي استهداف همجي تركي تم قصف موقع براد الأثري الذي يبعد 15 كم جنوب مدينة عفرين، مع العلم أن هذا الموقع مسجل على لائحة مواقع التراث العالمي (اليونسكو) منذ عام 2011، والتي تعتبر من أقدم الكنائس المسيحية في العالم، بالإضافة إلى عدد من الكنائس والأديرة البيزنطية ومدافن وحمام ومعبد كلها تعود للقرنين الثاني والثالث قبل الميلاد عدا الدور السكنية التي طالها الاستهداف. وعلى الرغم من أن إقامة أهالي القرية ليست منفصلة عن الموقع الأثري إلا أن القوات التركية قامت بقصف الموقع وتدمير ضريح القديس مار مارون وكنيسة جوليانوس، علماً أن الأهالي قد هربوا من القرية قبل بداية القصف عليها مما يدل على أن المستهدفين ليس فقط الناس المقيمين في القرية بل حتى آثارها.
وكما هي عادة المعتدي بعد تعديه ينفي إثبات جريمته إلا أن الدلائل جميعها تشير إلى هذا الاعتداء، حيث قال شهود عيان أن الغارات الجوية التركية استهدفت ضريح مار مارون وكنيسة جوليانوس وهما إرثان تاريخيان يعودان للقرن الرابع الميلادي، علماً أن هناك / 32 / اثنان وثلاثون موقعاً أثرياً مسجلة على لائحة التراث العالمي حسب اليونسكو.
إن سيطرة القوات التركية على قرى عفرين وتهجير أهلها ما هي إلا مساعي تقوم بها كحملة تغيير ديموغرافية مكان ذات نطاق واسع في الشمال، وبهذه الحالة فإن هذا العمل سيؤسس لصراعات طويلة الأمد وفتن عرقية يهدف إلى إلغاء السكان الأصليين للمنطقة مثلما يهدف إلى التلاعب بمستقبل الأجيال الناشئة في المنطقة.
بالإضافة إلى العديد من المواقع الأثرية في المنطقة مثل موقع النبي هوري (سيروس) والعديد من المواقع السياحية التي تتميز بها منطقة عفرين.
دعوة للمحاسبة:
لقد اتفق المجتمع الدولي على بيان مسؤوليات مرتكب الإجرام العدائي تجاه الممتلكات الثقافية ودعوة الدول لاحترام قواعد المسؤولية، ومن هذا المنبر الثقافي فإننا نوجه دعوة باسم الإنسانية جمعاء للمجتمع الدولي بتحمل مسؤوليته تجاه هذه الجرائم الثقافية، فإننا أيضاً ندعوه لمحاسبة مرتكبيها وذلك وفقاً لمواد المواثيق والاتفاقيات التالية:
1 ـ المادة / 56 / من لائحة لاهاي المتعلقة بقواعد وأعراف الحرب البرية لعام 1907: اتخاذ الاجراءات القضائية ضد من يقوم عمداً بتدمير أو إتلاف المؤسسات المخصصة للعبادة أو الممتلكات الفنية والثقافية والعلمية والآثار التاريخية، دونما تحديد لطبيعة الإجراءات الملحقة القضائية هل هي جنائية أم مدنية، وطنية أم دولية.
2 ـ المادة / 28 / من اتفاقية لاهاي عام 1954: تعهد الدول الأطراف باتخاذ الإجراءات في تشريعاتها الجنائية التي تكفل المحاكمة للمخالفين أحكام الاتفاقية أو يأمرون بمخالفتها.
3 ـ البروتوكول الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف: إقرار التكييف القانوني لانتهاك حماية الممتلكات الثقافية المحمية، باعتبار شن الهجمات عمداً على الممتلكات التاريخية والثقافية وأماكن العبادة والأعمال الفنية.
4 ـ البروتوكول الثاني لعام 1999 (المواد 15 ـ 21): والتي تتضمن إلزام الدول الأطراف اعتبار الجرائم المنصوص عليها في المواد المذكورة جرائم بمقتضى القانون الداخلي، وفرض العقوبات على مرتكبي هذه الانتهاكات في إطار مبادئ القانون العام والقانون الدولي .
وإذ تتعرض المواقع الأثرية والمباني التاريخية ومجمل الممتلكات الثقافية للاعتداءات المتعددة، فممن الواجب استشعار المسؤولية الوطنية لدى الأهالي لما لهذه الآثار من أهمية تاريخية. إذ أن هذه المسؤولية لا تقتصر على العاملين في مجال الحقل الأثري وإنما هو واجب الجميع بدون استثناء.
المراجع
1 ـ سليمان، أيمن: التصدي للإتجار غير المشروع بالآثار ـ ورقة عمل”صندوق التراث في حالات الطوارئ “اليونسكو ـ نيسان 2018 ـ بيروت.
2 ـ فاطيمة، حمادو: الحماية الدولية للآثار أثناء النزاعات المسلحة ـ مجلة الدراسات الحقوقية ـ المجلد الرابع ـ العدد 1 ـ مكتبة الرشاد للطباعة والنشر ـ الجزائر.
3 ـ الكواكبي، سلام ـ الجباعي، جاد الكريم ـ إلياس، د. ماري ـ نجمة، راما: عن العمل الثقافي السوري في سنوات الجمر ـ دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ـ 2016.
4 ـ رثفيلد، لورانس: اغتصاب بلاد الرافدين ـ ترجمة: هيثم رشيد فرحت ـ 2016.
……………………….