د. أحمد الخليلكتاب الموقع

الكُردي ضِيا گُوك أَلْپ فيلسوف (القومية التركية)

د. أحمد الخليل

د. أحمد الخليل

أحمد خليل
أحمد خليل

ولد محمد فاتح ضِيا في مدينة چَرْمِك Çermik التابعة لولاية آمَد (دياربكر) يوم 23 أكتوبر 1876م، وهو من كُرد زازا، واسم أبيه محمّد توفيق أفندي، واسم والدته زَليخة خانم. والجدير بالذكر أنّ مدينة آمَد ورثت اسمها من الميديين (ميد/ماد/مَد)، وهم فرع من أسلاف الكُرد، أمّا (دياربكر) فكان اسماً للمنطقة الإدارية التابعة لولاية آمَد في العهود الإسلامية قبل العهد العثماني، وحينما احتلّ العرب المسلمون منطقة آمَد جعلوها مراعي خاصة لقبائل بَكْر، فسمّيت (ديار بكر)، وفي العهد العثماني حلّ اسم (ديار بكر) محلَّ اسم (آمد) في الوثائق الرسمية وفي المراجع.

وقد بدأ محمد ضِيا دراسة العلوم الدينية التقليدية والتصوّف، ودرس اللغة العربية واللغة الفارسية عند عمّه المدرّس حاجى حسيب بگ، وفي سنة 1981، تعرّف في آمَد على عبد الله جَوْدَت بگ، وهو طبيب ومفكّر وشاعر كُرديّ، من مؤسّسي جمعية (الاتحاد العثماني) سنة 1889، وكانت مناهضة للسلطان عبد الحميد الثاني، وتأثّر محمد ضِيا بأفكاره، وجدير بالذكر أنّ هذه الجمعية أصبحت بعدئذ باسم (جمعية الاتحاد والترقّي)، وقامت بانقلاب 1908، وأجبرت السلطان عبد الحميد الثاني على التنازل عن السلطة لأخيه محمد رشاد سنة 1909م، ثمّ انسحب عبد الله جَوْدَت من الجمعية، بعد أن أصبحت حركة شوفينية معادية للقومية الكُردية.

وكان محمد ضِيا يريد استكمال دراسته في إستنبول، فلم يستطع بسبب الأزمة المادّية (المالية)، وضغطت عليه عائلته ليتزوّج، فأقدم على الانتحار وهو في الثامنة عشرة من العمر (حوالي سنة 1891)، وأطلق رصاصة على رأسه، وأجرى له الطبيب عبد الله جودت، مع جرّاح روسي كان في آمَد، عملية جراحية بدون تخدير، واستخرجا الرصاصة من رأسه. وفي سنة 1891 نفسها بدأ محمد ضِيا دراسته في المدرسة الثانوية العسكرية في آمد، وتوفّي والده بينما كان في عامه الدراسي الأخير.

وفي سنة 1896، انتقل محمد ضِيا إلى إستنبول، وكان أخوه نِهاد طالباً في مدرسة أَرْزَنْجان العسكرية، فساعده على أن يدرس في مدرسة الطب البَيطري، لأنّ الدراسة فيها كانت مجّانية، وفي إستنبول التقى بكل من إسحاق سكوتي (كُردي من آمَد)، وإبراهيم تيمو (من أصل أرناؤوطي/ألباني)، وكانا من أعضاء جمعية (الاتحاد العثماني) التي سبق ذكرُها، وكانت جمعية سرّية، تنشط في الكلية الطبية العسكرية، وأصبح محمد ضِيا عضواً فيها، وفي سنة 1898 اعتُقل بسبب نشاطه السياسي السري الممنوع، وسُجن عشرة أشهر، وقيل: سُجن مدّة سنة.

وبعد إطلاق سراحه، نُفي محمد ضِيا إلى آمَد سنة 1900، من غير أن يستكمل دراسته في الطبّ البيطري، وتوفّي عمّه حاجى حسيب بگ، وتزوج ابنة عمه؛ وجيهة خانم بناءً على وصيّة عمّه، وأنجب منها ابناً اسمه؛ (سادات)، وثلاث بنات؛ هنّ (سانيها، حرّية، تُوركان). وعمل في وظائف متدنّية حتى سنة 1908، وكان يعيش حياة رغيدة معتمداً على ممتلكات زوجته، وكان يمارس نشاطاته السياسية سرّاً.

وبعد نجاح ثورة سنة 1908 التي قامت بها (جمعية الاتحاد والترقّي)، وإجبار السلطان عبد الحميد الثاني على إصدار الوثيقة الدستورية الثانية، اتّخذ محمد ضِيا الاسمَ الرمزي (گُوك أَلْپ) Gökalp، وهو اسم تركي مؤلف من مقطعين (Gök أي: سماء) و(alp أي: بطل)، ومعنى الاسم؛ (بطل السماء/المحارب السماوي)، وصار يُعرَف باسم (ضِيا گُوك أَلْپ) أو (زِيا گُوك أَلْپ).

وقد أسّس ضِيا گُوك أَلْپ فرعاً لـ (جمعية الاتّحاد والترقّي) في آمَد، وأصدر جريدة (بايمن)، وفي سنة 1909 حضر مؤتمر (الاتحاد والترقي) المنعقد في سالونيك كمندوب عن آمَد، واختير عضواً في هيئة إدارة فرع الجمعية في سالونيك، وأصبح رئيس القسم الخاص بأمور الشباب في ذلك الفرع، وقام بتدريس الفلسفة وعلم الاجتماع للشباب.

وخلال ذلك كتب ضِيا گُوك أَلْپ مقالات عديدة في مجلة فلسفية، وركّز على ضرورة تأسيس دولة تركية قوية، تجمّع الأتراك في العالم أجمع. وفي سنة 1912، نُقلت إدارة الجمعية إلى إستنبول، وانتقل إليها ضِيا گُوك أَلْپ، واختير نائباً في مجلس النوّاب عن مدينة مادَن (مَعْدَن) التابعة لولاية آمد، وحينما أُقفل مجلس النواب بعد أربعة أشهر عمل مدرّساً في كلية الآداب بجامعة إستنبول.

وفى الفترة بين (1913 – 1914)، لم يقبل ضِيا گُوك أَلْپ تعيينه موظفاً في وزارة التربية والتعليم، واستمرّ يدرّس في الجامعة. وفي سنة 1915 عُيّن مدرساً لعلوم الاجتماع في قسم الفلسفة بجامعة إستنبول، وبفضله دخل تدريس علم الاجتماع إلى تلك الجامعة أول مرة.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وسيطرة (الحلفاء) على إستنبول، اعتقل الإنكليز ضِيا گُوك أَلْپ أربعة أشهر سنة 1919، وحوكم بتهمة (إبادة الأرمن)، ونفى ضِيا گُوك أَلْپ تلك التهمة، ونُفي مع بعض زملائه من جمعية (الاتحاد والترقّي) إلى جزيرة مالطا، وبقي في المنفى سنتين، قام خلالهما بتعليم زملائه الفلسفةَ وعلمَ الاجتماع، وطوّر أفكاره الخاصة بـ (القومية التركية) Turkism، وعاد إلى تركيا في ربيع سنة 1921، لكن لم يُسمَح بالعودة إلى التدريس في جامعة إستنبول، فعاد إلى مدينة آمَد، وشرع يدرّس علم الاجتماع وعلم النفس في المدارس الثانوية، وبدأ بنشر بعض كتاباته في الصحف اليومية الرئيسة في إستنبول وأنقرة.

وفي نهاية سنة 1922، استُدعي ضِيا گُوك أَلْپ إلى أنقرة للإشراف على إدارة لجنة التأليف للترجمة والنشر في وزارة التربية والتعليم، وبدعم من مصطفى كمال آتاتورك عُيّن نائباً في الجمعية الوطنية الكبرى الثانية، وعمل في لجنة التعليم الخاصة بإصلاح النظام المدرسي، وفي المناهج الدراسية، إضافةً إلى المشاركة في صياغة دستور سنة 1924، وترجمةِ بعض الموضوعات الثقافية إلى اللغة التركية، وتوفّي في 25 أكتوبر 1924، ودفن في مقبرة السلطان محمود الثاني.

فيلسوف القومية التركية

عُرف ضِيا گُوك أَلْپ بأنه «أبو القومية التركية»، وفي سنة 1936 وصفه عالم الاجتماع التركي نيازي بركس Niyazi Berkes بلقب «المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع التركي»، تُرى، كيف أصبح هذا الكُردي فيلسوفَ (القومية التركية)؟

تأثّر ضِيا گُوك أَلْپ بالفكر الأورپي الحديث، ولا سيّما بأفكار عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم Émile Durkheim (1858 – 1917)، وترجم مؤلفاته إلى التركية، وقد توصّل إلى الاعتقاد بأن الليبرالية الأورپية- كنظام اجتماعي- لا تحقق التماسك الوطني، بل تشجّع الفردية والانعزالية، وتقلّل من دور الدولة في تنظيم حياة المجتمع، وأنّ حياة الجماعة أهمّ من حياة الفرد، حسبما كان دوركهايم يرى أيضاً.

ورفض ضِيا گُوك أَلْپ مبدأ (الرابطة العثمانية) ومبدأ (الرابطة الإسلامية)، ودعا إلى (القومية التركية) والهويةِ الطورانية، وتتريكِ شعوب الإمبراطورية العثمانية، وذلك  بتعزيز اللغة التركية والثقافة التركية لدى المواطنين العثمانيين. وبعد عودته من المنفى في مالطا إلى إستنبول، أصبح من مؤسّسي «ترك أوجاغى» أي (العرق التركي)، وفيلسوف (الآيديولوجيا التركية العالمية) أي (پان- طوران) Pan-Turanianism ، ودعا إلى (عَلمنة تركيا) فكرياً، وكان يؤيّد مصطفى كمال آتاتورك بقوة وحماس، وأُعجب آتاتورك بأفكاره، وحوّلها إلى سياسات عنصرية، وكان الكُرد أكثر ضحاياها.

ومن أفكار ضِيا گُوك أَلْپ أنّ هوية الأمة لا تتأسّس على الانتماء إلى العِرق الواحد، أو على وحدة الجغرافيا، ولا على الإرادة السياسية، وإنما تقوم على المشترَك الديني، والأخلاقي، والثقافي، ورأى أنّ كلّ هذه الأسس تتشكّل بتأثير التربية، وقد قال: «تعلّمت من خلال دراستي السوسيولوجية أن الجنسيّة تعتمد على التربية قط».

واعتقد ضِيا گُوك أَلْپ أنّ الأمّة يجب أن يكون لها «وعي مشترَك» كي تبقى، وأن الفرد يصبح مواطناً أصيلاً في أمّته من خلال تجسيد ثقافتها. واعتقد أيضاً أنّ الشعب في الدولة الحديثة يجب أن يصبح متجانساً من حيث الثقافة والدين والهوية القومية، وكتب في مقال له سنة 1911 أن «الأتراك هم الشعب السوپرمان، يقصد الإنسان الأعلى (المتفوّق) الذي ذكره الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche  (1844 – 1900) في كتابه «هكذا تكلّم زرادشت».

ودعا ضِيا گُوك أَلْپ إلى ثقافة التنوير الأورپية، وإلى الحرية الدينية، وتنبّأ في سنة 1900 بزوال الدولة العثمانية، ودعا بقوة الي إلغاء الشريعة وإقصاء المحاكم الدينية عن شؤون المجتمع، وإحلالِ المحاكم المدنية الحديثة محلَّها. وإنّ من يدرس سيرة آتاتورك السياسية يجد أنّه تبنّى جميع أفكار گُوك أَلْپ، وحوّلها إلى سياسات في الدولة التركية.

ولم يكن ضِيا گُوك أَلْپ مفكّراً في علم الاجتماع فقط، بل كان شاعراً بارزاً، ووظّف شعره لخدمة آيديولوجيا (القومية التركية)، ولإحياء النمط الشعري التركي ما قبل الإسلام. وفي سنة 1911، قال في قصيدة له بعنوان (طوران):

«بالنسبة للأتراك، الوطن يعني لا تركيا ولا تركستان.

الوطن هو بلد كبير والأبدي – طوران».

وفي سنة 1923، أي قبل وفاته بسنة، أصدر ضِيا گُوك أَلْپ أفكاره بشأن (القومية التركية) في كتابه: «مبادئ التركية»، ويرى عدد من المؤرخين وعلماء الاجتماع أن أفكاره ساهمت في عمليات (الإبادة الجماعية للأرمن)، وكان المفكّر السوري ساطِع الحُصَري ممّن تأثّر بأفكار گُوك أَلْپ، وجدير بالذكر أن ساطع الحصري هو أبرز المفكرين القوميين العرب في النصف الأول من القرن العشرين.

وقد أنجز گُوك أَلْپ حوالي أربعة عشر مؤلّفاً، منها: «الضوء الذهبي»، و«التقاليد التركية»، و»الطريق الصحيح»، و»مبادئ القومية التركية»، و»تاريخ الحضارة التركية»، و»القومية التركية بين الإسلام والمعاصرة»، و»تاريخ القبائل الكُردية»، و»التفاحة الحمراء- شعر»، و»ملحمة الازدهار»، و»الثقافة والحضارة».

هذه سيرة أحد المفكّرين الكُرد الذين تنكّروا لهويتهم الكُردستانية، وأداروا ظهورهم للقضية الكُردية الأساسية (وطنٌ محتلّ، وشعبٌ مستعمَر)، وليس هذا فحسب، بل إنّه أصبح فيلسوف القومية التركية بصيغتها الشوفينية، وأصبحت فلسفته بلاءً على الأمّة الكُردية، وما زال الكُرد إلى الآن يعانون من السياسات التي أنتجتها تلك الفلسفة. وهذه واحدة من الغرائب العديدة في تاريخ كُردستان.

 

المراجع:

 

–              جوناثان راندل: أمة في شقاق، ص 352 – 353.

–              گراهام ڤاولر وآخرون: القضية الكوردية في تركيا، ص 16.

  • Turkay Salim Nefes ‹Ziya Gökalp’s adaptation of Emile Durkheim’s sociology in his formulation of the modern Turkish nation› International Sociology May 2013 vol. 28 no. 3 335-350.
  • Taha Parla: The social and political thought of Ziya Gökalp : 1876 – 1924. Leiden 1985
  • Mihran Dabag: Jungtürkische Visionen und der Völkermord an den Armeniern, in: Dabag / Platt: Genozid und Moderne (Band 1), Opladen 1998. ISBN 3-8100-1822-8
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى